الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 05:02

المفكر مشروعا انتحاريا

بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 15/06/21 13:24,  حُتلن: 13:36

لفت انتباهي رأي عن الانتحار الفكري، قرأته منذ سنوات بعيدة، وما زال يلح علي، كلما رأيت أو قرأت عن إنسان مفكر يتراجع عن فكرة امن بها واعتبرها إنجازا حقيقيا له ولمجتمعه.

قرأت هذا الرأي في كتاب ألفه الكاتب العربي المصري الدكتور عبد الغفار مكاوي، طابت ذكراه، عن الفيلسوف الفرنسي ألبير كامي، عنوانه "ألبير كامي- محاولة لدراسة فكره الفلسفي".

ويفيد هذا الرأي الذي ضمنه ألبير كامي كتابه " أسطورة سيزيف" ويشرحه المكاوي، إنه يوجد هناك من المفكرين والكتاب من ينتحرون فكريا، ويوضح ما يعنيه هذا الانتحار عند كامي قائلًا، انه تنازل الإنسان المفكر عن رأيه خوف سلطة ما أو حكم ما، ويقدّم نموذجًا تطبيقيا لهذه الفكرة أو الرؤيا، من العالم الإيطالي جاليليو جاليلي ( ت عام 1648)، حين قال بدوران الأرض حول الشمس، فقُدم إلى المحكمة، بدعوى انه يسئ إلى المعتقدات الدينية، أو ما إلى هذه، وحين شعر بان المحكمة قد تحكم ضده تراجع عن فكرته، حفاظا على حياته.

إن كامي وبعده المكاوي، أراد من فكرته هذه أن يقول لنا إن المفكر الذي لا يدافع عن فكرته خوف سلطة ما او تحسبًا لعقاب قد يناله، إنما ينتحر فكريًا ويغدو غير جدير بالتقدير والاحترام، فالمفكر الحق هو قدوة حسنة يتعلّم منها الآخرون ويحذون حذوها، ليس في عالم الفكر وحسب وإنما في عالم الممارسة اليومية أيضًا.

المفكر الحقيقي، عند ألبير كامي، وقد قرأته في حينه، لا يتراجع عن فكرته وإلا تنازل عن مصداقيته التي هي راس ماله، وقدّم بالتالي نموذجًا لإنسان اخرق كل ما يهمه هو المحافظة على وجوده الجسدي، الزائل طال الزمان بمكوثه في عالمنا أو قصر.

وهذا المفكر، ولأسمه مؤقتا مثقفا، كما هو عند مفكرنا الفلسطيني المرحوم ادوارد سعيد، في كتابه "صور المثقف" إنما يناضل من اجل فكرته ورأيه، وينافح عنهما، وهو في هذا النضال وتلك الحرب، أشبه ما يكون بالإنسان الذي يقرر الاستشهاد، إيمانا منه بان حياته لا تعني شيئا ما لم يتحقق له فيها من رأي، يريد أن يحدث عبره تغييرا ما في مصلحة البشرية.

ولعلّ مراجعة بسيطة لتاريخ الكتاب والمفكرين، ترينا أن العديدين من هؤلاء فضلوا الموت على الحياة، حينما شعروا أن خطرًا ما يتهدّد ما أرادوا تحقيقه من رؤى وأفكار، فكان الموت انتحارًا جسديًا، كما حصل في حالة الكاتب الياباني ذائع الصيت يوكيو ميشيما، الذي انتحر بطريقة الهيراكيري، هو المفر الأخير، حتى لا يتحصل لديهم ما رفضته نفوسهم ومجّته أفئدتهم، فتراجعوا بالتالي عن أفكار امنوا بها وعملوا من اجلها، فانطبق عليهم ما أطلق عليه ألبير كامي صفة الانتحار الفكري!!

هؤلاء الكتاب والمفكرون، وفي طليعتهم ميشيما ذاته، فضلوا الحياة الأبدية على الحياة الزائلة في هذا العالم، وكانوا يعرفون، ما عرفه الفيلسوف اليوناني الخالد سقراط، حينما " تجرع كاس الموت وما فر" حسب تعبير الشاعر العربي المصري صلاح عبد الصبور، في واحدة من قصائده المعبرة عن موقف مشابه للموقف الذي يدور الحديث عنه.

الكتاب والمفكرون الحقيقيون لا يتراجعون عما يرونه من أراء وأفكار بسهولة وتحت أي من الضغوط، وإلا اعتبر هذا التراجع انتحارًا فكريًا، وجعل كتابًا ومفكرين آخرين من أمثال كامي وبعده المكاوي، يسخرون منهم، ويدلعون إليهم السنة التساؤل، عن السبب الذي يجعلهم يتراجعون عن رأي أرادوا به تغيير الحياة أو المفاهيم الشائعة والمنتشرة بين ظهرانيهم.

وهؤلاء هم أناس طلائعيون يقولون كلمة الحق الذين يرونها بكل فخر واعتزاز، غير خائفين في قولهم سطوة مجموعة أو رهبة حاكم، وهم يقولون كلمتهم غير مترددين في قولها، كما يحصل للكثيرين من أشباه هؤلاء للأسف في فترتنا الراهنة.

الكاتب الحقيقي هو " محارب من اجل النور" كما قال الكاتب البرازيلي المعروف في بلادنا أيضا بول كويليو، في وصفه له وللإنسان المبدع، بصورة عامة، انه إنسانٌ مليء بكل ما هو خير ومحب للعالم ولأشيائه، انه يرفض الانصياع لأي من الناس، باستثناء إنسان واحد وحيد، هو ذاته، وهو يحافظ على فكرته، لأنها هي مبرر وجوده، وربما هو لهذا يرفض الانصياع لرأي غير رأيه، ولا يأتمر إلا بأمر إنسان واحد هو ذاته، ولضمير واحد هو ضميره.

هذا الكاتب المفكر حسب ألبير كامي، إنسان ذو ضمر حي، وهو يختلف بالحتم عن سواه ممن يلبسون لكل حالة لبوسها ويغيرون أفكارهم كما يغير الناس أحذيتهم.

مجمل القول إن الإنسان والكاتب الحقيقي، بصورة عامة لا يلبس لكل حالة لبوسها، ولا يتنازل عن آرائه وأفكاره تحت أي من الضغوط التي يواجهها، وإنما هو يمضي في طريق الحق، ولسان حاله يردد ما قاله الإمام على بن أبي طالب، عن عدم استوحاش طريق الحق لقلة السائرين فيه. 

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com   

مقالات متعلقة