الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 20:01

نقاش في نظرية الوشاية وهيمنة الاشاعة

بقلم: أمير مخول

أمير مخول
نُشر: 25/09/21 07:28,  حُتلن: 11:05

من المفيد عند قراءة حدث عظيم الأثر مثل نفق الحرية، ان نلتفت الى عظمة اللحظة والرسالة، وهذا ما تمّ لغاية الآن، وفي المقابل من الضروري ايضا الالتفات الى بعض المَظاهر المرافقة لردود الفعل والتعامل مع بعض تجلياتها بشكل نقدي. سوف اتوقف هنا على اعتماد الشائعة والتي أرى أن مصدرها الاعلام الاسرائيلي العدائي، والاخرى وهي الاخطر بنظري والتي لاقت تعبيرا محدودا عنها (رغم التهويل لها) في خطاب "التخوين" وهو ايضا مبني على الدعاية الاسرائيلية، وسهولة التحول اليه والى الخطاب الطائفي وأحيانا العنصري داخليا.


لقد مررنا مرّ الكرام على سهولة اتهام عائلة نصراوية بالخيانة والوشاية، انتهى الموضوع الاعلامي الشعبي، وجاءت رواية المُحرَّرين النافية، ورغم ذلك بقيت العائلة، والتي لا أعرف عنها شيئاً، تعاني من الوصمة دون أية التفاتة. وحتى وإن قام ممثلها ببث تسجيل ينكر فيه كل ما ورد من اتهامات، فلم يكترث أحد، فالشائعة تحوّلت الى أم البيّنات. سرعان ما انتشر خطاب التخوين بوتيرةِ تَسارُعِ الشائعات في عصر الفيسبوك والتيك توك، وبات الامر وكأنّ الناصرة في خانة الاتهام، وأصدر البعض لوائح اتهام جماعية بحق فلسطينيي الداخل. وبسرعة فائقة انتقلت الحالة من نشوة انتصار الى اتهام ذاتي والى التفتيش عن "الخائن". قد يكون افراد سواء مغرضين ام لا، قد بادروا الى الاتهام، وقد يكون للمؤسسة الاستخباراتية الاسرائيلية ضلع في ذلك باعتمادها اسماء مستعارة مضلِّلة على منصّات التواصل الاجتماعي، هذا وجرى تضخيم حجم المروّجين كما لو كان ظاهرة مميّزة للحالة العامة.
كان مصدر خبر "الوشاية" من التلفزيون الاسرائيلي. شخصيا كنت في تلك الايام الصاخبة أتابع على مضض احد اكثر البرامج الاخبارية فظاظةً بادارة أحدى اهم الاعلاميين الاسرائيليين ايالاه حسون، والتي خلقت الانطباع كما لو كانت تجلس مع محمود العارضة ورفاقه وهم يهندسون النفق. وأنها ومراسلوها يعرفون كل شيء، حتى اسماء "الوشاة" الذين اعتمدوا شخوصهم كي يكتمل المشهد كما تشتهيه المؤسسة الاعلامية. وعن "الوشاية" قررت المؤسسة الاعلامية الاسرائيلية ان احد افراد عائلة نصراوية يخدم في الشرطة وكان، وبقدرة قادر، أوّل من طرق بابَه الاحرارُ ليطلبوا ماءً وطعاما وهم مرهقين، ولو استطاع الاعلام ان يقول "ليتسوّلوا" لفعل، فإعلام الحرب لا يتورع كما دولته عن شيء. وبثّ الاعلام أنّ هذا الشخص هو من وشي بهما للشرطة! ودعوا الى حمايته من غضب الناس. لن اتوقف عند الاعلام العدائي ولا معركة الرواية التي ابتدعوها امام انتصار فلسطيني. فقد تمت الكتابة عن ذلك، وإنما ما يستوقفني في هذا النص، هو مسألة "التخوين".
منذ دخول المشروع الصهيوني الى ارض فلسطين سعى الى تجنيد عملاء له، وتعزز الامر بعد العام 1948، فقد اعتمدت اسرائيل العمالة والافساد كسياسة، فكان الوشاة وكان الأذناب وكان المُخبرين ومع الوقت تطور مفهوم العملاء خاصة في المناطق المحتلة عام 1967. هكذا فعلت أيضا فترة احتلالها لجنوب لبنلن إذ أقامت جيشا من اللبنانيين يخضع لقيادة اركانها، وهكذا فعل كل استعمار والمثال الابرز كان الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وقد انتقل معظم عملائه للعيش في فرنسا بعد انتصار الجزائريين في حرب التحرير. كما نقلت اسرائيل الاف العملاء الذين شغّلتهم ليعيشوا داخل "الخط الاخضر" في اعقاب قيام السلطة الفلسطينية في التسعينات.


في الانتفاضة الثانية، ولكونها تحوّلت الى مسلّحة ونتيجة لسقوط الاف الشهداء الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، واتساع نطاق المطاردات لهم والحاجة الى اللجوء الى مأوى يحميهم خلال اقتحامات جيش الاحتلال، ومن ثم الخروج لمواجهته، فقد تعاظمت الحاجة الى كتمان السرّ لعدم الكشف عن اماكن تواجدهم، وكان دور اساسي في ذلك للامهات المؤتمنات على سلامة ابنائهن ورفاقهم وكأنهم أبناءها، مقابل العملاء الذين شغّلهم الاحتلال. فقد انتشر بشكل خطير خطاب التشكيك والتخوين، والذي تبعته اعمال تصفية. نتج ذلك عن ضائقة وضرورة، لكنه تحوّل مع الوقت الى مناحٍ راح ضحيتها الابرياء الذين قتلوا على اساس الشك او الافتراض او تصفية الحسابات الشخصية. هذا تعلمته ايضاً من مناضلين اسرى الانتفاضة الثانية الذين التقيتهم في السجن وكانت علاقتنا متينة، وغالبيتهم من كتائب شهداء الاقصى، الذين استشهد زملاؤهم، بينما هم صدرت بحقهم أحكام احتلالية بالسجن المؤبد مدى الحياة. لقد انطبعت في ذهني عميقاً، قصة البعض منهم دون ذكر العدد والبلدة، وكيف انهم التواقون للحرية، متصالحون مع أنفسهم فيما يتعلق بالسجن جراء مقاومتهم، وكانوا يدركون ان مصيرهم سيكون اما الشهادة واما السجن مدى الحياة. قام بعض هؤلاء خلال مقاومتهم للاحتلال بقتل امرأة "عميلة للاحتلال"، وتبيّن لهم فيما بعد أنها امراة وطنية ولا علاقة لها بالعمالة لا من قريب ولا من بعيد. يملؤهم الندم فقط تجاه هذه القضية وليس تجاه الحكم مدى الحياة، وكان يكفيهم ألتشكيك والشائعة للقيام بذلك. ومثل هذه الحالة انتشرت بشكل كبير وبأشكال مختلفة حتى داخل الحركة الاسيرة، وهي واحدة من حالات مأساوية متكررة، تغذي ذاتها وتأخذ منحى ملاحقة العدو الداخلي من باب الظنّ، بدلا من العدو الحقيقي، ويصبح الاحباط والاخفاق مسيطرين.
اعتقد بوجود حاجة الى دراسة تخصصية في مجال علم النفس الاجتماعي لتشخيص السلوك والحالة المعنوية التي رافقت النفق. إذ ربما بنينا من نفق الحرية اسطورة بسرعة فائقة، وهذا حقّ وشرعي وإنساني وهو شعور كل الناس، وبالذات امام الاختلال الهائل في توازن القوى. لكن كان نوع من التقليل من قدرة الاحتلال ودولته، وقد تكون الشائعة والاتهام والتخوين نمت على هذه الخلفية. أو انّ الطبيعة البشرية في حالة التوتر القصوى او النشوة بالامل او السعي الى حماية المحرَّرين الستة ولو في مخابيء الوجدان، تكون هي الارضية السهلة نسبيا لانتشار الاشاعة وتصديق حتى انباء تلفزيون بلاط القهر الاسرائيلي.


التحريض على الطائفة الدرزية
من المبالَغ فيه الحديث عن أجواء فتنة طائفية داخل مجتمعنا، هناك مظاهر صحيح، لكن مجتمعنا لم يكن يوما منظما على اساس طائفي ولا على اساس تناحري. أحد الادلة لذلك هو ان اسرائيل سعت الى إثارتها كي تقطف ثمارها بالهيمنة والسيطرة وتفكيك المجتمع الفلسطيني. وفي هذا السياق سعت – كمشروع دولة – الى فصل الدروز عن العرب، بعد أن فرضت عليهم الخدمة العسكرية الإجبارية. ومن ثم الفصل في منهاج ومنظومة التعليم، وكذلك في الثقافة، في مسعى تآمري تاريخي على الدروز ضمن مسعى تآمري على كل الوجود العربي الفلسطيني في البلاد.
منذ اللحظة الاولى لتفعيل قانون الخدمة العسكرية، ظهرت مقاومته والسعي لإبطاله. وهناك حركة مقاومة تاريخية ومؤثرة لهذا النهج السلطوي ولسالكي دربه. وهناك محاربة للتجنيد القسري الالزامي ، وهناك الكثير ممن دفعوا ويدفعون ثمن هذا الموقف بالسجن والملاحقات. وهناك من هم في طليعة ادب المقاومة وفي المؤسسات الوطنية وهناك لجنة المبادرة الدرزية وحركة المعرفيين الاحرار، وحركة التواصل، وحراك أرفض شعبك بحميك، كما وهناك الروابط الاجتماعية العميقة والاصيلة التي تميّز مجتمعنا بمختلف فئاته وطوائفه والتي تبقى الاساس الأقوى.
لقد جرى تكرار الفرية المغرضة باتهام االطائفة الدرزية بـ"الخيانة"، هكذا بجرّة قلم، ومن يوزّع الشهادات لا يكترث للإساءة ولا للضرر ولا للنتائج فهو سيد صفحته في الفيسبوك، ومنها يمسك بناصية الاخلاق كما يراها، حتى حين يبث مواقف عنصرية تمس بطائفة، وعمليا يمسّ بكل مجتمعنا الفلسطيني.
أن كل جندي في الجيش الاسرائيلي، يهوديا كان أم عربيا، هو في نهاية الامر جندي جيش الاحتلال وكل شرطي هو شرطي قمع وكل من يتطوع بالخدمة القومية يخدم القومية اليهودية وكل طبيب في سجن هو سجان، وهذه السمات لا تنتج بالضرورة عن سمات الشخص وإنما عن سمات المؤسسة العدوانية التي يخدم فيها.
ان دورنا جميعا في هذه المسائل هو دور سياسي شعبي، ودعم واسناد من يرفضون الخدمة العسكرية الالزامية، فهذه ليست شأنهم الفردي، بل واجب كل القوى الوطنية، والسعي الى الغاء احلال قانون التجنيد الاجباري على الدروز وجزء من التجمعات البدوية، والى مواجهة ظاهرة التجند الطوعي من شبّان وفتيات عرب من مختلف الطوائف والفئات.
لكن الاهم عدم الاكتفاء بالتنديد وبيانات الاستنكار مع الحذر من حالة هلع تخدم العابثين بتعظيم أثرهم النسبي. بل ان تنطلق الحركة الوطنية على تعدديتها ومشاربها، كما موقفها الحقيقي، لكن مع تكثيف ذلك، الى تحمّل المسؤولية تجاه هذه المظاهر ومنع تفشيها من جهة، وفي المقابل وهذا الاساس، الى المبادرة الفعلية لطرح موضوع الشرخ الكبير الذي احدثته المؤسسة الصهيونية الحاكمة، سواء مناقشته جريئة على مستوى الاحزاب والحركات ام على مستوى لجنة المتابعة في كيفية تحمل المسؤولية عن كل المجتمع بكامل فئاته ومركباته. وملاءمة بنية مؤسساتنا لهذا الغرض. إنها مسؤوليتنا جميعا وليست مسألة الدروز وحدهم كما ان شأن مسلمي البلاد ليس شأنهم وحدهم ولا شأن المسيحيين محصور بهم. ولا شأن شعبنا محصور بهذه الفئة او تلك. بل بالحالة الوطنية الجامعة المنظَّمة والشعبية وغير المنظمة والجماعية والفردية.


للخلاصة، في هبة الكرامة في ايار تفاجأت الدولة ومنظومتها الامنية القمعية من امرين، الاول هو سرعة انتشار الاحتجاجات في الداخل الفلسطيني والتصدي للعدوان الاسرائيلي على شعبنا وتحوّل الداخل الى جبهة إضافية وهذا ما عبّر عنه القائد العام للشرطة الاسرائيلية، أما الجانب الاخر فكانت سعة وقوة التحام الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل مع كل شعبها وسلوكها كشعب، والتحام معظم شرائح جماهير شعبنا بمن فيها تلك التي لم تشارك من قبل في العمل الشعبي السياسي. لم تمض سوى أشهر قليلة حتى اعتمدت المؤسسة الحاكمة من خلال إعلامها، بالدفع المكثّف لنشر الشائعات والتحريض الطائفي، وذلك في مسعى للتصدي الاسرائيلي لملحمة نفق الحرية الفلسطيني وأثرها المعنوي وفي صنع الارادات. في معركة الارادات لا بدّ من تجنب الشائعة وخطاب التخوين و"العدو الداخلي" وذلك كي نصون ارادتنا وننتصر لها. والمعركة طويلة.

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة