الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 01:01

معركة الدَّامُورْ ونُون البندورة/ بقلم: راضي د. شحادة

راضي د. شحادة
نُشر: 05/07/19 09:01,  حُتلن: 13:34

محاكمة فيلم "قضية رقم23" - من فمك أدينك

• تبدو القضية كأنها واضحة ومفهومة، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك. القصّة مش قصّة رمّانة وإنما قصة قلوب ملآنة.
• خطورة تعميم القضية الإنسانية الخاصة على القضايا السياسية التقدمية العامة في الأعمال الفنّيّة.


لا يمكن الحديث عن هذا الفيلم وتقييمه بدون أن نكون مسنودين بحقائق تاريخية لا زالت إسقاطاتها الـمُربِكة حيَّةً في أذهاننا الى الآن، لأنها قضايا لم تُحل بعد ولم تُحسم ولم يُبتّ فيها بشكل عادل. أحداثه مرتبطة بشكل وثيق مع تاريخ سياسي ممتد الى يومنا هذا، ممّا يضطرنا الى التمييز بين ما يتدفّق من داخل كادراته، وبين ما حدث فعلا خارجها، لأنّ داخل الفيلم وخارجه مترابطان عضويًا ومنطقيًا، ولا يمكن التعصّب لما بداخله والتنكّر للحقائق التي خارجه.

من الناحية الإنسانية، وفي مجال شخصنة القضايا، يبدو الفيلم لأول وهلة إنسانيًا وموضوعيًا، ولكنّه من الناحية السياسية ليس كذلك. قد يقول المخرج/المؤلف:"يكفيني فخرًا أنّ الفيلم إنساني وموضوعي"، ولكن هل يعفيه هذا من أنّ فيلمه يثير قضية سياسية وطنية مركّبة من الدرجة الأولى، قد يجد تضاربًا بين مواقف بَطَلَيْه، وبين القضية السياسية الجمعية؟ الادّعاء بتقدميّتنا الإنسانية لدى المبدع يتناقض هنا وبشكل عام مع عدم تقدميتنا في القضايا الإنسانية والسياسية التقدمية والوطنية. الواقع السياسي العام أقوى بكثير من أن يلتفّ حوله المخرج/ المؤلف لكي يجيِّره الى قضية إنسانية فردية يحاول من خلالها تعميمها، فهو مهما فعل سيبقى متورطًا في الواقع الجمعي والسياسي، وبخاصة أنّ فيلمه سياسي جدا.
هذه القاعدة تنطبق أيضا على الأعمال الإسرائيلية والأمريكية، ولدينا نماذج كثيرة من أفلام هوليوودية ومسلسلات وروايات إسرائيلية تثبت ذلك، وأقربها زمنيا وإنتاجيًا مسلسل "فوضى" الإسرائيلي الذي يُؤَنْسِن الصهيوني الـمُستعرِب القاتل على حساب المقتول وعلى حساب القضايا الكبرى العادلة.

عند تقييمنا للفن لا يمكن في القضايا السياسية الحسّاسة، وبخاصة في مرحلة التحرر الوطني، وبخاصة في الأعمال المؤسسة على موضوع سياسي، أنْ نكتفي بنقدنا للنّاحية الجمالية والإبداعية للعمل الفني، وإنما يجب أن يكون للمضمون حصة مهمة من النقد، لأنّ الجمالية الفنية في وضعنا لا تسمح لنا بتَرَف التغاضي عن المضمون كُرمى لخاطر الشكل.
قد يقول المخرج/المؤلف أن الهدف هو: "إثارة الأسئلة والنقاش، ولست مضطرًا على طرح إجابات حاسمة". الخطورة التي تكمن في شيطان التفاصيل أن القضية السياسية التي يطرحها الفيلم مرتبطة جذريًا بالتاريخ وبالبيئة التي حدثت خارجه. قد يُفهم الفيلم بشكل مختلف لمن لا يعرف التاريخ والأحداث، أما من يعرف التاريخ الذي يدور حوله فسينظر اليه كعمل غير منفصل عن الواقع الـمُعاش الى الآن. تكمن الخطورة في أنه بدلًا من إثارة الأسئلة، فإنه يثير الإرباك أكثر من إثارتِهِ لأسئلةٍ بحاجة الى أجوبة لم يستطع أحد الإجابة عنها إلا من خلال تبريرات شخصية تصبّ في صالح معتقداته الشخصية والحزبية المحدودة.
هنالك فرق شاسع عند طرح قضايا حسّاسة من خلال أعمال إبداعية او من خلال فيلم، كما هو الحال هنا، بين أن تُطرح الأمور وكأنما هي قضية فردية للبطل الذي يمثِّل شريحة مجتمعية ما من جهة، وبين القضايا الجمعية من جهة أخرى. ليس بالضرورة أن تتعادل القضايا الفردية لفرد ما مع القضايا الجمعية التي تمثل قضايا عامة لشعب او لشرائح بمجملها.

القضايا العامة والجمعية قد تحمل إيديولوجيا شاملة، والقضايا الفردية قد تكون كذلك وقد تكون جزئية. تَركيزُ الأفلام على العلاقات الإنسانية العميقة بين الأفراد، من خلال استعمال تقنيّات مُتقَنة، هو أمرٌ في الغالب مُحبَّب ومقنع للمشاهد، وهو شرعي ومنطقي، ولكن في الغالب ايضا عندما تُطبّق هذه المعادلة على الفرد الذي يُراد منه تمثيل مجموعات او شرائح جمعية بين مجموعات متناحرة، مثلا بين مجموعتين متناحرتين من شعبين، فإنّ هذا قد يُضيِّع البوصلة، لا بل قد يكون سببًا متذاكيًا من قبل القائمين على مثل إبداع كهذا بهدف تجذير الفكرة الخاصة وجعلها فكرة عامة، تستدرّ عطف الآخر وتأييده لوجهة نظره الفردية او الشرائحية.

وجدت نفسي بعد مشاهدة الفيلم واقفًا في المحكمة أمام القاضي مدافعًا عن قضيتي الى جانب "ياسر سلامة"(كامل الباشا)، ضد الحقد الأعمى الذي يتخبّط فيه "طوني حنا"(عادل كرم):
"يا سعادة القاضي، إنّ تبرئة موكّلي الفلسطيني من التهمة الموجهة اليه هي فقط عن قضية شخصية تتعلق بحادثة المزراب، وفي حكمك يا سعادة القاضي، فأنت لم تَخرج عن حدود التُّهمة الموجهة الى شخص موكِّلي، بغض النظر عما اذا كان فلسطينيًا او لبنانيًا او غير ذلك، وفي حدود ذلك فأنت عادل مائة بالمائة، ولكن الفيلم في المجمل استغل هذه القضية الشخصية لكي يُجذِّر في ذهن المشاهد قضية غير شخصية وعامة ووطنية لها علاقة جذرية بوجهة نظر حزب لبناني معين وهو حزب الكتائب، وفيما بعد أصبح الأمر متمثلا بطوني حنا من حزب القوات اللبنانية المعبّأ بالكراهية العمياء لأي فلسطيني، الذي عَبْر المعارك المتبادلة، كان يحق له قتل الفلسطيني على الهوية وعلى نُونٍ مفتوحة ونُونٍ مُسَكَّنة في كلمة "بندورة"، فإذا قالها الشخص "بنَدورة" باللهجة اللبنانية فهو بريء، وإذا قالها "بنْدورة" فهو متهم ومجرم ويستحق القتل حالا وبدون محاكمة. لو لم يكن الذي قام بعملية إصلاح المزراب فلسطينيًا لما حدثت ردّة فعل بهذا الشكل العنيف من قبل طوني.".
"إنّ "طوني" بطل الفيلم لا زال معبّأ بهذه الكراهية منذ طفولته حتى أصبح عمره 47 سنة، وكل ذلك بسبب تكثيف عملية إفهامه وغسيل دماغه عن المجازر التي ارتكبها الفلسطينيون ضد اللبنانيين في معركة الدامور. وبما أنّ الفيلم يسرد الأحداث وكأنه توثيقي وتاريخي، فإنّ مؤلفه/مخرجه استغل ذلك من أجل تحويلها الى أحداث حقيقية تتطابق مع وجهة نظره السياسية المعادية للفلسطينيين. وتأكيدا لتعميم القضية بدلًا من إبقائها قضية شخصية، فإنّ طوني اعترف بعظمة لسانه أمامك يا سعادة القاضي بأنه اكتشف بأن "ياسر" فلسطيني من لهجته، ولم يبْدُر الى ذهنه ولو للحظة بأنّ الفلسطينيين كمجموعة ليسوا فلسطينيين كأفراد، وهذه هي طبيعة كل مجموعة بشرية، ولكن طوني بكراهيته العمياء لجميع الفلسطينيين، فإنّه لمجرّد معرفة أن الشخص الذي أمامه هو فلسطيني، فهو يكرهه وليس على استعداد للتمييز بين شخص وآخر".
إنّ الغاية من الفيلم غير منفصلة عمّا يؤمن به ويصرّح به صانعوه وعن مبادئهم وطريقة فهمهم للأمور وللقضايا الشائكة، والتي ما زالت ساخنة الى الآن ولم تنته صلاحيتها بعد، فالمخرج لبناني وهو لا ينفي مواقفه السياسية ومقابلاته التي يعلن فيها بعنف موقفه المعادي لحركة المقاطعة الـ"بي دي أسBDS"، وعن حقّه في القدوم الى إسرائيل، مخالفًا موقف دولته الرسمي منها، لكي ينتج فيلمه السابق "الصَّدمة". بطله "طوني" أيضا، الذي يقوم به الممثل "عادل كرم"، هو ايضا لا ينفي انتماءة ومحبته لحزب القوات ورئيسه "سمير جعجع"، ويؤكّدان أنّ "بشير الجميّل" كان مقاومًا ووطنيًا وأنه قُتل شهيدًا. ولكي نربط بين موقف المخرج والبطل علينا ألّا نفصل بين التقاء مبادىء بعض الشخصيات الرئيسية في قصة الفيلم مع مبادىء شخصيات صانعيه. لا ينكر المخرج الكاتب في مقابلاته أنّ أحداث فيلمه تمثّل جزءا من مذكراته وعمّا صَقل وعيَه الذي يطرحه ويدافع عنه.
في زمن الميديا الواسعة والمكشوفة لا يمكننا أن نفصل بين ما يُصرّحِ به صانعو الفيلم خلال مقابلاتهم الميديويّة عند تقييمهم له والقصد من فحواه وشكله، والتي يصرّحون "أَشْكَرَا" عن مبادئهم وإيديولوجياتهم التي يعبّرون عنها خارج الفيلم وداخل كادراته، لا نستطيع عندها أن نفصل محتوى الفيلم الداخلي عن البيئة العامة التي استُوحِي منها، ما يجعلنا مضطرين منطقيًا الى ربط ما بداخله مع ما بخارجه. الفكر الـمُسبق هنا مرهون بالفكر المـُخَطَّط له.
كنت أتمنى من محامي الدفاع ومخرج/مؤلف الفيلم أن يُفهموا بطلهم "طوني" ولو بملاحظة بسيطة تغيّر المعادلة المطروحة منذ نقطة انطلاقها بأنّ ما حمَلَهُ طوني من حقد وكراهية لجميع الفلسطينيين كان مبنيًا على أساس مدروس مسبقًا من قِبَل فئات سياسية ما زالت معبّأة بهذا الحقد طوال جميع المعارك التي دارت بين اللبنانيين المليشيويين من جهة، وبين سائر الوطنيين، ومنهم فلسطينيون ولبنانيون وعرب، والفرق شاسع بين حَصْر القضية بين لبنانيّ كَارهٍ للفلسطينيين وبين لبناني يحارب إسرائيل الى جانب الفلسطينيين والعرب، لأنّ العدو مشترك وليس لأنّ بعض اللبنانيين وجدوا في الفلسطينيين عدوًا لهم مستعدين لمحاربته حتى ولو كان بمساعدة من العدو الحقيقي وهو إسرائيل. وفي الفيلم يُنوّه المحامي الى أسماء الفِرق التي شاركت في معركة الدامور، ولكنّه لم يتّهم أحدا ممن تسَبّبوا في أن يَحمِل موكّله كل هذه الكراهية تجاه جميع الفلسطينيين.
لكي تستطيع الحكم على مغزى الفيلم عليك أن تقرأ التاريخ لا كما يقرأه المخرج/ المؤلف، والذي حاول تبرير سبب كراهية البطل "القُوّاتي" الممتدّ منذ طفولته عبر الفكر "الكتائبي"، المعجب كل الإعجاب بقائد القوات اللبنانية لدرجة العبادة ولدرجة تسمية مولودته "ستريدا" على اسم زوجة جعجع "ستريدا جعجع"، منطلقًا من عقدة طفولته مما شاهده من "مجازر؟!" قام بها الفلسطينيون في الدامور.
نقطة الانطلاق لفكرة الفيلم هي تواجد فلسطيني في لبنان، مقابل قواتي لبناني، وهذا القوّاتي يدافع عن قواته المسيحية اللبنانية، مقابل قضية فلسطينية عربية لبنانية واحدة من حيث انها قضية قوميّة ووطنيّة وعربيّة وإنسانية وسياسية وعادلة وشخصية وعامّة معًا؛ فالمشترك بين اللبنانيين والفلسطينيين انهما مُعتدى عليهما من قبل الاحتلال الإسرائيلي ويحتل وطنهما او جزءا منه. عندما نجيّر ذلك الى قصة إنسانية عادية، فكأنما نجذّر في ذهن المشاهد كونها تطرح مسألة تبرير كراهية اللبناني للفلسطيني لكون الأخير ضيفًا غير مرغوب فيه، لا بل هو يصوَّر على أساس انّه ينتمي لشعب قاتل وإرهابي ضد أُناس أبرياء في الدامور.
هذه نقطة انطلاق خطيرة يحاول المخرج /المؤلف أن يصوغ من خلالها التاريخ على هواه في فيلم روائي جدا وليس فيلمًا وثائقيًا، وقد يقع المشاهد في هذا الفخ الثنائي من الخلط بين ما هو التاريخ الحقيقي وبين ما هو روائي. اذا لم يجتهد الـمُشاهد في البحث عن التاريخ الحقيقي، فإنّه سيَضِيع، كما قد يضيع بين حقيقة أحداث الدامور، أكانت معركة أم مجزرة.
اذاً، في حال يشاهد الـمُشاهِد هذا الفيلم كأحداث حقيقية يخطّها المخرج/ المؤلف على هواه، هذا الـمُشاهد البسيط الذي ينظر الى أبطال الفيلم على أساس أنّهم إنسانيون ويقولون الحقيقة، فإنه بذلك تتجذّر في ذهنه فكرة ضرورة الكراهية العمياء للفلسطينيين؛ فإذا كان شاعرٌ لبناني عنصري مشهور اسمه "سعيد عقل" كان قد طالب بدعوة "الاسرائيلياني" "أريئيل شارون" القدوم الى لبنان ومساعدتهم على إبادة الفلسطينيين(الفيديو موثّق على اليوتيوب https://www.youtube.com/watch?v=nKgyTqe4b1w)، فإنّ تكرار مثل تاريخ عنصري كهذا قد يفعل فعله في عقول مَن ليس لديهم جَلَد او ثقافة او معرفة لمراجعة التاريخ وقراءته على حقيقته. ويقتبس طوني المقولة حَرْفيًا ويقولها بحقد وبهمجية: "يا ريت شارون مَحَاكُمْ عن بِكْرَة أبيكُم".
نقطة انطلاق هذا الفيلم كانت من أساسها خاطئة لأنّ معركة الدامور- وليس مجزرة الدامور- دارت بين منظمات لبنانية يمينية كحزبي الكتائب والأحرار من جهة، وبين منظمات لبنانية أخرى كمنظمة حزب البعث السوري في لبنان والحزب التقدمي الاشتراكي والتنظيم الفلسطيني لحزب البعث السوري المسمّى الصاعقة من جهة أخرى.
وبنفس الدرجة يمكن القول أنّ من هاجم تل الزعتر، على سبيل المثال والتوضيح، هم فئات لبنانية وعربية تحاربت مع فئات ثورية ووطنية. اي في كلا الحالتين بدت المعادلة بأنّ طرفًا يريد محاربة إسرائيل، وطرفًا يريد مصادقتها، وبقيت المعركة بين طرفين عربيين، بينما كانت إسرائيل متفرِّجة لا بل متدخِّلة من تحت لتحت او بشكل مباشر كما كان الأمر في مجزرة "صبرا وشاتيلا".
اذاً فإن تحويل المعركة في حينه ومن خلال الفيلم في حيننا الى مجزرة قام بها الفلسطينيون ضد المسيحيين الذين يتزعمهم "بشير الجميل" المتواطىء مع الكيان الصهيوني، إنّما كان كل ذلك توطئة لإغراء المسيحيين بدولة مسيحية تساعدهم في إقامتها إسرائيل، شريطة أن يكون ثمن ذلك التخلص من الفلسطينيين؛ وكم يُثبِت التاريخ صحّته لاحقًا عندما تجرَّأ بعض اللبنانيين بخيانة جيش دولتهم بأن أسّسوا مع اسرائيل جيش "أنطوان لحد" المسمى بــ"جيش جنوب لبنان"(لاحظوا التفنّن في تسميته "تسادال צד"ל" ، جيش جنوب لبنان، وكأنّها توأمة لجيش "تساهال צה"ל"،جيش الدفاع الاسرائيلي)، متآمرين ايضا على الفلسطينيين واللبنانيين في آن. لن ننسى أن حزب الكتائب كان على تحالف وثيق مع إسرائيل منذ الخمسينات، أي أنّ القضية متراكمة منذ زمن طويل. لا بل إنّ تسمية الفيلم "القضية رقم23" ليس هو رقم الملف الذي تدور حوله المحكمة في الفيلم، بل هو تاريخ تَسلُّم "بشير الجميل" رئاسة لبنان في 23/8/1982.
اذا كان الهدف تبرير سبب كراهية أحد الأبطال اللبنانيين من جماعة "القوات اللبنانية" لكل الفلسطينيين، وبخاصة أنّه كَرِه "ياسر" لمجرد انه عرف بأنه فلسطيني فهو بذلك، ولأسبابه الشخصية، أراد أنْ يبثّ مَنطِقَهُ بعنف من خلال عُقدة طفولته التي جعلته يكره الفلسطينيين على "أفعالهم الإرهابية!؟". عمَّم كراهيته على جميع الفلسطينيين وكأنما جميعهم أشرار وقتَلَة وضيوف غير مرغوب فيهم، ويبصقون في الصحن الذي يأكلون منه.
وهكذا فإنّ تبرير المطالبة بإبادة الفلسطينيين جميعًا أصبح أمرًا منطقيًا، حتى وإن عجز عن ذلك هو والكتائب والقوات، فلا مانع من الوصول الى هذا الهدف المكيافيلي عن طريق الاستعانة بالكيان الصهيوني. الكراهية الفردية العمياء من قبل شخص مُؤدْلَج قد تبثّ شعورا من الكراهية الجمعية لطرف آخر بهدف تعميم وتبرير منطق الحاجة للتخلص منه ومن جميع الفلسطينيين. هذا البطل تعبأ منذ طفولته بالحقد ضد جميع الفلسطينيين من قبل مجموعة إيديولوجية مجرمة متعاونة مع إسرائيل، أفهمته أنّ ما جرى في الدامور هو مجزرة قام بها غرباء مكروهون وأعداء إسمهم الفلسطينيون، وتتابعت هذه التعبئة من الكراهية من قبل هؤلاء المسيحيين المؤدلَجين ضد الفلسطينيين، ومع مرور الزمن أصبحوا "حزب القوات" القويّ، مع الزعماء ذاتهم الذين شاركوا في مجازر فظيعة ضد الفلسطينيين، متذرّعين بحجّة الانتقام من الضيوف الغرباء غير المرغوب فيهم و"القَتلة!".
وبالمثل فإنّ الممثل الفلسطيني "كامل الباشا" الذي مثّل قضيته ودوره بشكل إنساني، علِق في فخّ الخروج من كادرات دوره لكي يُصرّح أمام الإعلام خارج دوره في الفيلم بتأييد فكرة موازاة الضّحية بالقاتل، معترفًا أنّ الحقائق المذكورة في الفيلم تنطبق على الواقع التاريخي العام الذي حدث فعلًا خارج أحداث الفيلم، وأنّ الصراع الدائر بين البطلين هو طبق الأصل للصراع الذي أفرزته فكرة تجريم الفلسطينيين وتحويل معركة الدامور الى إدانة للطرفين بشكل عام، ويصرّح بأن الطرف الفلسطيني والطرف اللبناني في هذه القصة كانا مخطئين. قد يقول قائل إنّ في ذلك شيئًا من الحقيقة، ولكنّ أحداث الفيلم لا تدور حول شخصية فلسطيني يدافع عن براءته من أحداث معركة الدامور. وبذلك يبدو الأمر وكأنما هو، أي كامل الممثل وهو ذاته ياسر الذي يمثله، موافق/موافقان على أنّ ما حدث كان مجزرة قام بها الفلسطينيون ضد المسيحيين اللبنانيين. بدا في المحصلة وكأنّما هو مشارك في لعبة مشكوك بأمرها استغل القائمون عليها دوره كفلسطيني لكي تصبّ طاقاته في محصّلة أهدافهم ومبادئهم التي صرّحوا عنها داخل الفيلم وخارجه.
لم يكن نضالهم وطنيا صادقًا نابعًا من محبّتهم للبنان بل كان نابعًا من تعصب طائفي عنيف محض يتناقض مع المبدأ العام الذي تقوم عليه القضية الفلسطينية لكونها ليست قضية دينية، بل جُيّرت من قبل البعض لكي تكون كذلك في زمن المدّ الديني، لا بل إنّ المناصرين لمسيحيتهم الدينية تتناقض دمويتهم مع المبدأ الذي أسّس له السيد المسيح.
لقد حوّل زمن المدّ الديني القضايا الوطنية العادلة الى قضايا دينية عنصرية وغير عادلة، ما جعل تحويل الصراعات في منطقتنا الى هبّات من قبل تجمّعات دينية عنيفة يطمح كل منها الى صياغة تقرير المصير بناءً على الدين السياسي، والأمر ذاته ينطبق على جميع الديانات التوحيدية، فجماعة الكتائب والقوات اللبنانية هي ايضا قائمة على مبدأ الدين السياسي الذي يتناقض مع الإيمان الذي يجب أن ينطلق من علاقة عامودية بين الفرد والسماء، وليس على علاقة أفقيّة قسرية عنيفة قاتلة دينية في علاقات البشر فيما بينهم.
إنّ الشُّوشَرة التي افتعلها "طوني" ضد "ياسر" الفلسطيني الذي أراد إصلاح "المزراب" من أجل الصالح العام، ومن أجل مصلحة طوني الشخصية، تحوّلت بشكل متعمّد وعنيد وحاقد وعنصري ضد ياسر، وإذا بها، كما يظن كاتب ومخرج الفيلم، نابعة "من قلوب مليانة وليست قصة مزراب ورمّانة"، ومع تقدّم الفيلم يتّضح أنّ لِردَّة فعل طوني أسبابًا عميقة جعلته منذ كان عمره 7 سنوات الى الآن، أي خلال 41 سنة من حياته وهو يتعبّأ حقدًا وكراهية للفلسطينيين، لكل الفلسطينيين، بسبب "مجزرة الدامور!؟"، كما أفهموه"، مع أنّه يعترف أمام القاضي بأنّه لم يكن منتميًا لإحدى المليشيات المقاتلة. لمجرد أنّه عرف أنّ "ياسر" فلسطيني من لهجته، صبّ عليه جام غضبه وحقده، وما أفهموه خلال هذه الفترة هو عبارة عن تعبئة مستمرة لسنين جعلته يتفجر مع أول محكّ بسيط مع ياسر على قضية مزراب وليس على قضية لبنان والفلسطينيين. تخيّلْ طفلًا لبنانيًا ينمو مع حقده طوال حياته، وزعماؤه الحاقدون ما زالوا هم هم، ويدافع عن مسيحيته العنصرية رافضًا بكل عنف مقولة سيّده الأول السيد المسيح الذي يأمره بأن يدير خدّه الأيمن لكي يحافظ على كرامته وأخلاقياته ومصدر قوته الحقيقي أمام خصمه، فإدارة الخدّ للآخر حسب فلسفة المسيح هي نقطة قوة وليست نقطة ضعف. تركيبَة شخصية طوني الحالية تَدلّ بشكل قاطع أنّه لو لم يكن في حينه طفلًا، ولو كان شابا يافعًا لكان بالتأكيد مع المشاركين مع الكتائب في معركة الدامور.
وبالمقابل، فإنّ ياسر هو تكملة للجوهرة الفلسطينية البَانِية للُبنان بإخلاص وإتقان، وهو يشرف على 75 عاملا، ويُشْهَد له بحِرَفِيَّتِه وبدقّة أدائِه لواجبه في عمله، وهو متخصِّص ذو خبرةٍ كبيرة في الهندسة في مجاله(مهم جدا: راجع مقالة "طلال سلمان" في صحيفة السفير سنة 2008 https://www.rb2000.ps/articles/203266.html ، راجع مقابلة "نيشان ديرهاروتيونيان" مع "ملحم بركات" على اليوتيوب https://www.youtube.com/watch?v=mpGWbGU5jNA) ومع كل ذلك فهو بعد 40 سنة منذ حادثة الدامور يُجابَه بعداء وبكراهية تنعكس بشكل جمعي وكأنّما كارهُهُ هو كارهٌ لكل الفلسطينيين، ويدعم ذلك أنّ مشغِّلَه يعترف بإخلاص ياسر وكفاءته، ولكن بموجب القانون اللبناني وخوفًا من التوطين، فقد قرر إقالته من عمله. وكل ذلك باعتراف ياسر بأنّه لم يكن منتميًا لأية مليشيا او لأية تنظيم سياسي، بينما يتباهى طوني بانتمائه وتقديسه لحزبّي الكتائب والقوات اللبنانية القائمين على فكر مسيحي سياسي عنصري متعصب وحاقد.
إذًا، إسقاط أحداث الفيلم على أحداث التاريخ في قضية حسّاسة ومهمة كهذه كان خطيرًا جدا، وسيقود الى التضليل وصياغة التاريخ الحقيقي من خلال تقنيات فيلم روائي وليس فيلمًا وثائقيًا. إنّها محاولة خبيثة من أجل تجيير "الوثائقي" على مقاس "الروائي". إنها محاولة لتجيير التاريخ على مقاس المخرج/ المؤلف. وبما أنّ الممثلين موافقون على خوض التجربة معه، وبما أن الفيلم مشغول عليه مهنيًا بشكل تقني محترف ومشوّق وجذّاب، فإنّه لا بدّ من أنّ الأمر مغرٍ لخوض مثل هكذا تجربة، مع محاولة إيجاد التبريرات المنطقية لسبب تصرّف الشخصيات على هذا الشكل، وعندها من الممكن الادّعاء بأنّ العلاقات الإنسانية قد تُشكّل محاولة للخروج من المأزق بالتصالح بين الشخصيات، بينما الحقيقة العامة تتعدى ذلك كليًا.
قد يبدو أنّ ياسر في النهاية ليس هو المقصود كَفَردٍ ، ولكنّ معادلة أنّ الآخرين هم المقصودون، يؤكّد محصّلة اتهام الفلسطينيين بالقتلة والإرهابيين. في المحصلة قد يشكل هذا النموذج حالة عامة للمواطن اللبناني الكاره للفلسطينيين وقضيتهم العربية الجامعة وليست الـمُفرِّقة. بدا الأمر وكأنما العلاقة الإنسانية بين شخصين قد تكون قوية ومبرَّرة، بينما هي تتناقض مع العلاقة بين شعبين.
القضية هي صراع مبدئي، وليست محصورة بعلاقة شخصية بين بطل لبناني قواتي، وفلسطيني لاجئ خارج وطنه، وهي لا تمثل وجهَة نظر أحادية الجانب. القوات التي شاركت في معركة الدامور هي بين قوى لبنانية وعربية وفلسطينية تقدمية وأناسٍ وطنيين يؤمنون بأنّ قضية لبنان والقضبة الفلسطينية وقضية كل العالم العربي هي قضية واحدة من جهة، وبين فئة اختارت الاحتماء بالعدو الإسرائيلي من جهة أخرى ضد الفلسطينيين والقوى الوطنية التقدمية المعادية لإسرائيل.
الفيلم من خلال بطله، والفيلم من خلال مخرجه لَيسَا منفصلين عن مبادئهما السياسية والوطنية، بينما يحاول كل من البطل والمخرج أن يُؤنْسِنا موقفهما، تمامًا كما يحاول أصحاب "مسلسل فوضى" الإسرائيلي أنْسنة الـمُستَعربين المجرمين والتغاضي عن المبدأ الثوري الذي يجب أن يحكمهما والمكمّل لإنسانيتهما وليس متناقضًا معها، مستعينين بخِيرة الممثلين الفلسطينيين لكي يقوموا بالأدوار الفلسطينية، محاولين من خلالهم موازاة القاتل بالضحية باسم العدالة الإنسانية والتقارب الإنساني من أجل السلام بين النعجة والذئب.
ثمّة فرق شاسع بين السرد الإنساني الـمُشَخْصن وبين أن تَستغل ذلك لتبرير إيديولوجيتك العليا، فالفيلم بمجمله يطرح قضية سياسية ساخنة وليس من العدل أن نحكم عليه من منطلق أنه فيلم إنساني فحسب. وفي منطلقه الإنساني يجد المؤلف/المخرج نفسه مستفيدا من إرضاء مجموعات كبيرة من البشر الذين سيشاهدونه، وفي ذلك إغراءٌ للانتشار وإرضاءٌ للمتلقي، وبالتالي يوصله الى أوسع نطاق من الميديا.
يدفعك الفيلم لتحديد موقفك السياسي والثوري من قضايا جمعيّة، وبخاصة أنّ القسم الأكبر منه يدور في المحكمة حول قضية وطنية سياسية عامة. 90% منه هو سياسي من الدرجة الأولى لا تقل أهمية عن توجّهه الإنساني، وبذلك فنحن لا نستطيع التغاضي عن القضية السياسية التي يثيرها بحجة توجّهه الإنساني على مستوى العلاقة بين شخصين.
إنّ موقف ابنة المحامي مع القضية الفلسطينية ضد والدها يوضّح بعض الشيء وجهة النظر اللبنانية العامة والتقدمية تجاه القضية الفلسطينية. تَحَوُّل طوني من متشنج في ردود فعله الهمجية والعنصرية تجاه ياسر، وبداية تحوله الى الأفضل مع التقدم في أحداث الفيلم أيضا بعث بعض التوازن، مع أن الفيلم لم يُظهر التَّغيُّر الكافي لدى حاملي الفكر العنصري تجاه الفلسطينيين بما يكفي لإنصاف القضية الفلسطينية او القضية اللبنانية العادلتين، إلّا بما ظهر من اختلاف شخصية ياسر الفلسطيني المتسامح والأخلاقي تجاه ظالميه من أبناء جلدته العربية. بقي ياسر في قمّة إنسانيته وأخلاقيته، وخير ممثل لقضيته التي هي مثله قضية إنسانية عادلة وغير عنصرية، وبخاصة أنه مسلم متزوج من مسيحية ويسكنان في "مار الياس"، ومنطلقه غير عنصري كقضيته (كامل الباشا الممثل أيضا متزوج من مسيحية)، بينما طوني (او عادل) تشبَّث بمسيحيته أكثر من عروبته اللبنانية القومية، وشتّان ما بين الشخصيتين. بداية التغيّر الطفيف في شخصية "طوني" يعتبر شيئًا إيجابيًا، وبدا الأمر بدرجة خجولة وعن حاجة لرفع قليل من العتب واستدرار المزيد من التعاطف الإنساني مع الفيلم.
على الأقل، لم يستطع المخرج/ المؤلف، وربما مشكورا على ذلك، أن ينكر على ياسر الفلسطيني المحبّ للُبنان ولفلسطين أخلاقياته وشهامته وعزّة نفسه وتسامحه، وفي ذلك قمة الإنسانية والانتماء. كذلك فإنّ الفيلم في جزء من طيّاته يفضح الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون في لبنان، وجَعَل إنسانية ياسر في المحصِّلة تتغلب على حقد وكراهية طوني.
اذا حاولتَ فَهْم أنّ البطلين يُستغلان من قبل السّياسيين، فإنّك تستطيع أنْ تُبرِّر تصرفاتهما إنسانيًا أكثر من كونهما يمثلان فكرًا سياسيًا ما زال طاغيًا الى الآن ومنذ تواجد الفلسطينيين في لبنان، ويتكرر الآن بالطريقة ذاتها بوجود السوريين في لبنان، وكأنّ لبنان على حياد ويحقّ له أنْ ينفصل عن عروبته ويكتفي بسياسة النأي بالنفس التي معناها أن نبقى على مسافة واحدة من جميع القضايا، وأن تتبرر علاقته الطبيعية مع إسرائيل كما جرب ويجرّب ذلك آخرون من زعماء الدول العربية بحجّة الرغبة في السلام، بينما هو في الحقيقة الركوع والاستسلام.
ما حدث بشكل إنساني بين طوني وياسر يختلف عن المبدأ الذي قامت عليه فكرة النضال المشترك ضد عدو يشكِّل تهديدًا لكليهما في المجمل كابْنَين تابعين لشعبين عربيين. في تلك المرحلة، مرحلة المدّ القومي العربي تظهر مجموعة لها منطلقات طائفية عنصرية لا تتوافق مع هذا الطرح. جميع الحركات النضالية في حينه كانت قائمة بين فلسطينيين ولبنانيين تقدميين يحاربون سويةً عدوًا مشتركًا من جهة، وبين إسرائيل ولبنانيين يحاربون ضد هذه الحركات من جهة أخرى. عند وجود ياسر في لبنان تزوّج من مسيحية عندما كانت عروبتهما جامعة وليس طائفيتهما او دينهما.
هنالك منصات كثيرة تدور عليها الفنون والخطابات، والمهم على أية منصة نحن أسياد أنفسنا ويجب أن نعرض إبداعاتنا عليها، لأنّ بعض المنصات مسمومة، وإذا اخترت الظهور على جميع المنصات، مهما كانت مخاطرها، فقد يجعل ذلك السِّحر ينقلب على الساحر، وقد تنقلب المنصة على جميع العارضين لإبداعاتهم من فوقها.
راضي د. شحادة- مسرحي وكاتب فلسطيني.

مقالات متعلقة