الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 10:02

مقال عن الاستهلاك وترشيده- بقلم: رجا زعاترة

كل العرب
نُشر: 04/12/09 15:42,  حُتلن: 15:18

* موضوع ترشيد الاستهلاك وتحويله إلى "آلية نضالية" ينطوي على أسئلة سياسية وأيديولوجية مركّبة تتطلب أجوبة مدروسة

* ترشيد الاستهلاك سلاح ذو حدّين، تتطلب إجادة استخدامه تفكيرًا معمّقًا ونفسًا طويلاً، من أجل تخطي "الفزعويّ" والانطوائي نحو الاستراتيجي الفاعل والمؤثر

مع صعود اليمين إلى الحكم في إسرائيل وبلوغ العنصرية ذروات جديدة رسمية وشعبية، تتزايد في الآونة الأخيرة الممارسات العنصرية المباشرة والمفضوحة تجاه الجماهير العربية وتجاه المواطنين العرب كأفراد. والفريد في قضية شبكة "كروكر" للملابس، مؤخرًا، لم يكن أنّ إحدى المديرات رفضت تشغيل عامل/ة "من الطيبة"، فمعظم المحال التجارية لا تشغّل عربًا سواءً أكانوا من الطيبة أو فسوطة أو من الكرمل الفرنسي في حيفا. الجديد في هذه الحالة كان أنّ أحد العاملين سجّل أقوال تلك المديرة ليكشف مركز "مساواة" النقاب عنها.
في نيسان الماضي طُرد الأستاذ الجامعي رمزي سليمان وابنته من مطعم "إيزابيلا" في حيفا إثر احتجاجهما على رسومات وكتابات تشيد بقتل الأطفال (الفلسطينيين طبعًا) على قميص أحد النوادل، فبادر البعض إلى حملة أو "حُمَيْلة" لمقاطعة المطعم لم يعلن أحد انتهائها أو استمرارها؛ في تموز الأخير أنتجت شركة "سلكوم" شريطًا دعائيًا يؤنسِن الاحتلال (لعبة كرة قدم "عابرة للجدار" بين جنود إسرائيليين وأطفال فلسطينيين) وبعد إثارة الموضوع في الإعلام المحلي وتحرُّك أعضاء كنيست والتهديد بخطوات مقاطعة واحتجاج استهلاكيّيْن أوقفت الشركة بث الدعاية دون أن تلبي مطلب الاعتذار؛ وقبل عام أو اثنين أعلنت إحدى الصحف، بدراماتيكية شديدة، عن حملة لمقاطعة شركة الطيران الإسرائيلية "إل عال" احتجاجًا على سياسة التفتيش العنصرية المُهينة، و"هذاك وجه الضيف".
في الحالات الثلاث أعلاه كانت هناك ردّة فعل فورية، وبنوايا طيبة طبعًا. لكنها وكما يحدث غالبًا لم تخرج عن النطاق "الفزعويّ" الذي بات من شيمنا الأصيلة في كافة مناحي الحياة. لكن المشكلة الجوهرية تكمن في فكرة ترشيد/ توجيه/ تنظيم الاستهلاك كبديل لـ، أو في أفضل الأحوال بمعزل عن، سائر علاقات الإنتاج، وبالأساس عن تنظيم العمل. خاصة حين نتحدث عن مجتمع مهمّش تقتصر صلته بالعملية الاقتصادية برمّتها على الاستهلاك دون سواه. فهل ثمة أكثر سريالية من أن يقصد العربيّ "كنيونًا" أقيم على أرض صودرت من قريته، ويدرّ دراهمه القليلة على "مكدونلدز" أو "عليت"؟! لا أقلّل طبعًا من أهمية أي جهد يُبذل في هذا المجال، شريطة أن يتوافر فيه عاملا المنهجية (المثابرة) والشمولية. وتلك الأخيرة (الشمولية) تعني اتخاذ موقف واضح وفاعل عندما تفصل شبكة مقاه مثل "أروما" عاملةً أثيوبية، لا لشيء سوى لون بشرتها، وتعني، أيضًا، أن نبدأ بأنفسنا، وليس بأهل النرويج أو بريطانيا العظمى، مربط كل خيول مقاطعتنا.
ينطوي موضوع ترشيد الاستهلاك وتحويله إلى "آلية نضالية" على أسئلة سياسية وأيديولوجية مركّبة تتطلب أجوبة مدروسة. ولا شك في أنّ النزعة الغالبة على تفاعلنا مع الموضوع عاطفية وليست عقلانية وبالتأكيد ليست إستراتيجية (ربما باستثناء حالة "كروكر" الأخيرة). فكل إنسان وطني أو شبه وطني لن يشتري من "كروكر" في الأسابيع القريبة، لكنه قد يفعل بعد سنة. ونفس الشخص قد يذهب غدًا إلى أقرب "سوبر ماركت" ويعبئ سلته بما لذ وطاب من منتجات المستوطنات في الضفة أو الجولان المحتلين دون أن يدري.
كما يعرّي الموضوع أو يعيد تعرية ما يسمّى "صحافتنا المحلية". فمعظم وسائل الإعلام بما فيها الحزبية لن تخاطر بقطع شعرة معاوية مع أي مكتب إعلانات، وقد يتحوّل الأمر (كما حدث في حالة "سلكوم") إلى صولة جديدة في داحس وغبراء مكاتب الإعلانات وعشرات وسائل الإعلام التي تحارب على كل نصف صفحة وكل إنش من إعلانات "اللبام". ومع أنّ هناك أكثر من 30 جريدة عربية أسبوعية قطرية ومنطقية فإنّ التحقيقات، كغيرها من أركان الصحافة، مفقودة شبه كليًا، وبالأخصّ في المجال الاقتصادي والاستهلاكي الخاضع كليًا لمواد الـ "ع.ع" و"فلسفة الـ ع.ع"، إن جاز التعبير.
الواقع، من جهته، يؤكد خيبة تلك الفرضية القائلة بأنّ "السوق هي الحل" لأنّ "يدها الخفية" ستؤدي إلى جسر الفجوات ولأنها، بخلاف الدولة، "غير منحازة قوميًا". فالواقع يقول إنّ ثمة ارتباطًا (أو تعالـُقًا Correlation) واضحًا بين "القومي" و"الطبقي" في القطاع الخاص أيضًا. كما تعلـِّمنا التجربة أنّ الخصخصة ليست "جيّدة للعرب" بالضرورة، وأنّ عطّار الخصخصة لا يصلح ولا يريد أن يصلح ما أفسدته عقودٌ متتالية من سياسة "الدمج بدون تطوير" السلطوية.
خلاصة القول إنّ ترشيد الاستهلاك سلاح ذو حدّين، تتطلب إجادة استخدامه تفكيرًا معمّقًا ونفسًا طويلاً، من أجل تخطي "الفزعويّ" والانطوائي نحو الاستراتيجي الفاعل والمؤثر.

مقالات متعلقة