الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 01 / نوفمبر 00:01

سلمان ناطور بعد كارثة الكرمل :الطبيعة وضعت هذه الدولة المنتفخة أمام حقيقتها

كل العرب
نُشر: 10/12/10 19:27,  حُتلن: 07:48

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

سلمان ناطور بعد كارثة الكرمل :

 مشهد الداخل الثقافي هو مشهدنا نحن الذين بقينا في الوطن على أرضه وتحت سمائه

وجدنا أنفسنا في وطننا لكننا منفيون فيه. نصارع لنبقى ولنحيا أولا ولنعيد تشكيل هويتنا وثقافتنا ثانيا

 لتكن مؤسسته الثقافية مؤسستنا، كما ينبغي أن تكون

لا نتوقف عند ذاكرة الموت بل نبني ذاكرة الحياة معها لكي لا ننتحر أو نرتكب الجريمة

تطرق الكاتب سلمان ناطور الى موضوع احتراق الكرمل من وجهة نظره الأدبية والسياسيه وذلك في افتتاح مؤتمر الثقافة الفلسطينية في جامعة الخليل حيث تحدث عن موضوع ثقافة الداخل عن المنفى في الوطن وذلك من خلال الشهادة التالية :
جئتكم من جبال ووديان الكرمل الذي ظل يحترق أربعة أيام متواصلة.
جريمة بحق الانسانية
هامات الشجر الأخضر تحولت إلى لهب حارق وسرعان ما صارت حطبا وعيدانا سوداء، وضعتنا نحن الناس العاديين أمام عجز قاتل، كنا ندركه تماما، مقتنعين أننا لا شيء أمام الطبيعة حين تغضب ولكنها وضعت هذه الدولة المنتفخة أيضا أمام حقيقتها، وهي أنها لا شيء أمام الطبيعة حين تغضب.
لا نشمت لاشتعال النار، فالأرض أرضنا والشجر شجرنا والطيون طيوننا وهكذا الثعالب والعقارب والنحل والفراش وما ليس منا ولنا هو ما يقيمونه على هذه الأرض الطيبة من هشاشة وزيف وطقوس للموت ونصب للهمجية وكره لأصحاب البلاد المقيمين عليها والمبعدين عنها.
من حقنا نحن أهل هذه الأرض أن نتهمهم بارتكاب جريمة بحق الانسانية على احتراق الكرمل أيضا لأنهم احتلوا هذه القطعة من الجنة ولم يصونوها.

***
ثقافة الوطن لا تكتمل إلا بثلاثة
مشهد الداخل الثقافي هو مشهدنا نحن الذين بقينا في الوطن على أرضه وتحت سمائه، وكان علينا أن نحافظ على أنفسنا وكان علينا أن نحافظ عليه أو على ما تبقى من فلسطينيته، ترابا وحجرا وتراثا ولغة.
صحونا من هول النكبة واذا بنا على الخط الأمامي في المواجهة السياسية والفكرية والحضارية ضد الصهيونية، مقطوعين عن أمتنا الأم ولا نتواصل إلا عبر أثير مشبوه ومربك وقصائد تتسلل إلينا من فضائنا الكبير اعتبرناها شيفرة العلاقة الحميمة بيننا وبين أهلنا وشعبنا وامتدادنا الأفقي.
كان على هذه القصائد أن تزاحم في وعينا ما اندس فينا من أشعار لحايم نحمان بياليك المهاجر من بلاد الصقيع وشرنيخوفسكي وغيرهما ممن صاغوا هوية المستوطن الجديد. وأنا الذي ارسلني أهلي يافعا إلى حيفا لم يقل لي أحد إن بيت شاعرنا القومي ابي سلمى، المهجر من حيفا الدافئة، لا يبعد عن مدرستي أكثر من خمسين مترا.
هكذا وجدنا أنفسنا في وطننا لكننا منفيون فيه. نصارع لنبقى ولنحيا أولا ولنعيد تشكيل هويتنا وثقافتنا ثانيا.

القصائد النارية
هي ثقافة المنفى لأن ثقافة الوطن لا تكتمل إلا بثلاثة: على أرض هي لك ووسط شعب هو لك وفي نظام هو لك ولنا أرض وشعب وأما النظام فهو عدو فرض حاله علينا وحد من حركتنا وقولنا ولا يربطنا به سوى ما ييسر أمر يومنا، يسلب منا نصف جهدنا وأكثر ولا يعطينا إلا فتات ما بقي عنده من صرف على حاله.
كتبنا عن الأرض وغنينا لها كما يليق بها ويليق بنا ونظمنا القصائد النارية دفاعا عن شعبنا وحبا له، كل ذلك في غياب مؤسسة توفر ما على المؤسسة أن توفره.
هي ثقافة بلا مؤسسة ولا مشروع. رومانسية إلى حدود العبث، ساخرة حد البكاء ومقاومة بلا هوادة. وما أدل على منفويتها أكثر من صرخة شاعرنا: سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف، فأين تجدون على الكرة الأرضية شاعرا يقول لحاكمه سجل أن أنا هو أنا، إلا اذا قال له حاكمه وهو يجلده: أنت لست هو أنت. والبيت ليس بيتك.
أين تجدون على الكرة الأرضية جماعة أصلانية تعلن ولاءها لوطنها وشعبها صباح مساء كما يعلن فلسطينيو الداخل: نحن جزء لا يتجزأ من شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية وهنا وطننا ولا وطن لنا سواه.

الغيتو الصهيوني
نعلنها للجلاد الذي يهدد بترحيلنا ونعلنها لشعبنا منذ وضعتنا وثائق أوسلو في خانة الشأن الاسرائيلي، ونعلنها لأمتنا العربية التي حشرتنا أنظمتها في الغيتو الصهيوني ثقافة وانتماء لكي لا نكون جزء من مشروع ثقافي عربي وحدوي.
حررونا من قسم الولاء المصطنع فهو يؤسس لثقافة المنفى، ولنكن مدماكا من مداميك المشروع الثقافي العربي الوحدوي، كما ينبغي أن نكون.
لتكن مؤسسته الثقافية مؤسستنا، كما ينبغي أن تكون.
ليكن الوطن العربي من محيطه إلى خليجه فضاءنا، كما ينبغي أن يكون.
ولتكن علاقتنا ليس تواصلا بل وحدة وتلاحما وانصهار.
الذات لا تتواصل مع ذاتها.
الذات متحدة بذاتها.
الأنا يتواصل مع الآخر، وهل أنا الباقي في الكرمل فلسطينيا وعربيا هو الآخر حين يلتقي بابن الخليل والقدس ودمشق والقاهرة؟
علينا أن نكون كما ينبغي أن نكون.
سنفكك معضلة الانتماء الثقافي حين نزيل من وعينا الحدود والحواجز والخطوط والجدارات والوثائق المزيفة. حين ننظر إلى وحدة الثقافة لا إلى أجزائها. وحين نشحنها بفكر تنويري ، متحرر وخلاق أصيل.
ثقافتنا في الداخل ثقافة منفى لكنها ذاكرة وطن. هي ذاكرة الأدب وأدب الذاكرة.

فلسطين قبل النكبة
لم نكن مرفهين في ستين عاما لكي نكتب رواية خيالية عن قصص حب عذري او اباحي أو علم خيالي أو ثرثرة أدبية لأننا منشغلون حتى العظم بواقعنا الأغرب من الخيال وبهمنا الوجودي الذي يستحوذ على مشاعرنا ووجداننا وأقلامنا أيضا فتصدر عنا الرواية التسجيلية أو الواقعية النمطية التي نجلد بها احيانا حين نواجه بالسؤال: لماذا لا تخرجون من واقعكم؟ ومنهم من يسألنا ببراءة لأنه يريدنا أن نكون طبيعيين في واقع مستحيل ومنهم من يريدنا بخبث أن نتخلى عن دورنا التاريخي. ونحن ماضون في عصف ذاكرتنا لصياغة رواية نواجه بها أولئك الذين زيفوا رواية هذا الوطن وسيرته.
مشهدنا الثقافي في الداخل يستعيد ما كانت عليه فلسطين قبل النكبة، ويوثق ما هي عليه اليوم. وما كانت فلسطين صحراء وجبالا جرداء بل منارة ثقافية شعت على الشرق والغرب بما ابدعته من ادب ومسرح وموسيقى وفكر تنويري كان يقود إلى بناء شرق عربي حداثي ينافس أوروبا التي دمرتها حرب مصالح وعنصريات أوقعت خمسين مليون ضحية.
وحلت النكبة لتوقف هذا المد الحضاري.

الثقافة بعد أوسلو
نكتب عن حيفا وعكا والقدس ويافا بما نشرته من أدب وبما أنشأته من ورشات ابداعية وبما شيدته من عمارات وبما زرعته من زيتون ولوز وتين ورمان.
نكتب عن رحلة الصحراء التي قطعها الانسان الفلسطيني ولا يزال يمشي بين صواب وتيه وبين ياس وأمل وبين تراجع ثم تقدم ثم تراجع وتقدم، دون كيشوتي الارادة وسيزيفي المنال، وهو أنا وأنتم في ما نأكل ونشرب ونتأمل ونغضب ونحلم ونتألم ونقاوم .
انه أدب عن موت الانسان لكن عن حياته أيضا.
لا نتوقف عند ذاكرة الموت بل نبني ذاكرة الحياة معها لكي لا ننتحر أو نرتكب الجريمة.
هذا هو درس الثقافة بعد أوسلو، أو ردا عليها لكي تكون ثقافتنا ثقافة وطن وذاكرة وطن.
***
تجفيف المستنقعات
احترق الكرمل وقبل أن تخمد النار بدأ المسؤولون عن احتراقه يتراشقون التهم ويستخلصون العبر.
انتقلت النار إلى مكاتبهم ووزاراتهم ومسؤوليهم ولن يخمدها أن علقوا تهمة احتراقه برقبة طفل عربي من أهله وهو منها براء.
كلهم مدانون بارتكاب الجريمة، ليس فقط لأنهم أهملوا وناموا في ساعة الحراسة، بل لأنهم منذ ستين عاما وأكثر تعاملوا مع طبيعة بلادنا بثقافة ليست ثقافتها.
فتحوها بمفاتيح الثقافة الأوروبية استعلاء على الشرق وإمعانا بحق القوة لا قوة الحق.
لقد جعلوا شجرة الكينا بطلا ثقافيا نسجوا حولها الاساطير عن قدرتها في تجفيف المستنقعات التي وصفوا بها بلادنا وانهارت هذه الأسطورة قبل سنوات عندما اكتشف خبراؤهم أن تجفيف الحولة أحدث خللا قاتلا في الطبيعة واعترفوا بخطئهم وخطيئتهم وبدأوا يعيدون المياه إلى ما بقي من أرض الجليل التي بنوا عليها مستوطناتهم وفنادقهم.
وجعلوا شجرة الصنوبر الأوروبي بطلا ثقافيا فقلعوا أشجار الزيتون والسنديان والتين والرمان التي زرعها أهلنا وغرسوا أشجار الصنوبر الإبرية واليوم، بعد الحريق، اكتشف خبراؤهم أن هذا الشجرالأوروبي لا يتناسب وطبيعة بلادنا لأنه سريع الاشتعال وأوصوا باقتلاع ما بقي منه على قيد الحياة.
هذه هي عبرة الصنوبر وانهيار الأساطير في ما قالته طبيعة بلادنا لفاتحيها من الغرب.
فليعرفوا طبيعة بلادنا وليسألوا أهلها عن مفاتيحها.

مقالات متعلقة