الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 29 / أبريل 16:02

مقال نقدي حول مجموعة شعرية/ بقلم:سليم النجار

كل العرب
نُشر: 01/09/13 15:34,  حُتلن: 08:56

مقال نقدي حول مجموعة شعرية للشاعرة الفلسطينية ليليان بشارة - منصور: شُرفةُ الماء ، حيفا الذاكرة، بلاغة المكان

زخات ضوءِ هيّ.. بعضها متناثر في الدروب كالليلك الحيفاوي وبعضها ظلال كئيبة لصباحات ما يربطها دائماً أفق حميمي للرؤية هو الشعر.

اكتب مستغرباً. كيف يمكن تحويل العلاقات والمشاهد الأولى والأفكار والطفولات المنسية إلى مادة نقدية مكتوبة وغامضة ومحافظة على أسرارها تماماً كموضوعها! إنها الدهشة والسؤالاتُ. إجابةْ هي. ولكنَّها ذهابُ إلى العالم الأعمق في الحقيقة. وإقامة في نص (شُرفةُ الماء) للشاعرة الفلسطينية ليليان بشارة - منصور، المقيمة في حيفا، ووعدٌ بكتابة المكان وكشف أسراره وعدُ نفي! ولكنَّه حفرُّ داخل الذاكرة وداخل حيفا المدنية التي تُعاش ولا تقال.
إنه الرّيف الآخر. ترشيحاً مكان ولادة ليليان، شاعرة اللحظات المفتوحة على النهايات. والورد الذي هو الوصفُ الوحيد لكل شيء، والرقصات التي أصابعها البدء والخاتمات.
هناك نوع من الإلهام شبه الحاد أو المتفائل، والتوتر، والأمل، والخوف. ومثل قرحة معدية، تلك التي لا تتحدث عنها.
والقصيدة (مشهد): تبعث على فكرة تبدو جذابة، من حيث رسالاتها الإنسانية، ومن حيث قيمتها الشكلية وتعييراتها اللفظية، تتكشف عن أنها خطرة ومضللة في المجال الأنثوي. إنها فكرة المرأة التي تبحث عن أجنة الذكورة في خيالها الباحث واللاهث وراء فكرة الأنا.
ويمكن التدليل على الفكرة بشكل أفضل باعتبارها إدراكاً، أو تحقيقاً، للحرية الداخلية، حرية الاختيار، للحظة من اللحظات النادرة من الحرية الوجودية. ولقد حاولت تحديد هذا الشعور، المشترك بين استكشاف كتابتي هذه واستكشاف طريق القصيدة (مشهد):
[في زاوية المكان
مشهدُ أنثوي
لنسماتٍ تعبثُ
بالرغبات،
تمشط شعرها
تسقط ورقة صفراء
في حضنها...
على بطنها
وتدندن... بطرب... بأهاتٍ.
مسكرةُ رائحة
ذاك العنب
في الدالية الخضراء](1)

إحساس قوي بالواقع. قوي إلى درجة لم تتراجع يوماً على وصفه. وربما لأنه لدي الخبرة الشخصية الكافية بهذه اللحظة في فهم وإدراك النص.
ولكن، على أية حال، أشعر أنني مجبر، ومن خلال كل ما أعرفه، على الإجابة على السؤال المطروح عليّ وبقوّة، هل هناك جذر بين الذات والنص الشعري؟ نعم هناك جذر مشترك لما يسمى بالإبداع. هناك خبرة الإنجاز ذاتها والإحساس بالمكافأة الداخلية. ولذا فإنني لا أفهم أن يسأل القرّاء؛ كيف تتأثر الذات بنص شعري تقرأه للمرة الأولى؟
إنهما مختلفان تقنياً. فمن الناحية التقنية هما على طرفي نقيض من حيث الذات لها مفرداتها اللغوية، وتطبيقاتها التخيلية، والنص الشعري له قوانينه الإبداعية، ولحظاته الراصدة للفعل الإنساني. لكنهما ينبعان من المستوى العميق ذاته، من العنفوان الإنساني واستخدام كافة القوى المتوفرة.
لقد حاولت حتى الآن أن أصف صنع قصيدة (هفوةُ نسيان) وكأن المرء واقف وحيدًا في مواجهة النسيان، وحيداً مع الذكرى، ووحيداً مع النتيجة. وفي واقع الحياة يكون المرء دائماً منغمساً في المسار العام للحياة والبقاء، للحرص والانتباه، للكسب والخسارة. وأبدعت الشاعرة ليليان بشارة - منصور في وصف ذلك:
[قبل رحيلك
فاتك
أن تغسل رجليك
في بحر حيفا
....
لنحضر إناءً
ما دام وصولك
إلينا ربما ... مستحيلاً
لنغرف من بحرنا ماء ورملاً
قصائدنا في الظلام
في غرفةٍ
يتسلّقها
خيط نورِ
تنتظر حّماماً ساخنِّاً
لترتوي
من أصابعك
وإبريل في الدرب قادمُ
ويم القيامة حتِّما آتٍ].(2)


هذه القصيدة قد تدفعنا للقول، أن كل واحد هو طفل عصره أو مرحلته قليلاً، ولا يعني هذا أن عليه أن يكون طفلاً لعمره أو مرحلته، ولا يعني هذا أن يكون طفلاً لعصره في كل شيء. وفي بعض الأشياء، ما زالت تنتمي إلى القرن التاسع عشر، وفي أشياء يمكنها أن تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين. ومن المرجح أن تنتمي إلى العصر الذي يليه، نعم هي لا تحب كل الأشياء في عصرها كما أعتقد. قد يأتي جيل لا يحب أن يُصوَّر في كل لحظة، لكن يقيناً أن تصوير حبنا شعرياً، سيكون كالحامل أعواد الصلب والباحثُ عمن يصلبه، إنه القارع في التساؤل دروب الريح السوداء والقارعُ أبواب حيفا والعائد بالأسرار...
لا أدري هل أنهيت فعلاً إلى ما طلبت ليليان. لنقرأ ما نظمته شعراً في قصيدتها (سندريلا وحزيران):
[قبل منتصف الليل
فوضى
قبل الموعد الأخير
ليوم يتتالى
حبُّ وفوضى ...
ليلاً تُهرولُ سندريلا
ذات ليلة عاصفة...
تُدّلي وشامها البنفسجي
على رؤوس أكتافها
تهرول باحثة عن حذاءٍ أسطوري
في مشهدٍ
بلا أثرٍ...
في مشهدٍ
تشتبك
هموم الليل فيه
عند المنعطف
وأقحوانُ شهر حزيران
نشيدُ مسائي
مع الريح...
صدى صوت ورائحة
قبل الزمان الأخير
قبل باب النهار...](3)

شيء آخر هنا يربكني! ويبدو لي شبيهاً بالأحلام السريالية التي لا أتخيل حصولها في مكان آخر. حتّى ليخيل لي أن مدينتي هي المدينة التي صدفها محمود درويش. وأسكَن في إحدى قراها جميلاته النائمات. وبسرعة أفكر لريتا درويش حيفا، لرأى أن سرياليته هذه جزء من إيقاعات أيامنا الرتيبة ولو شكّ بالأمر، لذهبت معهُ إلى العصافير ولجلسنا عند ذهاب الشمس في ساحة الحناطير في حيفا، وحدقنا في السّماء. فلا أرض هناك، المكان كله سماء والهواء كله عصافير. والكلمات السريالية تسقط صرعى. فشوارع حيفا في المساء رقص على باب اللغات. وذهاب في السحر إلى أقصاه وفي الفتنة إلى أقصاها. كأن النهار خيط أزرق في جناح عصفور صغير وكأن الليل منقار أسود لطائر منحوت على حائط كنسي في مكان بعيد!. وهكذا فعلت معنا ليليان بشارة في قصيدتها (صباح خريفي):
[في خريفٍ بحريّ
وقبل أن أفتح
نافذة صباحِ
ضاقت بي اللغة
وضاف بي حوّام المكان](4)

وبالنظر للممارسة الشعرية الخاصة للشاعرة ليليان بشارة في تجربة الشعر الفلسطيني المحاصر، يمكن ملامسة الإضافة:
أولاً في تحويلها لشكل الممارسة الشعرية، إلى نظام مغاير تماماً عن مجاليها. ثانياً: تعتبر الشاعرة الأكثر إيغالاً في أنسنة الأشياء. ثالثاً: وهذا الأهم – الإيمان بجدوى الخداع الذي تنتجه الكلمات المزاحة عن مدارها المنطقي.
هذا يجعلنا بالضرورة نؤكد على أهمية معرفة تجربة الحداثة الشعرية في فلسطين، التي ينبغي بقراءة انتاج الشاعرة "ليليان بشارة – منصور".

الهوامش
1- مجموعة شعرية "شرفة الماء"، ليليان بشارة – منصور، دار راية – حيفا2012، ص 14.
2- مصدر سبق ذكره ص 16.
3- مصدر سبق ذكره ص31، 30.
4- مصدر سبق ذكره ص 27.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net


مقالات متعلقة