الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 20:02

حكاية حياة

قصة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 14/09/20 12:39,  حُتلن: 14:21

ابتدأت الحكاية حين دخلت صدفة الى قاعة ذلك المعرض. كان هناك قلة من الناس، وكانوا ينسحبون واحدا تلو الآخر الى ان تبقيت انا، صاحبة هذه القصة، ورجل آخر بدا مشوش الشكل والفكر، سرعان ما عرفت انه صاحب المعرض. شعرت انه يرسل نظرة متسائلة نحوي وكأنما هو يريد ان يسألني عن سبب توقفي طويلا قبالة تلك اللوحة،.. كانت تلك اللوحة تصور امرأة حائرة، تائهة في عينيها سؤال وفي جسدها البض الناعم سؤال، بل ان شعرها المسترسل على جسدها شبه العاري ضم سؤالا صارخا.. حاولتُ الاجابة عليه، فبقي معلقا. لا يتيح لي ان اقدم جوابا ولا انا اتمكن. شعرت بخطوات حائرة تقترب مني. وسمعت صوته يأتيني من بعيد:
-تعرفين؟
التفت اليه كأنما انا لم اره من قبل. وواصلت تمعني في اللوحة قُبالتي. فواصل يقول:
-هذه احدث رسوماتي..
وعندما لاحظ حيّرتي وعدم تجاوبي. تابع يقول:
-حاولت ان اجسّد فيها مشاعري نحو زوجتي الراحلة.
تمكّن اخيرًا من استثارتي. قلت:
-شعرت ان هناك قصة وراء هذه اللوحة.
ارسل نظرةً حائرة آسية في كل اتجاهات المعرض كأنما هو يمرُّ على كل لوحاته واحدة بعد
الاخرى. استوقفته:
-اشعر ان المرأة تشكّل المركز في فنك. قلت له.
-لم لا تقولين انها تشكل الحياة.. الم تلاحظي ان كل لوحات المعرض تتمحور حولها؟ وانه حمل
عنوانها: حواء والفنان. قال لي.
شجّعني كلامُه على ان اتجوّل في المعرض ناسية كل مواعيدي، ومدققة في اللوحات امامي، كنت كلّما انتقلت من لوحة للتمعّن في اخرى، اشعر بذلك الحضور الطاغي، لتلك المرأة، زوجة الفنان وفاتنته الاولى. لوحات المعرض اكّدت لي ان الفنان كان مغرمًا بزوجته حدّ الجنون، وانه اراد ان يصرخ في وجه الموت طالبًا منه ان يعيدها إليه ولو لحظة ليقول لها خلالها كلمةً اراد ان يقولها في حياتها وهي إلى جانبه وبين يديه.. إلا انه لم يتمكّن. سألته:
-إلى هذا الحد كنت متعلّقًا بزوجتك؟

استغرق في سؤالي وغاب في الماضي:
- كانت الحياة بالنسبة لي. العمرُ مرّ معها وإلى جانبها كأنما هو لحظة وعبرت.
ما ان سمعت هذه الكلمات منه حتى شعرت بالمرأة الهاجعة في داخلي تفتح عينيها وتتأمل العالم من حولها. اين كان كل هذا الجمال مختبئًا؟ ولماذا هناك أناس لا يرونه، ألأنهم لا يريدون.. ام لان الحياة تجتذبهم وتلهيهم عنها بانشغالات جانبية؟ انا.. مثلًا.. امرأة في عمر مُقارب لعمره، في حوالي الاربعين. تزوّجت من ابن الجيران بعد قصة حب عاصفة، كنت يومها طفلة في الثامنة عشرة إلا ان الحب سلطان يَنهى ويأمر،.. قبل حوالي الخمس سنوات، شعرت ان ينبوع الحب في بيتنا قد بدا يجفّ، فابتعدت، كذلك هو.. زوجي.. ابتعد، ليتبين لي فيما بعد.. اولًا بإحساسي.. وثانيًا بنظري، ان علاقة ربطته قبل فترة غرامي به بفتاة اخرى، وانها عادت للظهور بعد كل تلك السنين لتشغل باله وفكره. النتيجة جاءت بعد مُعاناةٍ.. قلقٍ.. وسُهدِ ليالٍ.. انه بإمكاننا ان نستمر في العيش معًا من أجل الابناء. لكن دون حياة زوجية. هكذا دخلنا، زوجي وانا، فيما يطلقون عليه: الطلاق الصامت. وبينما انا مستغرقة في هواجسي وافكاري هذه، شعرّتُ به يقترب مني اكثر ويهمس:
-رحمها الله.. بعدها ذوت الزهور في أصيص حياتي.
تحفزّت للرد عليه لقول اي كلمة له، لمواساته.. ألا انني فوجئت بتعبيره، هل هو يتحدث عنها ام عني، اما عنا نحن الاثنتين، ام عن كل النساء المعذّبات في ارض الرجال؟ اعترف ان كلماته مدّت يدها البضة الطريةَ ذات الرائحة الذكية والذاكرة الحية، لتواصل ايقاظها للمرأة في داخلي. ارسلت نحوه نظرةً من أعماق احساسي، شعرتُ انها اخترقت الستائر السبع الفاصلة بيننا ووصلت إليه مُرفرفةً محلقة. ابتسم اول مرة منذ دخلت معرضه. اضطرني ابن الحلال لأن ابادله الابتسام. هكذا وجدنا نفسينا، وقد خرجت الابتسامة من عيني كل منا لتسافر باتجاه الآخر، نسيت العالم وتمحور احساسي كله، في هذا الواقف قبالتي. ليولد نجم جديد، يعيدني إلى الثامنة عشرة من عمري، وكذلك يفعل فيه. تلك النظرات جعلت كُلًا منا يمتزج في الآخر ويعيده إلى اندماجه الاسطوري الاول، ليتحوّل كائنًا واحدًا لا انفصال بين شقيه. في تلك النظرة شعرت انني ولدت مُجددًا وأن عمرًا آخر كُتب لي.. بعد موات القلب. طالت النظرات فيما بيننا، هو وأنا، كأنما نحن لا نريد لها ان تنتهي، كنا نُحلّق في عوالم اعتقد أن قليلًا منا نحن بني البشر يمكنه الوصول إليها.. فكيف به اذ يحلق في أجوائها؟ "هل طرقت السعادةُ أخيرًا بابَ قلبي؟"، سألتُ نفسي.. وانا امضي مُبتعدةً عنه.. تاركة قلبي ورائي معه.. عندما وصلتُ مدخلَ
المعرضِ.. شعرتُ به يطير ليلحق بي:
-إلى أين انت ذاهبة؟ سألني.
-إلى لا مكان. أجبته وكأنما انا في غفوة حلم.
عندها أدنى وجهه من وجهي وهو يهمس في اذني:
-هنا اللامكان.. ابقي معي.
في تلك اللحظة ابتدأت الحكاية.. حكاية حياتي. 

مقالات متعلقة