قصة

مفتاح الكنز الجزء 8/ بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي 10:15 18/03 |
حمَل تطبيق كل العرب

 

دخلت زوجته تحمل له العشاء. منذ فترة طويلة لم تجلس معه وتحدثه. وضعت طبق الطعام ولم تذهب كعادتها. عرف أن عندها كلام وتذمر فما مر بالعائلة ليس بسيطاً. كانت كوردة هدها الظمأ متعبة لا تكاد تقوى على الكلام. قالت له أن اليهود لن يتركوه وشأنه لأن كل انتقاداته لهم تصلهم بالتفصيل. أبناء قريته وأقاربه الذين ينصحهم بالامتناع عن العمل عند اليهود ويحذرهم من التعامل معهم يوصلون أقواله إلى الشرطة. حذرته من سالم ابن أخيه وزوجته سهام التي تفتخر بتعاملها مع رجال الشرطة. قالت له أنها تعبت. ولم تعد تحتمل هذا الشقاء والفقر الذي يطاردهم. عند بنائهم للبيت حملت الرمل والأسمنت على رأسها ونقلته مع الدواب.

مشت بينها فداست قدميها الحافيتين. لم يقف أحد إلى جانبهم. نهب اليهود قطيعهم قبل أربعة عشر عاماً فجاعوا ولم يسأل عنهم أحد. استلموهم وفرضوا عليهم الضرائب الباهظة بينما الآخرون يتلقون المنح المالية من الدولة. صادروا أرضهم وفرضوا عليهم أجر فلاحتها وجني الأرباح منها بينما هي في الواقع لم تسد رمقهم. ونهبوا مرة ثانية قطعانه التي كونها بتعبه وتعب بناته. لماذا يفعل كل ذلك بنفسه وبها وببناته؟ لماذا يعذبهن كل هذا العذاب الذي لا يبدو أن له نهاية؟ لماذا لا يحط رأسه بين الروس ويقول يا قطاع الرؤوس؟ لماذا كل هذه المكابرة؟ لماذا لا يذهب مع الذاهبين للعمل عند اليهود؟. " ماذا تنتظر أن نموت جوعاً؟ ليتنا نزحنا مع النازحين" قالت ذلك وغصت بالبكاء. سألته والدموع في عينيها هل صحيح ما تسمعه انه سيتزوج. ولماذا يتزوج؟ لو ينتبه لحاله ولعائلته فربما يرزقهما الله ابنا. إن الله هو الذي يعطي وهو الذي يحرم.

document.BridIframeBurst=true;

var _bos = _bos||[]; _bos.push({ "p": "Brid_26338945", "obj": {"id":"19338","width":"100%","height":"320"} });

ضاقت الدنيا في وجه صاحب الجبل. هل ينكسر لليهود بعد كل هذا العناد والمكابرة؟ كيف سيذهب للعمل عندهم؟ سيقفون فوق رأسه ويصدرون له الأوامر وسينفذها هو كما ينفذ أوامره فدانه الذي يفلح بواسطته أرضه. لا لن يفعل ذلك حتى لو أضطر أن يفعل ما فعله آكل الذباب. "لن اعمل عند اليهود. لدينا ما يكفينا. الخيرات من حولنا وفي الجبل كل ما نحتاج" قال لزوجته التي لم تُعجب بما سمعت.

سأل نفسه لأول مرة لماذا لم ينزح مع النازحين؟. لكن حياتهم جحيم كما يسمع. لا يجدون العمل ولا يجدون القوت. لكنهم أحرار. ليسوا مثله في سجن. لو كان مكانهم لتاجر وهرّب وربح الكثير من النقود. أو لربى المواشي الكثيرة وأصبح ثرياً. تخيل طبق طعامه مغموراً بالذباب. أفواج نفقت وأفواج تحاول النجاة وأفواج تحوم فوقه. حرك طعامه وتناوله بعينين مغمضتين. كان يرى زهرة تتراقص أمامه خائفة مذعورة. كانت تعطي الأوامر للجن فينفذ دون تردد فيرتفع صوتها وتزداد أوامرها صرامة. زهرة هدية الله له لتعينه على اليهود وعلى هذه الظروف القاهرة التي وصل إليها. وستنجب له الذكور الذين سيرثونه ويحمون الجبل من طمع الطامعين.

ارتفعت حشرجة القطط الثلاث إيذاناً بنشوتهن بالدفء الذي تبثه النار المشتعلة في الموقد وسط الخيمة. هنالك علاقة وثيقة بين النار والقطط. قد تكون القطط هي مصدر النار. هل تحملها في أجسادها؟ أم النار هي التي تخبئها في لهيبها أو في رمادها بعد أن تنطفئ؟ وما علاقة السناجب؟ يبدو أن القطط عادت من مهمتها. طردت قطيع الأبقار حتى الوادي. لم يطلب منها أحد القيام بذلك لكنها بادرت إلى أخذ دورها في الصراع. القطط تقوم بواجبها على أحسن وجه. تحافظ على الجبل وتمنع الأبقار الغريبة من البقاء فيه. كانت الرياح تعوي في الخارج. حفيف أشياء تنحني وصراخ أشياء تنكسر. لن يذهب للعمل عند اليهود. لن يذهب مهما حصل. سيستخرج الكنز وسيستطيع تسخير الجن لخدمته لأن المال كثير وبحاجة للحراسة. سيصل إلى الكنز قبل اليهود. إنهم يعرفون بوجوده لكنهم لم يقرروا بعد السيطرة عليه. يبدو أنهم غير محتاجين له في هذه المرحلة التي تتدفق فيها أموال البترول العربي عليهم. لم يسخّروا الجن فقط لخدمتهم بل سخروا الملوك والأمراء العرب. الكنز سيمكنه من تسخير الجن لخدمته. سيكون أول غير يهودي يسخّر الجن ويسيطر عليه. عندها سيكون الجبل تحت سيطرته ولن يجرؤ اليهود على الدخول إليه. سيمنع الحرب التي يخططون لها وسينقذ ملايين الأرواح من الموت في هذه الحرب.

واصل صاحب الجبل لقاءاته بزهرة في كهف شجرة الخروب العملاقة. أعادا تمثيل العملية مرات عديدة. حتى حفظت زهرة الكتيب عن ظهر قلب. حددا موعداً للعملية في ساعات ما قبل الغروب من يوم الجمعة لأنه يوم مبارك وفيه خير كثير. أشعلا ناراً هادئة وهيئا كومة من الحطب اليابس. جلست زهرة على الأرض في قاع الفوهة قرب النار المشتعلة حاملة الكتيب بيد وقضيب مشتعل بيدها الثانية. وجلس صاحب الجبل قبالتها حاملاً بيده كيس البخور وبيده الثانية حفنة منه في انتظار بدء العملية. لأول مرة يرى كم هي جميلة. كانت القطط الثلاث تجوب المكان بعصبية شديدة مما جعل صاحب الجبل يوجس خيفة في نفسه. لكنه ظل متماسكاً، خبأ خوفه عن زهرة وقال لها: "هيا نبدأ...باسم الله الرحمان الرحيم". بدأت زهرة بقراءة ما في الكتيب من تسبيح وذكر لله ثم صاحت بأعلى صوتها "اخرج باسم الله". ارتفعت الصخرة بتثاقل وظهرت كومة الذهب الكبيرة. أعادت زهرة الأمر:" قلت أخرج باسم الله". وإذا بفتاة ساحرة الجمال تنتصب أمامها قائلة بصوت عذب: "أوامرك سيدتي!". لم تنظر زهرة إليها وواصلت قراءتها في الكتيب بصوت مرتفع ثم قالت: "اخلعي ملابسك" فقالت الفتاة: "وكيف أخلع ملابسي في حضور رجل؟".

لم تأبه زهرة بما سمعت وأعادت بصوت مرتفع: "قلت اخلعي ملابسك وإلا حرقتك" فأجابت الفتاة بصوت مكسور: "أمرك سيدتي، لا داعي لحرقي!" وبدأت بخلع ملابسها رويداً رويداً. ارتفع مواء القطط الثلاث التي زاد توترها وكثرت حركتها. لم تتوقف زهرة عن القراءة وصاحت بالفتاة: " اخلعي ثيابك ...بسرعة" أكملت الفتاة خلع ثيابها الخارجية ثم توقفت قائلة: "لا أستطيع أكثر من ذلك. أنا أخجل من هذا الرجل" كانت الفتاة جميلة لم ير صاحب الجبل فتاة بهذا الجمال في حياته. بدت ساقاها كالمرمر ونهداها كحبتي تفاح شهيتين تغطيهما صدرية مرصعة بالذهب. كل ثيابها الداخلية مرصعة بالذهب. مرة أخرى لم تأبه زهرة بما سمعت من توسلات الفتاة وصاحت بها من جديد: " قلت اخلعي كل ملابسك وإلا حرقتك" فأجابت الفتاة : "لا تفعلي يا سيدتي...سأنفذ ما تأمرين". بدأت الفتاة بخلع ملابسها الداخلية ببطء شديد وهي تتأوه وتتذمر. بينما زهرة تواصل القراءة بصوت مرتفع. شد منظر الجسد العاجي العاري انتباه صاحب الجبل فأصيب بالذهول من هذا الجمال الصارخ الذي لم ير له مثيلاً من قبل. نسي حفنة البخور في يده وتوقف عن رشها على النار. علا صراخ القطط وبدأت بالقفز من مكان إلى آخر. كشفت الفتاة عن نهديها المنتصبين ففارت دماء صاحب الجبل. ماذا سيصيبه عندما يرى هذا الجسد عارياً تماماً أمامه. هل سيتمالك شعوره؟. هل يمكنه الزواج مع هذه الجنية؟ ليته يستطيع وسيكون هو في خدمتها. فجأة حدث دوي شديد وضوضاء. حدث ضجيج لا يمكن تحديد مصدره. وإذا بالفتاة تنقض على زهرة كلمح البصر. انقضت عليها وحملتها كأنها ريشة وغاصت بها في الكهف فهبطت الصخرة وراءهما بعنف.

كان صراخ زهرة يُسمع وراء الصخرة كطنين النحل. سقط صاحب الجبل على وجهه وقد أغمي عليه. بدأت القطط بالاحتكاك بجسده الملقى على الأرض وكأنها تحثه على النهوض. دارت حوله وقفزت فوق جسده المتجمد. فقد القدرة على الحركة وانطلقت روحه تحلق في فراغ لانهاية له. ظلام دامس ليس كالظلام. هاوية ليس لها نهاية يسقط فيها بشكل متسارع. السقوط لم يعد يطاق. سرعته لا تطاق. الارتطام سيكون فظيعاً. نهض فجأة. نهض قبل أن يرتطم. نظر حوله فرأى النار لا تزال مشتعلة. الكتيب سقط قرب النار وكاد يحترق. أين زهرة؟ أين زهرة؟ ماذا حدث وكيف حدث؟ لا زهرة لم تختفي. لا، لا يمكن أن تستسلم للجنية. ستقنعها بإطلاق سراحها. زهرة ذكية وستقنعها أن ما عملته مجرد لعبة صبيانية. زهرة ستعود. زهرة ستخرج من الناحية الثانية. القطط تحوم حوله وتحك جسدها بجسده. عندما استند زاد مواؤها وزادت حركتها. كانت تحثه على النهوض ومغادرة المكان. لم يستطع الوقوف. خدر شديد في ساقيه. التقط الكتيب وزحف على بطنه. زحف وجسمه مفكك إلى أجزاء غير مترابطة. شظاياه تملأ المكان. زحف حتى خرج من الفوهة اللعينة. دحرج جسده في حركات غير متناسقة وأحياناً متناقضة. أراد الابتعاد عن الفوهة ما أمكن. لم يغادر أذنيه طنين النحل وراء الصخرة. لماذا حصل ما حصل؟ تذكر أنه هو الذي توقف عن رش البخور على النار. لا، لم يتوقف. فقط نظر إلى جسد الفتاة. شعر بالبرد الشديد. تقلصت عضلات جسده. القشعريرة تشتد. لا يزال قرب الفوهة والجن قد يأتي لاختطافه. الفتاة الجميلة قد تنقض عليه وتجره إلى الفوهة. جمع قواه وزحف نحو القمة. لا يستطيع الزحف. لملم جسده ودفعه إلى أعلى. القطط لا تزال متوترة وتحتك بجسده لتعطيه مزيداً من الطاقة. ما زالت تستشعر الخطر. يجب عليه الابتعاد أكثر. آلام شديدة في ساقه اليسرى. ساقه اليمنى لا يشعر بوجودها بتاتاً. آلام شديدة في بطنه. هل دخل الجن جسده؟ هل ما فعله يعتبر في رأيهم نقضاً للمعاهدة؟ ماذا سيفعلون بزهرة؟ هل قتلوها؟ كيف ستغيب عن بيت والدها؟ سيفتش عنها وسينتشر الخبر في القرية أن زهرة مفقودة. سيفتضح كل شيء. ستخرب كل مشاريعه. إن عادت يجب أن تعود حالاً وقبل غروب الشمس وإلا من الأفضل ألا تعود. زهرة يجب أن تعود. سيعود إلى الفوهة ويخاطب الجن سيتوسل إليهم أن يطلقوا سراحها حتى لو تطلب الأمر عقد معاهدة جديدة ووفق شروطهم. لن يعود لأنه هو من نقض المعاهدة. دفع بجسده إلى أعلى. كيف تفكك جسده بهذا الشكل؟ ماذا أصابه؟ فقد القدرة على التحكم والسيطرة عليه.

يجب أن يصل إلى خيمته. يجب أن يبتعد عن هذه الفوهة اللعينة. عليه أن ينسى ما حصل. وماذا حصل؟ لا شيء! لم يحصل أي شيء. كل ما في الأمر أنهم نهبوا قطعانه ونهبوا حصانه. حاول مقاومتهم لكنه فشل. سيواصل حياته مع زوجته وبناته وقططه. سيأكل من أعشاب الأرض فهو يعرف ما يؤكل منها. سيصطاد العصافير والأرانب ولن يترك عائلته وقططه تموت جوعاً. هذا اليوم كان رهيباً. لا، كان عادياً فلا أحد يعرف ما جرى فيه. أهل القرية مشغولون لا وقت لديهم. تمنى ذلك. لم يتوقع أن يصبح اختفاء زهرة شغلهم الشاغل. وكيف لا وهو حدث لا يحدث مثله كل يوم. هل رآها أحد وهي تصعد إلى الجبل؟ حتى لو لم يرها أحد فهو المتهم لأن كل القرية تعرف أنها تحبه. كل نساء القرية يعرفن أن زهرة تعشق صاحب الجبل وتنتظر استراحة بينه وبين اليهود تمكنه أن يتقدم لطلب يدها. دفع جسده مرة أخرى إلى أعلى. وقف على قدميه وسار بضع خطوات. استراح قليلاً ثم مشى. أمامه مشوار طويل. سيغير أسلوب المواجهة. سيزيد من تلاحمه مع التراب. اليوم وهو يزحف شم رائحة التراب. اليوم عرف أن للتراب رائحة قوية تشبه رائحة الخبز المحروق. أو تشبه رائحة الخيول المطهمة. أو على الأصح تشبه رائحة الأشجار غير العارية تماماً وهي تستحم بالمطر. كيف لم ينتبه لذلك من قبل؟ شعر بتجاذب شديد بين أنفاسه وبين حبيبات التراب. أراد أن يملأ رئتيه منها.

سار إلى القمة وخلفه قططه الثلاث. زهرة خرجت من الناحية الثانية. لا شك أنها خرجت. ستنتظره في مكان ما. ستأتي إليه في ساعة متأخرة من الليل وتخبره أنها هي أيضاً عقدت معاهدة تفاهم مع الجن وأصبح بإمكانها العيش في الجبل. ستأتي إليه في الخيمة وستصر على العيش معه فيها. البيوت الحديثة لا تناسبها هي أيضاً.

ما دام يصر كزهرة على التمسك بالخيمة فلماذا اختار القمة؟ الخيمة لا تناسب القمم. الخيمة تناسب الوديان والأماكن البعيدة عن الرياح والعواصف. في الصباح سينزل إلى القرية ويشتري حمارين. سيدفع ثمنهما عداً ونقداً. سيواصل فلاحة أرضه وسيزيد المساحة التي سيزرعها بالتبغ. لن يمنعه أحد من زراعة المزيد من التبغ. بناته وزوجته سيتذمرن قليلاً إلا أنهن سيقمن بعملهن على أحسن وجه. لم ينم تلك الليلة. حرث الأرض طولاً وعرضاً وزرعها بشتلات التبغ. كان يمسك بالخازوق يغرزه في التراب ويضغط عليه ومن ثم يسكب قليلاً من الماء حوله ثم يحركه بشكل دائري ليتكون حوله بئر صغير مملوء بالماء. في هذا البئر تضع زوجته أو إحدى بناته جذور شتلة التبغ وتدفنها. هذه الكمية القليلة من الماء تثير شهوة الجذور للحياة. تحفزها على اللحاق بالرطوبة المتوفرة في قاع التربة والمحمية من أشعة الشمس بطبقة من التراب الناعم تكونت بفعل حرث الأرض عدة مرات.

في الصباح الباكر راقب الشمس وهي تخرج من هضبة الجولان وتتسلق السماء. منذ فترة طويلة لم يقم بذلك. تناول فطوره ونزل إلى القرية. خيول الشرطة تملأ القرية. الجميع ينظر إليه. الناس تتهامس فيما بينها. أشاروا إليه. تقدم شرطي وسأله: "أين زهرة؟ هل صحيح ما يقال انك خطفتها وتزوجتها؟" أجاب صاحب الجبل: "أنا خطفتها؟ ولماذا أخطفها؟ والدها صديقي ولو أردت الزواج منها لتقدمت وطلبت يدها منه." تجمع رجال الشرطة حوله وتقدم احدهم منه قائلاً: "أنت متهم بخطف زهرة لذلك سنعتقلك" حاول صاحب الجبل الدفاع عن نفسه لكن رجال الشرطة سيطروا عليه ووضعوا السلاسل في يديه وهم يرددون: "أنت معتقل لأنك متهم بخطف زهرة". تجمع الناس وعلى وجوههم علامات الاستنكار والغضب. كيف فعلها صاحب الجبل؟ لماذا فضح صديقه والد زهرة وجلب له العار؟ منهم من دافع عنه ونفى أن يكون قد فعلها. ومنهم من أكد أنه فعلها لأنه أناني ويحب زهرة. ومنهم من طالب بالتأني حتى تتضح الأمور فالرجل قد يكون بريئاً. سالم وسهام كانا ممن أكد أنه فعلها بسبب دونيته وحبه لنفسه. أما هو فقد كان مقتنعاً أن زهرة دخلت من باب وخرجت من باب ولا علاقة له بالأمر لان زهرة منذ عرفها وهي تحلم. أحلامها كثيرة ويصعب تحقيقها. أبسطها حلمها بالزواج من جمال عبد الناصر أو على الأقل وفي أسوأ الأحوال من رجل يشبهه. أمثال زهرة لا يُخشى عليهم.

ساقه رجال الشرطة أمام خيولهم مكبل اليدين. تماماً كما ساقوا قطعانه. ساقوه إلى منطقة المحاجر حيث تنتظرهم عربة الشرطة. مر ببئر الخشب فشعر بالظمأ الشديد. ظمأ للماء أو للماضي الجميل. تذكر مياه هذا البئر العذبة والباردة. لم يتنازل ويطلب من مرافقيه أن يعطوه شربة من مياه هذا البئر التي يحبها كثيراً. من هنا نهبوا قطيعه الأول. هنا كانت أول مواجهة بينه وبينهم. هنا أول مرة عرف أن الأزرق قاسي وظالم وقذر أيضاً. رأى ذلك في عيونهم فكره البحر. وكره السماء. إلى أين يسوقونه وماذا يريدون منه؟

عندما صعد إلى عربة الشرطة شم رائحة البنزين المختلطة برائحة السلاح. تذكر ثورة 1936 فدمعت عيناه. تمنى لو مات في تلك الحفرة يوم دفنه تراب القصف. في تلك الأيام رائحة السلاح كانت نقية وطاهرة لا تختلط إلا برائحة القندول والفيجن والبابونج. دقائق ووصل إلى مركز الشرطة في مجد الكروم. أدخلوه إلى الزنزانة وأغلقوا الباب خلفه بعنف. صاح بهم بأعلى صوته: "فكوا يديَّ يا جبناء!" لم يرد عليه أحد وبقي على حاله عدة ساعات.

فتحوا الباب فكوا قيد يديه وقيدوا قدميه. أخذوه إلى غرفة التحقيق. رجل أسمر طويل القامة عيونه ليست زرقاء يتهمه أنه خطف زهرة وتزوج معها ويريد أن يعرف منه أين هي. أخبره صاحب الجبل انه لم يخطف زهرة ولماذا يخطفها. لكن المحقق أصر انه خطفها ويخبئها في مكان ما. اقترب منه وهمس في أذنه: "هل تحبك؟ هل ذهبت معك بمحض إرادتها؟ هل استمتعتما معاً؟ لو اعترفتْ هي بأنها تحبك وذهبتْ معك بمحض إرادتها فسنطلق سبيلك. هل فهمت يا أحمق؟". تنهد صاحب الجبل وتمنى لو أن ذلك قد حصل. قال للشرطي بصوت مرتفع: "والله العظيم لم أخطفها، ولو خطفتها لأخبرتك". "لقد قطعنا لك توقيفاً لمدة أسبوع وسنفتش الجبل خلاله شبراً شبراً فيا ويلك لو وجدناها واكتشفنا أنك اغتصبتها" قال الشرطي وأمر بإعادته إلى الزنزانة. لمدة أسبوع كان رجال الشرطة يفتشون الجبل ويقضون حاجتهم بين الأدغال وفي الهواء الطلق بينما صاحب الجبل يقضي حاجته في الدلو في زاوية الزنزانة ويشم رائحتها لعدة ساعات حتى يحين الموعد فيأتي شرطي ويأمره بنقلها إلى المرحاض. شعر بالمذلة وهو يقوم بهذا العمل. قرف من وضعه في هذه الزنزانة العفنة وقرف من الشوربة والطعام الذي يقدمونه له. رفض تناوله واكتفى بالماء. بمساعدة الكلاب المدربة فتشوا داره وخيمته. سألوا زوجته وبناته عن زهرة فأصبن بالذهول. فتشوا الكهوف والأشجار فلم يعثروا على اثر. كل يوم كان المحقق يقضي بضع ساعات مع صاحب الجبل يلف ويدور حول نفس الموضوع "خطف زهرة".

مضى الأسبوع وكأنه سنة كاملة. عاد صاحب الجبل إلى القرية بعد أن ثبت للشرطة باليقين القاطع انه لم يخطف زهرة. كانت عيون الناس تتهمه وألسنتهم ترحب بقدومه. والد زهرة اختفى عن الأنظار واعتكف في بيته. كل عمليات البحث والتفتيش التي قامت بها الشرطة لم تجد نفعاً. كل أهل القرية شاركوا في البحث لكنهم لم يعثروا على شيء. انتشرت إشاعة في القرية أن زهرة هربت إلى مكان بعيد. هذه الإشاعة خففت من حزن وغضب والدها. ما كان يخيفه ويقلقه أنها خطفت صاحب الجبل ومارست معه حبها له. هذا لو حصل لجلب له العار الأبدي ولأجبره على ربط رأسه بخيط دلالة على الخزي الذي لحقه.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com  

 

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربة المستخدم. هل تسمح؟

عنوان: اختبار طريقة اختبار الشارع P.O. 60009 دولور / ألاسكا

الخامس +1 234 56 78

فاكس: +1 876 54 32

البريد الإلكتروني: amp@mobius.studio