الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 20 / أبريل 05:02

من مذكرات ما بعد السجن وفيه: تأملات في مسافات الركض الموضعي فالبحر مغلق-أمير مخول

أمير مخول
نُشر: 20/03/20 00:06

كنا نفترش الضيق ونتقاسمه حتى يتسع وتكبر مساحاته بروح الحضور والنوايا والتكافل. وكي لا يتكوّن لدى القراء والقارئات الانطباع بأن الافتراش هو كما خارج الجدران، فما كان هو أن يقوم كل أسير بابتداع عدّته الرياضية، من صنع بديل للفرشة الرياضية سواء من بطانيات او مصليات قديمة في حين كان سعيدو الحظ قد نجحوا في قص نصف فرشة من فراش السجن ولم تسترجعها ادارته. وفي المقابل من خلال ملء قناني بلاستيكية للمشروبات الخفيفية بالملح بدلا من الأوزان الحديدية الممنوعة، بينما كان "أصحاب العضلات" يملؤون إثنين من غالونات الزيت الكبيرة بحجم 16 لتر بالملح وقليل من الماء لزيادة الوزن وإدخال أكبر قدر من الملح كي تتحوّل الى صلبة، ويخرجون صباحا الى الساحة وكل واحد معه عصا المكنسة من الحجرة المقيم فيها، لتجتمع العصي بشد وثاق اجتماعها ولا تفرَّقا، ويجري توثيق الغالونين من طرفي العصي بالتوازي بواسطة حبال جدلها الاسرى من بقايا قماش أو بقايا أكياس البطاطا الشبكية ، وهكذا تكون قادرة على حمل الأثقال. وتبقى الاوزان جاهزة للاستخدام الى حين تداهم فرقة التفتيش حجرات الأسر أو المرافق العامة في ساعات الفجر الباكرة وتصادرها، وفي صباح اليوم التالي يكون الأسرى قد جهّزوا عدّة جديدة ... وهكذا يكون سباقان، الرياضي في ساحة السجن، وسباق الأدمغة مع السجان.


في الايام الاخيرة من زمن الكورونا تداخلت عليّ ثلاثة أزمنة حضرتني مجتمعة. عدت لمزاولة الرياضة في البيت، فقد أغلقت وزراة الصحة الاسرائيلية البحر الحيفاوي وشاطئه، وقد درجتُ في الاشهر الاخيرة على استعادة عادتي القديمة في ممارسة الرياضة الخفيفة واللعب على المساحة التي تجمع رمل شاطئه وأمواجه ومسارات المشي ورائحة البحر وصوته وناسه. ووجدتني في رياضة البيت أعود الى الركض الموضعي لمدة أربعين دقيقة تتلوها تمارين لياقة. والركض الموضعي هو قطع المسافات دون الحاجة إليها أو دون القدرة على تجاوزها, لكن الغاية لم تكن المسافات بل خلق بدائل وتوازنات جديدة مؤقتة الى ان يترك لنا الوباء مساحاتنا.


لكن ما جرى هو أن الركض الموضعي ورياضة البيت، أعاداني الى رياضة زمن السجن. وهذه كانت رياضة وكانت طقوس حريّةٍ صباحية قبل أن يخيم نهار السجن الذي ينجلي مع حلول المساء وهدوئه والاختلاء الى الذات بقلبها وذهنها وخيالها، والى الكتاب والقلم والورقة. وطقوس السجن لها أُناسها بأسمائهم وشخصياتهم وأجوائهم وقضاياهم التي تختزل القضية الواحدة.

عدت الى كل هؤلاء، وأنا اجهد نفسي أكثر في الركض الموضعي الذي اكتشفت بأنه ليس موضعيا بل حملني الى مشارف غور بيسان وأطراف مرج ابن عامر حيث سجن الجلبوع، لم يدخلني إليه لكن حريتي اليوم تتسع لمن تركتهم هناك، وبالذات أولئك الذين أصبح الأملُ عصيّاً بالنسبة لهم، لكنهم لا يتركونه يفلت مهما اشتدت نوائب بؤس الحال في محيطنا الواسع. أشغَلَتني بهم الكورونا فأين يحتمون وبماذا وممّن يحتمون هذه المرة؟ أي حال هذا وأنت تدرك او تدركين بأن ظهرك الى الحائط ولا مجال للتقدّم ولا مكان للعودة الأ الحائط الذي قد يكون بذاته موبوءا!! ينصتون بقلق الى بلاغات الحذر والحظر، فينظرون حولهم لتلتقي حيرات عيونهم، فلا المكان مكان، وكل الحذر الذي يتخذونه هو خارج حدود الحذر المصادرة مسبقا.

قلقون على أنفسهم، وكلٌّ قلقٌ على أحبته المسجونين فيما وراء الجدار أو المسجونين فيما وراء الحصار يفكر فيهم يقلق عليهم وهم يفكرون فيه ويقلقون عليه.فكرت بممثل المعتقل الذي تستدعيه ادارة السجن لتبلغه بالاجراءات والتعليمات وبإلغاء الزيارات العائلية وبالتأكيد يردّون طلبه بالسماح بالاتصالات الهاتفية، ولا مجال للمواد الطبية المعقمة والكحول بالحجة إياها أي لأسباب أمنية يحظر عليه معرفتها، فيعود الى الاسرى الذين ائتمنوه ليمثلهم، وفي حقبته الخاوية خيبة يسعى الى إخفائها وتعليمات لا يمكن تطبيقها في اكتظاظ الضيق.
أواصل الركض الموضعي وخيالي هناك هناك بعيدا بعيد حيث من أصروا رغم استعصاء الامل أن يُحكِموا قبضتهم عليه، ولسان حالهم يصرخ "وإما حياة تسرّ الصديق وإما حياة تسرّ الصديق" فرغم كل الحال سيبقى: "وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة"..

مقالات متعلقة