الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 09:02

ثقافة الهروب - بقلم : محمد كناعنة – أبو أسعد

كل العرب
نُشر: 24/09/09 07:36,  حُتلن: 15:48


في زمن العجب والعجاب أصبحَ الكلام الحق فيه حرج، وكلمة الرجال تبحث عنها كالبحث عن الإبرة في كومة القش، والإشارة إلى الخطأ هُنا أو هُناك يحتاج إلى جرأة، طبعا هناك أكثر من وجهة نظر حول وصف الخطأ، وتحديد الصواب، وتعريف الحق، وما معنى الرجولة.
في ظلّ هذا "التقدم" في المفاهيم واعتبار أن الخلاف حولها ما هو إلاّ حرية تعبير عن الرأي، التحاقًا بركب مقولة "أنّ الخيانة وجهة نظر"، نرى لزامًا أن نستعد لمرحلة ما بعد الهروب، حتى لا نبقى نعيش حالة ردة الفعل، وإنما أن نبادر إلى فعل يخفف وطأة تلك المرحلة القادمة حتمًا على صهوة حصان الانفتاح المجتمعي، والتقدم والتحضر خاصة ذلك الممول أمريكيًا وصهيونيًا.
في هذا الزمن أصبح الهروب سمة من سمات الأبطال والبطولة، وغدا الصمود أو المواجهة تهوّر، والمداهنة لغة العصر والحقيقة غائبة أو مغيبة، والمنافق يجلس بصدر الديوان، وأهلين أبو فلان وأبو علان، والسيارة من الوكالة بترد السلام حتى لو كان صاحبها سمسار أراضي، والشاطر إلي بقعد جنب الشوفير. والولد حامل مُسدس وسباق السيارات بعد نُص الليل بين "أبناء الذوات"، والي مش عاجبه يدير وجهه ويعمل حاله مش شايف. (الآن في هذا المساء وأنا أكتب هذه الكلمات يدوي في غرفتي صوت الرشاش مرة تلو الأخرى في "فرح" إحدى العائلات).
ما دفعني لهذا الحديث، ليس الظواهر الخارجة عن كل تقاليد وأخلاق مجتمعنا فقط، وإنما طريقة تعاطي المجتمع مع هذه الظواهر، وأقصد المجتمع بمختلف مركباته، وخاصة الأحزاب السياسية وقيادات محلية وقطرية ومسؤولين ورجال دين وعلم وثقافة. حيثُ نرى قيادات أحزاب وشخصيات وطنية ودينية تشارك في مناسبات يطلق فيها الرصاص ولا يحركون ساكنًا، ونسمع ونرى عن أبناء
قبل أيام تواجدنا في جنازة في القرية وذلك في ساعات المساء، وخلال مراسيم الدفن كنا نسمع صوت "الستيريو" وأغاني الطرب كأننا في حفلة واحدة، سهرة عروس وجنازة، يا لسُخرية القدر، ألا يمكن تأجيل الغناء نصف ساعة حتى تنتهي الجنازة وهذا أضعف الإيمان، وهذا المشهد يتكرر ويتكرر في كل بلدٍ وبلد.
قبلَ أيام أيضًا ودّعنا شهر رمضان والعيد، وفيما مضى كان يعلن عن موعد الإفطار بالمدفع مع آذان المغرب، واليوم لم نعد نسمع صوت الآذان من شدة أصوات المفرقعات النارية، وأصبح هذا الإزعاج المتكرر في ساعات الليل حتى السحور لدرجة تثير الانزعاج والغضب والقرف، وخلال أيام العيد تحول هذا النمط من الفرح إلى كابوس يقض مضاجع الكبار قبل الأطفال الصغار، ونتحدث هنا عن شهر الرحمة والعبادة وما يُصرف في أقل قرية عربية يصل إلى ملايين الشواقل على المفرقعات فقط، وبالمناسبة لا نلحظ مثلا هذه الظاهرة في المستوطنات والمدن اليهودية، ورغم وجود قانون يمنع بيع هذه المفرقعات لخطورتها، ألا يعرف جهاز "الأمن" و "الشرطة" أين يقع المصنع الذي يصنع هذه المواد الممنوعة. ألا يجعلنا هذا نضع علامات استفهام وسؤال حول دور هذه الأجهزة في هذه التجارة، التجارة براحة الناس وأمنهم وأمانهم وأموالهم ونسيجهم الاجتماعي، نعم هناك عديد من التساؤلات حول المستفيد من هذا الذي يحدث في مجتمعنا.
هذه الظاهرة ليست محصورة بطائفة دون الأخرى أو ببلد دون الآخر، فقبل فترة قصيرة أيضًا كان عيد الصليب الذي لم يهدأ فيه طوال ذلك النهار إطلاق النار والمفرقعات في بعض القرى والمدن العربية، ورغم كل دعوات رجال الدين والمسئولين إلاّ أنّ هذه العادة ما زالت مستمرة وآخذة في التصاعد.
إنّ هذا الصمت الذي يخيم على أصوات والرشاشات والمسدسات في ليالي قرانا وعلى دوي مفرقعات الفرح المشوّه، ما هو إلاّ صمت الساكت عن الحق، صمت الشياطين، وليس هذا التحول الحاصل في نهج وتصرف بعض من أفراد المجتمع العربي إلا هروب من مواجهة الواقع، واقع الاحتلال والمصادرة والتمييز العنصري، إنّه هروب من ضرورة المواجهة، مواجهة السياسة العنصرية الفاشية، مواجهة مخططات الترحيل والطرد والتهجير، إنّ هذه الظواهر الموجّهة أو العفوية منها إنما تفعل فعلها في تفتيت الهوية الجماعية وتهدف في ما تهدف عبر من يغذيها إلى طمس هذه الهوية.
يحلو للبعض أن يسمى الهروب بطولة، والحاصل اليوم هو هروب اختياري ولا اسم له إلاّ هروب، وللتغلب على هذه السمة السلبية ليس لنا إلاّ أن نواجه هذا الواقع والعمل على التغيير، أن نتبنى خيار المقاومة، نعم المقاومة لكل أشكال العجز والتخريب المجتمعي، بدأً بالتمويل الصهيو - أمريكي وليس انتهاءً عند مشاريع تحديد النسل المشبوهة، وإغراق المجتمع العربي بالسلاح والمفرقعات.


* أمين عام حركة أبناء البلد

مقالات متعلقة