الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 14:01

قصّة - عاشقان/ بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 12/10/20 14:50,  حُتلن: 13:51

مصادفة غريبة وغير متوقعة جمعتها به. لقد غاب في ثنايا الليالي كما غابت الكثير من اشياء الطفولة التائهة في بحر الحياة، وها هي الصدفة تجمع بينها وبينه، وفي بيته الصامت. خمسة وثلاثون عاما مرت على الفراق غير المقصود، وها هي تأتي برفقة صديقة لها لقضاء بعض الامور الملحة.. لتجد نفسها امامه.. قبالته ووجها لوجه.
ارسلت سهاد اليه نظرة طفلة كبرت فجأة فبادلها النظرة، وانصرف عنها بسرعة ذكرتها به حينما كان يرسلها والداها اليه ليُدرّسها فتتحسن علاماتها المدرسية. أيامذاك كانت تغادر بيت اهلها الفقراء لمهجرين.. المستأجر، لتذهب اليه في غرفته الصغيرة المجاورة لبيتها، فيرحب بها ويأخذ بتدريسها بكل مودة واخلاص، ورغم ان عمرها لم يكن تجاوز العقد الواحد، الا ببضعة اشهر، فقد كانت تدرك بحاستها القوية، نظراته المولّهة بها تخترق كيانها لتتربع على عرش احلامها، يومذاك.. هو كان في حوالي الخامسة الثلاثين من عمره، كان اعزب ووحيدا يعيش في غرفته الوحيدة المستأجرة القريبة من بيت اهلها. وكثيرا ما ضبطته وهو يرسل نظرة اعجاب بها وبسمرتها اللافتة، غير انها كانت تفتعل عدم المعرفة، ضامة عدم الفهم الى التياسة في التعلم، في محاولة منها للتخلص من موقف قد ينتهي نهاية غير طيبة. مشاعره نحوها كانت واضحة لها تمام الوضوح، بل انها ما تزال تتذكر انه امتدحها امام اهلها، اكثر من مرة واوصاهم بان يديروا بالهم عليها فقد باتت صبية و"اغمض عينيك وافتحهما لتراها وقد كبرت". توصيته هذه قالت لها يومها بصريح العبارة انه يتمنّى لو انها كبرت ليرتبط بها، غير عابئ بفارق السن.. ايمانا منه بان الحب لا عمر له. ومضت الايام والشهور، ليأتي والدها ذات مساء حزين، ويطلب من امها ان تعد اغراض البيت لانهم سينتقلون الى بيت اخر.. وجاء اليوم التالي بتندر ليضعوا فيه اغراضهم البسيطة و.. ليرحلوا من بيتهم ذاك ليقيموا في بيت آخر بعيد، ولتنتهي علاقتهم به نهائيا، وكأنما هو كان حلما قصيرا وانتهى. عندما بلغت السابعة عشرة، جاء مَن يطلب يدها.. بسرعة وافق اهلها، لتنتقل الى بيت من سيصبح زوجها، ولتنجب هناك ابناء وبنات. غير ان صورته هو.. هو.. وليس سواه بقيت تداعب احلامها وكأنما هي ابنة الحياة الابدية.
الآن، وهي في بيته، احتارت ماذا بإمكانها ان تفعل، فقد بادلها النظرة بالضبط كما فعل عندما كانت معه في غرفته تلك، تُرى هل ما فعله.. ما هو الاعادة.. ام انه نسيها مع ما نسيه وطوته الايام؟ اذا كان هو قد نسي فإنها هي لم تنس.. وراحت تراقبه وهو يسكب القهوة في الفناجين العربية، سبحان الله هو يمسك الغلاية بنفس الطريقة الحذرة، ويسكب القهوة بنفس الطريقة التي لفتت نظرها.. برقتها وخلبت لبها.. بطلاوتها. انه يقدم القهوة الى ضيوفه، بنفس الطريقة الكريمة الطيبة الواعية للواجب العربي في اكرام الضيف. الله على تلك الايام.
ترسل نظرتها الى رفيقتها، تغتنم هذه الفرصة، لتقول لها انها مضطرة للانتقال إلى بيت إخر" لن اتغيّب كثيرا. انتظريني هنا" تقول لها فترد عليها بغير وعي منها. " سأنتظرك"، "ترى هل رتّب لنا القدر هذا اللقاء؟ تخاطب نفسها. وهي تشيع مرافقتها خلال مضيها باتجاه باب البيت. تبقى هي ومضيفها القديم الجديد. تغرق الغرفة في الصمت. كل منهما، هما الاثنين، يسترق النظر الى الاخر، وكأنما هو يريد ان يكتشف شيئا ضاع مدة اكثر من حوالي العقدين من الزمن وها هو يعود، وكأنما الزمن لم يمض.
يجلس الاثنان احدهما قبالة الآخر، ولا يفوهان بأية كلمة، يجلسان وكان على رؤوسهم الطير.. هي تتوجه اليه في محاولة منها لكسر حدة الصمت المخيم على الغرفة. "يبدو ان زوجتك ليست هنا" تقول له،" "انها في زيارة لأهلها.. اخذت الابناء معها"، يرد عليها، تعود في محاولة اخرى لمواصلة الحديث معه. تقول" تغيّرت الدنيا كثيرا.. الاولاد في هذه الفترة غير ما كنا عليه"، يتجاهل تلميحها للأيام الخوالي البواقي، يردّ عليها قائلا:" لدي خمسة ابناء. بسرعة كبرت سهاد. هي اليوم في العاشرة"، يخفق قلبها بشدة، هو لم ينسها كما خُيّل اليها، وها هو يخبرها بطريقته، انها ما زالت تعيش معه بالضبط كما هو عاش معها طوال تلك السنوات. تندفع سائلة اياه:" هل ستتأخر سهاد كثيرا؟"، "لا اعرف" يرد عليها وهو يرسل نظرة تائهة من نافذة بيته، "يا ريت اشوف سهاد" تردّد، يبتسم:" هي تشبهك الى حد بعيد". تعود الى الوراء تطوي السنوات والعقود طيا، ترجع الى تلك الايام، تتصور ان اهلها بقوا في بيتهم ذاك، وانه انتظر سبعة اعوام فقط، لتعيش مشاعر كتمتها عن اهلها وعن كل الناس، وحتى عن نفسها. اه لو ان الماضي يعود.
يغمض كل منهما عينيه، ويتوه في عالمه، كأنما هو يريد ان يعرف ما الذي حدث فيما بعد، لقد بات الآن انهما لن يعودا الى الماضي، وان ذاك الزمان قد ضرب ما تلاه بيد من حديد. مشاعر المودّة لا تموت، وانما هي تختبئ في داخلنا منتظرة اللحظة المناسبة لتعود وكأنما هي لم تولِّ، انهما هما الاثنين، الآن في حيرة من امرهما، ما يربط بينهما لا يعدو كونه صورا من الماضي.. اه لو انها لم ترافق صديقتها الى هنا اه لو انها لم تره ولم يجمعها به مكان، اه لو ان ذلك الماضي لم يكن. الف آه وآه.. تلح عليها دون ان تجد اجابة شافية واحدة.
يغيب الاثنان كل في تساؤلاته، يحاول كل منهما العودة الى الماضي، لكن عبثا، ها هما يعيشان لحظة قد تكون الاجمل في الحياة، لكنها لحظة نادرة تدمرها الاسئلة الحائرة.
تسمع الآن صوتا قادما من باحة الدار، انه صوت مرافقتها، لقد عادت. تسمع صوتها يناديها:" سهاد.."، تنتصب واقفة على قدميها، ترسل نحوه نظرة وداع.. تراه قد بات شيخا مسنا.. في لحظة واحدة.. تجرُّ قدميها باتجاه الباحة.. تعتذر لها مرافقتها" لقد تأخرت عليك قليلا"، تقول لها، لقد مرّ الوقت ثقيلا" تردّ عليها سهاد، وعبثا تحاول مرافقتها معرفة السبب.. فقد دفنته سهاد في داخلها.. ومضت برفقة مرافقتها مبتعدة عن بيت الذكريات.. وكانت الاثنتان، خاصة سهاد، كلما ابتعدت بدت اصغر.. حتى تحوّلت الى نقطة تكاد لا ترى.. وغابت في الفضاء الممتد الرحب..

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com


مقالات متعلقة