الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 09:02

بالعربيّة الفصحى أسأل: أين يقع لبنان اليوم؟/ بقلم: الدكتور نسيم الخوري

الدكتور نسيم الخوري
نُشر: 19/09/20 12:56,  حُتلن: 13:19

تفرض الحياة الأكاديمية التهيّب الكامل والبطيء في دراسة الأحداث قبل تحويلها إلى نسبٍ وأرقام وجداول شديدة الأهميّة والمسؤوليّة. تعود تلك الأهميّة، خلافاً للخطب والتصريحات السياسيّة المحكومة غالباً بالعجلة أو بالموت، ليس لأنّ الأرقام ملازمة للفكر منذ يقظاتها التاريخية الهندية والإغريقية والإسلامية والغربيّة بشكلٍ عام، ولا لأنّ دمغة الكون اليوم التي يحلّق بها الإنسان الكاشف لتفاصيل الوجود وتدفق المخترعات هي اللوغارتميّة نسبةً إلى الخوارزمي، بل لأنّ تلك الأرقام هي الأسس المتينة لوضع الإستراتيجيات والقرارات وتنفيذها، وخصوصاً وأننا عند نشرها وتعميمها على المسؤولين ومراكز الدراسات وفي وسائل الإعلام تصبح ذات مسؤولية هائلة على أوطانها وأصحابها.
أكتب هذا، بالعربيّة الفصحى، لا للنقد أو الحطّ من قيمة الدارسين والأكاديميين الكثر الذين أغرقوا الشاشات، بقدر ما ألفت إلى ظاهرة مخيفة، في المجال، قد نصادفها في الدول الكبرى أو ما يعرف بالمؤسسات والمنظمات والبنى الدولية وفق نسبٍ متّفق عليها عالميّاً. مثال بسيط هنا هوأنّ تقدير نسبة الخسائر المتعارف عليها في الميزانيات التجارية لا يجب أن تتعدّى ال5 بالمئة عند مراحل التأسيس التي لا تتعدّى السنوات الثلاثة القاعدية للسماح بالحكم على نجاح المؤسسة أو فشلها وليصبح الأمر قابلا عندها للتجديد سنوات ثلاثٍ أخرى، بينما تقدير الأرباح خاضع لسلالم ونسبٍ متعدّدة لها علاقة بالأنظمة المرعية للدول وللمؤسسات.
وأكتب هذا لأنّ لبنان الحبيب، صار مقصداً لرؤساء وموفدي دول الأرض ومؤسّساتها كما للمنظّمات الدولية المشكوك أحياناً بصدقيتها ومراميها عطفاً على تجاربها في الدول الأخرى، إلى درجةٍ بات من المعقول جدّاً السؤآل اليوم: أين يقع لبنان اليوم؟
ها أنا قد عثرت على عنوان المقال. فعلاً أسأل بكلّ اللغات: أين يقع لبنان الحبيب، بكلّ المعاني والتوقّعات؟
أتابع التدقيق المرّ في ظاهرة دلق الأرقام والنسب عندنا بشكلٍ سريع ومرتجل ونفعي في أغلب الأحيان. تلك ظاهرة مرّة جدّاً ترمينا في المتاهة الكبرى لأسبابٍ متعدّدة، أوّلها التسرّع في وضع الدراسات، وثانيها توظيف الخبراء الإقتصاديين والماليين والنقديين الذين لا يحصون ولا تدقيق بأرقامهم ونسبهم ومقترحاتهم المتناقضة والمتباعدة وثالثها، وهو الأخطر والأهم، أنّ العديد من هؤلاء أو المدّعين صفة الخبراء والمستشارين سرعان ما نجدهم كسّابين في شقوق الإنقسامات السياسية والطائفية التي أصابت لبنان وأرهقته.
ببساطة، يعيش اللبنانيون ضياعاً يعود إلى ما يمكن أن أسمّيه : إستبدادية الأرقام والنسب والتقديرات.
لماذا؟
لأنّنا بدءاُ من الإنهيارات الإقتصادية والمالية والنقدية المتسارعة، مروراً بتداعيات جرثومة الكورونا بإصاباتها المتصاعدة، وصولاً إلى المشاهد المؤلمة والمسؤوليات الكارثيّة التي خلّفها إنفجار أو زلزال مرفأ بيروت، كانت الأرقام والنسب والتقديرات السريعة والمرتجلة التي يطلقها العديد من "الخبراء" في معظم المجالات أحياناً، تترك حيرةً ورعباً جعلت اللبنانيين والمؤسسات الدولية أسيرة التشتّت والخوف والشكوك من تفاقم العجز في القبض على الحقائق كما هي، ومعرفة دقائق المستقبل. حصل هذا كلّه، خصوصاً بعد انشغال حكومة الدكتور حسّان دياب المستقيلة لتصريف الأعمال، وانفجار المرفأ الذي حوّل لبنان إلى ساحةٍ عطفٍ بل تسابق لا بل ساحة صراع إقليمية ودوليّة، وصولاً إلى الغرق في الحكومة غير المنتظرة "المستوردة" وأضعها بين قوسين بالطبع، إحتراماً للداخل والخارج متداخلين ومنقسمين ومتشبثين بمفاتيح الفساد والإفساد وكسرهما، لتصبح الحياة لا السياسية وحسب، بل العادية مستعصية بل مستحيلة. إحدى مصائب الحكومة الجديدة ظهورها وكأنّها "الحكومة السريّة" أو الصامتة في بلدٍ لا أرصدة فيه سوى الكلام والنفخ والتحريض والتحريض المضاد والتهديد والوعيد. كان على رئيسها المكلّف أو غيره الإفصاح عن مكنونات المستقبل وعناوينه بنبراتٍ واثقة مدعومة لشعبٍ مهزوم ومحروق ومدمّى وفقير في بلدٍ يسقط يوميّاً غارقاً في اللجج والأزمات والحفر كان آخرها الحرائق المتتابعة في المرفأ المنكوب.
ليس مطلوباً ومنتظراً سوى ترميم الثقة المدمّرة بالوطن!
ماذا يحصل الآن؟
الجميع في لبنان وخارجه ينظرون بعيون من القلق العارم نحو التغيير عبر التفجير.
أمّا المشهد الظاهرالمثلّث الأضلاع، فيبين واضحاً وغامضاً في ضلعه الأوّل الذي يتعقّد في الإنقسام اللبناني والإقليمي حول الحضور الفرنسي ممثّلاً بالرئيس إيمانويل ماكرون الذي بدأ يفكّر بالولاية الثانية على الأرجح’ في وقتٍ تنقسم فيه الساحة السياسية لا الشعب الفرنسي حول مبادراته في لبنان والخارج، خصوصاً وأنّ فرنسا تعيش جاليّاً ظاهرة الأحياء "الإنفصالية" الإسلامية المتنوّعة تغذّيها تركية وغيرها من الدول الإسلامية. وتبدو وكأنها معازل أوغيتوات غير خاضعة للسلطات الفرنسية وهي موزّعة في أنحاء فرنسا. ويتفاقم الحضور التركي في مشاهد الضلع الثاني لتبرز المفاجأة الغريبة العجيبة في ضلعه الثالث الفلسطيني ممثّلاً بزيارة عبّاس هنيّة المدجّجة إلى بيروت والمخيمات.
يمكن إختصار الضلعين الفرنسي التركي بالتسابق والتنافس والمغامرات بين لبنان واليونان وقبرص بضلعيها اليوناني والتركي وليبيا ومصر بالطبع، ودول الخليج العربي بعد المعاهدات مع إسرائيل. ترسو حاملة الطائرات "شارل ديغول" في البحر الأبيض المتوسّط فيسمّي أردوغان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "بونابرت الجديد"، لتلتصق به تسميةً فضفاضة هي"محمد الفاتح أردوغان" وقد ضلّ في البحر الأبيض المتوسط فرآه" هلالاً له كما حليب الأمّهات الأبيض".
أحلام تتجدّد حول البحيرة لكنّ العبر والحروب والنزاعات القصوى كلّها مقيمة في رائحة النفط والغاز.

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة