الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / مارس 15:02

إضاءة على "رحيق أيلول" للشاعر العالم عادل الحنظل/ بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 12/11/20 12:26,  حُتلن: 12:41

المعايير المعتمدة في هذه الإضاءة: الصدق. الانتماء. الالتزام. الفحوى. والمبني. هذه هي دعائم العمل الفني شعراً كان أم نثراً أم رسماً. وفق هذه الدعائم سأحاول الإضاءة على هذا العمل الشعري الصادر حديثاً.
عادل الحنظل عالم في العلوم البيولوجية والبيئية, مغترب من أصل عراقي. لا اعرفه ولا تربطني به أي علاقة غير متابعة ما يكتب. وهو ذكر خشن الملمس كما يبدو في صوره الفوتوغرافية على شاشات الصحف.
لماذا أقول ذلك؟
أقوله لكل من يكتب المقالات الكاذبة حول نصوص هابطة لمجرد أن كاتبها هو أنثى ناعمة أو رجل توسل إليه أو تربطه به صداقة. أقوله لكل من يكتب عن الشخص وليس عن النص ويزعم أنه ناقد. هؤلاء أجرموا بحق الأدب وشوهوا كل شيء.
ال "رحيق"كما يعرّفه علم البيولوجيا هو سائل مركب من مادتين: مادة الماء ومادة السكر. تفرزه الغدة الموجودة في النباتات في أماكن مختلفة من النبتة إما على الزهرة وإما على الأوراق أو عند التقاء سيقان الأوراق مع الأغصان. مادة الماء هي مادة الماء المعروفة وأما المادة السكرية فتحتوي على الجلوكوز والفريكتوز وبعض الإنزيمات التي تعتبر سر الشفاء من مختلف الأمراض عند بني البشر.
"أيلول" هو الشهر التاسع في التقويم الميلادي وهو شهر يعني الكثير للشعراء والفنانين العرب قديماً وحديثاً. وفي التراث ورد عليه الكثير من الأمثال الشعبية. وهو يوافق شهر رمضان في التقويم الهجري وشهر توت في التقويم القبطي.
في نصف الكرة الأرضية الشمالي أيلول هو حلقة الوصل بين الصيف والخريف فيكون نهاره حاراً قليلاً وليله بارداً وفي النصف الجنوبي من الكرة الأرضية هو حلقة الوصل بين الشتاء والربيع. وهو شهر مهم لدى الإغريق القدماء ولدى الأوروبيين الذين يعتبرونه شهر الحصاد, ولدى مختلف الشعوب كالأمريكيين والهنود والمكسيكيين وغيرهم. وعند العرب هو شهر الثورات والأعياد القومية وشهر المجازر أيضاً.
لماذا "رحيق أيلول"؟ وهل هي خبرة الفلاح الأصيل أم دراية العالم العارف؟
كفلاح وكمربي للنحل سابقاً أعرف أن رحيق أيلول هو الأجود والأكثف والأشد تركيزاً لاحتوائه على أقل كمية من الماء إذا ما قارناه برحيق أشهر أخرى. والعسل المستخرج من هذا الرحيق هو أجود أنواع العسل فهو حار كالفلفل الحار لشدة تركيزه واحتوائه على كميات عالية من الإنزيمات الشافية من الأمراض. وأنا على ثقة أن البروفيسور عادل الحنظل لديه معلومات أدق لا أعرفها أنا الفلاح مربي النحل.
إذن اختيار "رحيق أيلول" لم يكن صدفة، فهو أجود أنواع الرحيق. فهل قصائد هذا الديوان هي أجود أنواع القصائد؟
الديوان من إصدار دار أورت آرت للنشر- حوثنبرج – السويد. يقع الكتاب في 142 صفحة من الحجم المتوسط في طباعة أنيقة وراقية تظللها أوراق الدوالي الصفراء الأيلولية. أما الغلاف فهو من تصميم الفنان العراقي السويدي كريم سعدون، الفنان التشكيلي المجدد والنحات المبدع ورسام الكاريكاتور المميز.
تفتتح الديوان مقدمة للدكتور الشاعر والناقد المحترف وليد العرفي المحاضر في جامعة البعث في حمص وهي مقدمة ذكية تتحدث عن الشعر والشاعر وتترك للقارئ أن يقرأ هذا الديوان بطريقته التي يختارها.
القصيدة الأولى في رحيق أيلول هي "رؤية...خارج السور" وأظن أن الشاعر قصد أسلوب التفعيل الجماعي المعروف بالتفكير خارج الصندوق الذي يستعمله الناشطون الاجتماعيون في تفعيل الأفراد أو الجماعات من أجل الخلق والإبداع. فالتفكير خارج الصندوق هو شرط أساسي وجوهري للتغيير وللتجديد والابتكار والاختراع. فالتفكير النمطي هو مأساة الشعوب المتخلفة التي تركن للمسلمات وتعيش معها. وهو ما لا يفعله عادل الحنظل في ديوانه رحيق أيلول. فمن منطلق صدقه والتزامه بقضايا أمته بسبب انتمائه لهذه الأمة رغم وجوده في الغربة يصر على التجديد أو التغيير الذي لن يحصل إلا بالتفكير خارج السور أو الصندوق. لذلك افتتح ديوانه بهذه القصيدة الوارفة العميقة.
إذن الشاعر من البداية يريدنا أن نفكر خارج الصندوق لأنه هو فكر خارج الصندوق في هذا الديوان. ليس في هذا الديوان فقط وإنما في حياته اليومية والعادية. فصلاته ليست من أجل الصلاة ولا هي عبادة للصلاة وإنما هي غوص في أعماق الروح بحثاً عن الحقيقة ومناجاة حارة للخالق. فيا أيها المراءون الدجالون المنافقون اعتبروا. هذه القصيدة عميقة في معناها وجميلة في مبناها وهي بجدارة رؤية خارج السور أو الصندوق ... ورؤية ثاقبة حاذقة.
القصيدة الثانية في الديوان هي "حكايتي" وهي مونولوج درامي يصف حال مغترب يرى السعادة أمامه ولا يعيشها لما يحمل في داخله ومعه من عادات وتقاليد وندوب. يقول في هذه القصيدة:
وتحسدُ الذين يضحكون
ويثملونَ بلا تذكّرِ ما مضى
بلا شجون
فليس فيهم من لهُ أخٌ
يشيخُ في السجون
ولا ابنُ عمٍّ قطّعَتْ أوصالَهُ
قنابلُ المجاهدينَ في الدروب
ولا غريرٌ أمُّهُ شابت على فقدانهِ
هكذا هي أوطاننا لم تترك فينا إلا الجراح والندوب بقدرة طغاة جهلة لم يميزوا بين عالم وجاهل ولا بين ظالم ومظلوم.
في البيت الثاني من القطعة المقتبسة أعلاه "ويثملون بلا تذكر ما مضى" كان الشاعر يستطيع صياغتها بقالب أكثر شاعرية فقد جاءت في قليل من التصنع في"بلا تذكّر". كان يقول على سبيل المثال "ويثملون مغفلين ما مضى".
في قصيدة "خواطر من دائرة الموت" يجسد الشاعر تجربته الشخصية مع خطر الموت العبثي المباغت في مشاهد دراماتيكية مأساوية. مشاهد الرعب تطارده في بلاد الغربة فتحرمه مما حوله من ترف ورفاهية.
ما أصعب أن يعيش الإنسان في انتظار المجهول المخيف والمرعب. هذه الحالة يصعب التحرر منها وتترك أثرها على النفس والروح فيعيش الإنسان مضطرباً قلقاً:
كيفَ لا تنهالُ في النفسِ الهواجس
حين تسعى تطلبُ النور
ولا تدري
متى يأتيك مرسالُ الهلاك
ناثرا حولكَ أشلاءَ الفرائس
عندما يعيش الإنسان في دائرة الموت يفقد السيطرة على الكثير من نظمه الجسدية لتحل محلها نظم لم ينتبه لها من قبل كتجاهل الخطر حباً في الحياة وكالتسليم بأن هذا لن يحدث لي وهي من أسرار التشبث بالحياة. صدق الشاعر وعفويته وبعده عن التصنع جعله وهو يصور هذه المشاهد عالماً نفسياً دون أن يقصد. يقول في هذه القصيدة:
"قد هَوَتْ فوقي نُثالاتِ المكان
تحملُ الأنسامُ أنباءً عن الموتى
وتمزيقَ الجلود
هامدٌ كالمُثملِ في كعْبِ النهار
يركلني قلبي لكي أفهم اسرار النجاة."
إنه حب الحياة والتشبث بها. في هذه القصيدة الصادقة التي تمثل لحظات معينة من حياة الشاعر لا يرى الشاعر غير الحياة والأمن والأمان وسط جحيم الموت والدمار. فيقول بعفوية وبراءة:
"لاح لي وسط انبلاجات البصر
رَحِمٌ أفغر فاه"
كم عنيف وجارف هو الشوق للحياة والأمان عندما يُحْدِق بنا الخطر من كل جانب.
في قصيدة "ميتافيزيقيا" لا أدري هل قصد الشاعر ما ذهب إليه من مبنى غير متسلسل أم أن ذلك حدث عفوياً. ففي هذه القصيدة يتحدث عن الدربين في هذه الحياة: درب الشر ودرب الخير. يقول:
"نهجان في جوف الردى
تلقاهما...
كلٌّ يقولُ حللت أهلاً في اللقاء
هذا يقودك مغرياً"
بقيت أنتظر و"ذاك" المتوقعة بمنطق سردية النص لكنها لم تأت. ومن حق الشاعر القيام بذلك للخروج عما يتوقعه القارئ ومفاجئته. يبقى السؤال أيهما أجمل هذا البناء السردي غير المتوقع أم لو قال و"ذاك" بعد ذلك كما هو متوقع؟ أيهما أقوى؟
هذه القصيدة تطرح السؤال الفلسفي العميق هل الإنسان مسير أم مخير وللشاعر رأي في ذلك يقول أن الإنسان مسير ولكنه مخير وهذا فهم عميق جداً للدين لا مجال للولوج إليه في هذه العجالة. لا أجزم ولكنني أعتقد ذلك.
في قصيدة "خلجات" يقول الشاعر:
"مسحوا عن وردك يا وطني
قطرات ندى الأصباح"
هذا الصدق والعفوية في التعبير جاء من قلب نابض بحب الوطن الجريح. قلب لم ينس الوطن رغم سني الغربة ورغم المغريات والمباهج المحيطة بالشاعر.
أما قصيدة "خيبة" فتلخص ما ألمّ بهذه الأمة من تخلف هو نتيجة مباشرة للإيمان بالأكاذيب والغيبيات وإتباع الدجالين.
"جُرحُنا
أن شيخاً من شيوخ الجاهلية
هندم الدنيا على قدر العمامة
وقضى الحرية أن تخطو كما تهوى
ولكن في سراديب الظلام"
احتيار كلمة "هندم" جاء موفقاً جداً ويناسب السياق بعكس كلمة قضى التي أعتقد أن الشاعر كان بإمكانه استبدالها بكلمة أكثر ملائمة ك "مكّن" على سبيل المثال.
في قصيدة "يا عراق" وقع الشاعر فيما يقع فيه الكثير من الشعراء ومنهم كاتب هذه السطور، عندما تدفعه اللهفة والحرقة والوجع إلى اللجوء إلى المباشرة في الخطاب. أنا شخصياً كثيراً ما يوقعني صدق المشاعر في هذا المطب الذي يقلل من جمالية الشعر. لكنها ظلت قصيدة جميلة معبرة فياضة بالمشاعر الصادقة التي تعبر عن إنتماء لا ينفصم لوطن جريح. وأجمل ما فيها هذا التساؤل:
"هل من العدل المنزل في الطروس
أن يضم الشُمَّ سرداب لعين"
كان بإمكان ان الشاعر أن يقول "أمن" مكان "هل من" لأن الأولى أكثر ملائمة لحالة الغضب التي تستدعي الإسراع وليس الإبطاء.
في قصيدة "غنائم حرب الحانات" يقول الشاعر أن من عرف بيوت الدعارة في سوهو في لندن أو في ديترويت أو لاحق الشقراوات في باريس لا يختلف جهاده عن جهاد هؤلاء الذين يذبحون الأبرياء ويحرقون البلاد تحت شعار الجهاد في سبيل الله.
في قصيدة "ذكرى الهروب" يسرد الشاعر قصة هروبه من العراق متخفياً قبل 23 عاماً. هنا يستعمل الشاعر السرد الدرامي الحزين بهدوء وكأنه أصيب ثانية بتعب المعاناة القاسية المؤلمة التي مرت عليه حينها. وهي قصيدة جميلة باذخة مليئة بالمشاعر الصادقة.
في هذا الديوان الجميل غلافاً وتصميماً وطباعة والأجمل من ذلك فحوى ومبنى قصائد جديرة بدراسة أعمق وأشمل لا تتناول فقط بعض القصائد الواردة فيه. فكل قصائد "رحيق أيلول" عميقة وكثيفة تجسد تصويراً دقيقاً لمشاهد مأساوية موجعة تركت علاماتها في روح هذا الشاعر الإنسان المحب للحياة والذي ينظر لكل شيء ببصيرة العاقل الممحص والمتفحص.
قصائد هذا الديوان مركزة وكثيفة تماماً كرحيق أيلول .
فشكراً للعالم العارف الشاعر المنتمي والملتزم وصاحب القضية عادل الحنظل وننتظر منه المزيد.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com 

مقالات متعلقة