الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 12:01

اختاري حماتك

بقلم: حنان جبيلي عابد

حنان جبيلي عابد
نُشر: 15/01/22 18:13,  حُتلن: 23:31

جملة غريبة، رغم أنها قد تبدو تقليدية أو من العصر الحجري، لكنها حقيقية، لخصت مشوارًا طويلا من السنوات دون أي أبحاث علمية، نتيجة لتجارب حسية شعورية.

الحب، الشراكة، التفاهم، الاحترام هي من مقومات بناء أسرة جديدة، خصوصا في ظل ما تعيشه الأسر والعائلات العربية من تفكك باسم الحرية الشخصية، من غير احترام حقيقي للحرية الشخصية، طبعا لكل قاعدة شواذ ولكل موقف وضعية خاصة لنفسيات البشر المتقلبة.

الأم هي أم إن كانت والدتك أو حماتك، في معترك الحياة الحاجة لوجود عائلة داعمة بات من أهم الأشياء في حياتنا اليومية، هذا الأمر بديهي مع الظروف المتسارعة.

بعد مرور سنة على اليتم الشعوري الذي أعيشه مع غياب حماتي الحاضرة في كياني وأحلامي، تساؤلات عديدة تنتابني بين الفينة والأخرى، لأنها مدرسة لن تتكرر حتى دون أي مبالغة، حسب رأيي المتواضع خلال مئة عام على الأقل لن تظهر امرأة بهذه القوة، حتى في مواطن الضعف كانت تملك قوة رهيبة، كان لديها دافع ومحفزٌ على الحياة لا مثيل له.

كل من عرفها أحب صفاتها، بشهادة الجميع لم تقف يومًا حائلا بين سعادة عائلتها على حساب نفسها، حتى اللقمة الصغيرة كانت تخرجها من فمها لغيرها.
شهور طويلة كتبت وحذفت، سطور عديدة تبخرت، لأني فعلا لم أتمكن من انتقاء الكلمات التي تفيها حقها، ولا حتى الآن، كنت وما زالت متلعثمة الحروف حتى مع كتابة هذه السطور.

بالنسبة لي لم أعتبرها حماتي يوما كانت أمًا للجميع احتضنتني شجعتني دوما على العديد من المراحل في حياتي. "رأس الحكمة مخافة الله" عنوان مسيرة حياتها، اليوم حين أكتب عنها أتذكر الوقار في ملامحها الهادئة، الهدوء في نبرة صوتها، الحزم والموقف الواضح دون التذبذب، الوضوح والصراحة، رغم مراعاتها لظروف الآخرين على حساب نفسها، الدفء الخاص الذي تلاشى فجأة مع هبوب رياح كورونا العاتية.

أشتاق إليها برحيلها رغم وجود أنفاسها حولي دائما، أنصفت الجميع بمحبتها، لأنه عالمها الخاص رغم غربتها والتهجير الذي عاشته، مع عدم وجود أهلها من حولها إلا أن جل محبتها وزعته على الجميع. حتى في وعكاتي الصحية، كانت رفيقتي ودائمة القلق على صحتي وصحة الجميع والمفارقة أن أولادي وزوجي اعتادوا أن تكون هي طبيبة العائلة، البابونج والمرمية وخلافه صيدلية كاملة مع وصفات طبية، حتى الأدوية كان لديها خبرة خاصة بها، أفضل من الأطباء أنفسهم، وأفضل منهم، لكن في محنتها الصحية، وقفنا خاليين الوفاض، حكمة رب العالمين، قدر الله وما شاء فعل.

إذا سألتوني عن آخر أكلة أكلتها من تحت أناملها شوشبرك، كنت عم أتابع احدى المحاضرات عبر تطبيق الزوم وهي تعلم أنني أحب هذه الأكلة بالذات أرسلت لي إلى بيتي وسألتني إن أكلت لتتأكد. الأمر ليس هو الأكل وإنما أنفاس المحبة التي كانت ترسخ مع الملح والبسملة، معتبرة أن العلاقات الانسانية ليست أطعمة ومأكولات وإنما بقدر المحبة التي تشعر بها من خلاله.

لماذا اختاري حماتك؟
لأنها أم مثل أمك، لأنها الجيش الذي سيكون في المقدمة دائما في صالح الحق، لأن عبق الأيام بوجود والدة زوج داعمة ستكون معك، لا أخفي أنني أعجبتني منذ اللحظات الأولى التي عرفتها بها، أحببت عدة أشياء وصفات تميزها لأنها امرأة يحتذى بها، حتى غبار الأيام التي واجهتها كانت كفيلة بالقفز عنها لتستمر ابتسامتها المرسومة على وجهها.
لا أنسى تلك الأيام التي انتظرت عودتي من العمل لتقسم ما تأكله مناصفة معي وهي تقول:

-"اليوم أنا عاملة اشي بتحبيه"

صحيح أن جريان الماء يكمل المسير لكن الذاكرة لن تمسح الحسنى والمعاملة الحسنة.

جدة أولادي كانت تجلس معهم ومع جميع الأحفاد وكل الفئات العمرية بالعائلة وتوصل ما تريده إليهم بطريقة يعجز الكثير من العائلات عنها.

تركت محبة بالقلوب ورحلت في سبات عميق، أغمضت جفونها وما زالت نظراتها تتبعنا بأعمالها الطيبة وحسناتها التي لا تعد ولا تحصى.

بَرّيتْ سُكّرَتي.. مَسْخَرتي!

كانت جملة ترددها لأن بيتك هو الأساس والعديد من الجمل التي لا تعد ولا تحصى، ما زالت وستبقى في جعبتي، لا أخفي عليكم حتى العيد كان له نكهة خاصة بوجودها مع رحيلها اقتطعت منه قطعة لا تسترد، كنبضات القلب المتوقفة، حتى شهر رمضان الفائت زارنا دون وهجه المعتاد ورحل مع تفاصيل محذوفة لكل العائلة الصغيرة والموسعة، ما زلت كل يوم حتى الآن أراها ترقبنا من نفس المكان الذي كانت تجلس به، معلنة أن الغياب له ظل في الذاكرة لا يمحى.

بعد وفاتها العديد من الصديقات من عدة بلدات قدموا واجب العزاء، لكن العتب الأكبر كان على بعض الصديقات اللواتي اعتقدوا أنه لا حاجة لتقديم واجب العزاء، كأن الحماة ليست أم أقولها بوضوح وصراحة، سقطوا فريسة الخطأ الفادح، لأن معزة والدة زوجي بمكانة والدتي تمامًا أطال الله في عمرها.

على مقربة من السنوية الأولى لوفاتها في هذا الشهر البائس من السنة الفائتة نجحت باصطياد كلماتي بصعوبة بالغة، لكنها ولدت.

هل يعتبر هذا وفاء للعهد الذي كان بيننا؟
بكل صدق لا يكفيها، نقاشات وحوارات ثقافية دارت بيننا، كل موضوع جديد تابعته تشاركنا به، ما زال له صدى، عبر المدى وبما أن الغياب له وقع خاص يرسم هالات من الفقدان الذي لا يترك مجالا للتعويض، ولا يمكن أبدًا أن يستبدل أحد مكان آخر. أعترف الآن بين أيديكم أن اليتم الحقيقي أن تفقد إنسانًا حقيقيا له بصمة أبدية في حياتك.

رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه وأسكنها الله في الفردوس الأعلى.
في ذكرى رحيلك الحاجة أم عبد الله حتحوت

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com

مقالات متعلقة