فتح أول عيادة أطفال في الناصرة أواخر الأربعينيات * أصبـح المدير الأول لمستشفى النمساوي في الناصرة * رئس قسم التقييم والتشخيص فـي مستشفى الأطفال في جامعة أوكلاهوما الأمريكية.

التقيته في بيت شقيقه يوسف سروجي في الناصرة، وصل من امريكا هو وزوجته (عفّت) في زيارة سريعة احتفل خلالها بصدور كتابه الصادر بالأنكليزية " زقوقيا من الجليل".
ولد د الياس سروجي عام 1921 في الناصرة لعائلة عريقة والتي وصلت الى الناصرة منذ العام 1720 ، وتوجد حارة في البلدة القديمة اسمها حارة السروجية على اسم العائلة.
إذاَ فهو في السادسة والثمانين من عمره ، ولكنه ما زال يبدو وسيما وذاكرته ممتازة، يتحدث بلغة عربية سليمة رغم غربة زادت عن الأربعة عقود معظمها في الولايات المتحدة الأمريكية. تعلم الإبتدائية في الناصرة لثلاث سنوات في مدرسة السيلزيان ، ثم درس الثانوية في مدرسة (برمانة العالية) في لبنان عام 1934، تلك المدرسة التي جذبت اليها طلابا من مختلف الأقطار العربية وخصوصا من فلسطين، بعد عام انضم اليه في الجامعة الدكتور عطا الله شيبان من الرامة والذي سيصبح صديقه بقية العمر. يقول د. الياس: "كان معظم المديرين في مدرسة رمانة من الإنكليز لأنها تابعة لجمعية ( الفريندز) التي لها فرع في رام الله حتى الان.
يقول: "في العام 1937 أنهيت الثانوية والتحقت بالجامعة الأمريكية في بيروت، وهذا لم يكن سهلا فالكثيرون من الطلاب تركوا الدراسة قبل الإنهاء بسبب الوضع المالي الصعب ولكنني من الذين واصلوا دراستهم وبعد ثلاث سنوات من الإعداد دخلت كلية الطب في الجامعة الأمريكية!
في العام 1944 تخرجت من كلية الطب ثم تخصصت في قسم الأطفال والى جانب رغبتي هذه شجعني الدكتور كونستر وهو من اصل الماني لُقب بـ(النمساوي) كانت له عيادة في الناصرة، أصبح المدير الأول لمستشفى (النمساوي)، والذي صار الدكتور الياس السروجي أول رئيس له في العام 1961.
قبل هذا وبعد عودته الى الناصرة افتتح عيادة لطب الأطفال في الناصرة ومن هذه العيادة استوحى كتابه" زقوقيا من الجليل" لم يكن وقتها أي طبيب مختص بالأطفال، كان هو المختص الوحيد في الجليل في هذا المجال، وهناك حدثت معه نوادر وطرائف لا تحصى وقد جمعها في كتابه الى جانب الأحداث والتغيرات السياسية التي طرأت على البلاد في تلك الحقبة!
يذكر جَدّة من عيلوط جاءت الى عيادته ومعها طفلان مريضان فعالجهما ودفعت له الجدة عشرة قروش ثم طلبت منه أن يعالجها هي أيضاً فأخبرها أنه مختص بطب الأطفال ولكنها لم تستوعب الأمر وأثناء خروجها التفتت اليه وقالت له "الله يطعمك وتتعلم للكبارعشان أتحكّم عندك".
في العام 1967 ترك الناصرة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لكي يستلم إدارة برنامج في قسم الأطفال في الجامعة يعتني بطب الأطفال الوقائي والإجتماعي!
وفي سنة 1975 عند نشوب الحرب الأهلية اللبنانية لم يستطع الإستمرار وتقديم خدمات الطب الوقائي ، كذلك انتهت منحة كانت قد قدمت له للعمل في هذا البرنامج فغادر الى الولايات المتحدة ليلتحق بجامعة أوكلاهاما، ليعمل رئيساً في قسم التقييم والتشخيص في مستشفى الأطفال في الجامعة حتى خروجه الى التقاعد عام 1998.
ما هو كتاب "زقوقيا من الجليل"؟
يحدثنا عن قصة كتابه الذي تفرغ لكتابته بعد خروجه الى التقاعد، في العام 1984 حصل على سنة تفرغ من جامعة أوكلاهاما لأعداد برنامج دراسي لكلية الطب في جامعة الخليج العربي في البحرين والتي اشتركت في تأسيسها دول الخليج، وهناك في البحرين كان كثيرون مثله من اصل فلسطيني، كان من الطبيعي عندما يلتقون ان يتحدثوا عن ذكرياتهم في فلسطين وعن الذي جرى ويجري فيها، كانت هناك دكتورة اسمها (مي صيقلي) وهي أستاذة في التاريخ في جامعة البحرين فحفّزته على كتابة مذكراته وخصوصا عن حقبة ممارسته للمهنة في الناصرة، وعن ما جرى في تلك الحقبة من أحداث سياسية!
وبالفعل فقد جمع في الكتاب أحداثاً سياسية وطرائف اجتماعية على امتداد الفترة التي مارس فيها المهنة في الناصرة. وكما جاء على غلاف الكتاب "هي قصة حياة لمؤلف هو شاهد عيان على أحداث من ذلك الزمن"
ولكنه ركّز أكثر على طُرف حدثت معه خلال عمله: "هذا العمل الذي قربني من الناس وعقولهم وآلامهم، ومن خلال عملي تعرفت على عادات القرى ولباس اهلها ولهجاتهم التي اختلفت من قرية الى أخرى.
الجـدة عــرفت مـــرض (الـتـفـويـل) vafism قبل اكتشافه طبيا!ً
يذكر الدكتور إحدى الطرف الطبية التالية" زارتني جدّة مع طفل عمره ستة أشهر من عرب الكعبية، وكان الطفل في حالة خطرة إذ كان شاحب اللون لدرجة كبيرة ولاحظت أن بوله ذو لون دموي وكان هذا في أوائل عام 1947 قالت العجوز: " رَبِعنا( يفوّلون) وأنا لم أفهم ما معنى هذا لأن الطب في تلك الحقبة لم يعرف هذا المرض بعد الذي حمل فيما بعد اسم favism ( التفويل ) وهو ناتج عن التأثر بالفول الأخضر من خلال أكله وحتى مجرد شم رائحته، وهو يؤدي الى تكسّر في كريات الدم الحمراء وهذا وُصف فيما بعد بسنوات لأنه لم يكن معروفا في الطب حتى تلك الفترة .
ويحكي طرفة أخرى" سيدة أخرى من عرب المزاريب كان معها طفل مصاب بحمى الأمعاء أي بالتقيؤ والإسهال، وكانت حالته صعبة إلآ أن والدته رفضت نقله الى المستشفى، أفهمتها أنّها يجب أن تسقيه سوائل بسبب النشاف الذي اصابه، وكانت زوجتي تساعدني في العيادة فارشدتها بأن تغلي الماء وتسقيه الشاي كذلك ماء أرز مع الملح بقدرملعقة أو اثنتين كل خمس دقائق ! حينئذ تساءلت الجدة " وشنو هِن الخمس دقائق" أي ماهو طول الخمس دقائق "!
لاحظت زوجتي التي رافقتني في عملي كممرضة أن هذه السيدة مُدخّنة فقالت لها أن الخمس دقائق هي مدة تدخين سيجارة ! ومضت السيدة بعد أن طلبنا منها إعادة الطفل في اليوم التالي لنرى ما طرأ عليه،عادت والطفل في اليوم التالي وسألتها زوجتي عن صحته فقالت الجدة: "الولد مليح بس أنا صرت مريضة من الدخان" فقد صارت تدخن بكثافة لقياس مدة الخمس دقائق"
ويمضي الدكتور محدثاً" خلال عملي تقرّبت من الناس خصوصا القرويين وصرت أعرف كل عائلات الجليل، تعرفت على طريقة لباسهم ولهجاتهم، من خلال اللهجة بالإمكان معرفة بلد الشخص، كذلك من لباسه فمثلا أهل طمرة الزعبية كانوا يلفون رؤوسهم بعصبة خاصة تختلف عن اهل لوبية وطرعان، كذلك فإن شروال أهل طمرة الزعبية يصل الى الكاحل وألوانه زاهية ! وغيره.
الممرضة (عفّت) رفيقة دربه منذ أيام الدراسة
الى جانبه جلست زوجته ورفيقة دربه(عفّت عسيران ) تعرف عليها اثناء الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، إذ درست التمريض هناك وهي لأب شيعي كان قد هاجر الى البرازيل وهناك تزوج سيدة برازيلية وعندما عاد الى لبنان كان عمر عفّت 12 عاما، في العام 1948 انقطعا عن بعضهما لسنتين ثم التقيا في العام 1950 في باريس، وهناك تحصل (عفت) على تأشيرة دخول الى اسرائيل فتأتي للعيش معه في الناصرة وليعقد قرانهما في الكنيسة عام 1950، وقد رزقا بأربعة أبناء ماري سيسيليا تعمل في وزارة الصحة وسناء مسؤولة في قسم البحوث الطبية في قسم الأطفال في جامعة اوكلاهاما، وسليم مهندس كيماوي وصاحب مصلحة، اما نبيل فهو جرّاح عيون.
الحنين للوطن
عن الغربة والهجرة وإذا ما كان نادماً على شيء يقول" لست نادما على أي شيء قمت به في حياتي، كانت لي فرصة العمل كطبيب في شركة أرامكو للبترول كثاني طبيب عربي يعمل فيها، ولكنني وقتها عدت الى الناصرة وساعدت أطفال بلدي ولست نادماً على ذلك كذلك لست نادماً لسفري فيما بعد الى أمريكا!
ولكن حنينا يأخذ المغترب الى بلده الأصلي، ولهذا فهو يزور أشقاءه وأصدقاءه مرة كل ثلاث سنوات في الناصرة، وفي امريكا يعقد اجتماع سنوي لجمعية تسمى جمعية أصدقاء الناصرة يتعرفون فيها على بعضهم، كذلك تقام حفلات، آخرها كانت هذا العام غنّت فيها (مي نداف )أغاني نصراوية ألهبت الجمهور، كذلك فإن هذه الجمعية تعمل على جمع التبرعات لمؤسسات الناصرة كالمستشفيات مثلا.
الناصرة زمان والآن
سألناه كيف ترى الناصرة زمان واليوم ! فقال " وضع التعليم تحسّن كثيرا فقد أدرك الناس انه ليس لهم من سلاح سوى العلم، وفي كل بيت نجد أكاديميين، ولكن في الناصرة يوجد اكتظاظ سكاني كذلك غابت الخضرة التي ميّزت المدينة في الأيام الخوالي! إذ كانت تحيط الأشجار المثمرة بكل بيت ولكن هذه غابت! ويقول عن علاقات اهل الناصرة ببعضهم " أولا يجب أن ننسى ما يفرّقنا وأن نتعاون مع بعضنا البعض لنحسّن الأحوال رغم الصعوبات يجب المثابرة ، ممنوع إدخال اليأس الى الجيل الجديد ويجب الرّقي الى مستوى الإنسان العميق ، وأن نتفهم بعضنا أكثر وننسى الفوارق بيننا وهي فوارق طفيفة يجب ان لا نعيرها اهتماما.
تستحق الناصرة أن تكون فيها جامعة. وعن الغربة يقول " الغربة ليست سهلة خصوصا البعد عن الأهل والأصحاب، كذلك التمييز ضد المهاجرين في البدان الأجنبية يضايق جدا ولا أنصح أحداً بالهجرة ، ولكن من يضطر الى الهجرة عليه ضمان ظروف معيشة ورعاية، وفي الوقت ذاته لو بقيت في الناصرة لما حققت كل طموحاتي!
الجلسة مع الدكتور إلياس ممتعة جدا فهو مازال ممتلئاً بالحيوية رغم بلوغه السادسة والثمانين، ولا يمكن في جلسة واحدة أن نلم الا بالقليل القليل من تجربته الطــويـلــة والغنية، في كتابه الممتد على مئات الصفحات نجد الكـثير من الطرائف التي تشير الى المستوى الثقافي والطبي والإجتماعي في تلك الحـقبة من اواســـط القرن الماضي ،وكذلك يمر خلالها على الأحداث السياسية التي تفاعلت في حينه، ولهذا يأمل الدكتور الكاتب أن يجد ناشراً وترجمة لكتابه الى لغة الأم العربية فهل تجد هذه الدعوة اذنا صاغية لدى الناشرين والمترجمين العرب ! إنّه كتاب بلا شك يستحق الترجمة وليس الى العربية فقط !طبعا سألنا الكاتب عن سر تسمية كتابه " زقوقيا من الجليل" فقال أنها زهرة عصا الراعي التي أحبها أكثر من غيرها من زهور الجليل،ولكن اذا قرر ترجمة الكتاب الى العربية فسيطلق عليه اسم شقائق من الجليل.