الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 03 / مايو 02:02

ثقافة الانتصار في حلب وعليها/ بقلم: حازم صاغية

كل العرب
نُشر: 20/12/16 11:30,  حُتلن: 11:31

حازم صاغية في مقاله:

المشاعر الرفيعة التي يختصّ بها البشر ينبغي عدم تبديدها على مَن ليسوا بشرًا. إنّها ممّا ينبغي الاحتفاظ به لمن هم مثلنا، للضالعين في الحضارة والموغلين في التقدّم

لم يتقدّم القتل في حلب مجرّدًا من «ثقافته». سبقته ورافقته «أفكار» سُلّحت بها جماهير القتل وروّجها موظّفوه وأعيان كلامه.

أبسط تعابير تلك «الثقافة» وأكثرها ابتذالًا عنوانان راجا: مكافحة الإرهاب وصدّ المؤامرة. هذان، كما نعلم جيّدًا، من حواضر بيت الكلام الرخيص، تحفل بمثله سجلاّت أنظمة الزنازين والأقبية. ما هو أعقد، وإن كان أقلّ كتابةً وأشدّ تداولًا شفويًّا، أنّ الحلبيّين الذين قُتلوا ويُقتلون ليسوا حلبيّين: إنّهم غير أصليّين، وافدون من الأرياف، أميّون، فقراء، أجلاف وذوو أقدام مشقّقة كأنّها نِعال من لحم. المواصفات «الحضاريّة» التي نسبها النظام وحلفاؤه إلى «السوريّة» لا تنطبق عليهم. إنّهم عبء عليها وزائدة بلا لزوم.

هذا هو الشكل الأسديّ لنزع الأنسنة عن بشر ينبغي أن يختفوا، أو أن يُقتلعوا ويُعاد زرعهم بما يسهّل السيطرة على أنيابهم. بهذا فقط يُسدون خدمة للحضارة يكفّرون بها عن ذنب ولادتهم المستنكَرة.

ونعرف، من تجارب كثيرة سابقة، كيف يمهّد نزعُ الأنسنة لقتل البشر. فالأمور حين تُقدَّم على هذا النحو، مبنيّةً ضمنًا على تشاوف طبقيّ وتمايز طائفيّ، تجفّف الحساسيّة المفترضة حيال طفل يُقصف من الجوّ وسيّدة تُغتصب في بيتها وعجوز يُداس بجنازير الدبّابات.

ذاك أنّ المشاعر الرفيعة التي يختصّ بها البشر ينبغي عدم تبديدها على مَن ليسوا بشرًا. إنّها ممّا ينبغي الاحتفاظ به لمن هم مثلنا، للضالعين في الحضارة والموغلين في التقدّم.

لكنّ أولئك الذين لا أصول لهم، ليسوا فقط مطرودين من الواقع. إنّهم أيضًا مطرودون من التاريخ إلى زمن عبوديّ بائد يقفز من فوق الأرشيف إلى الأركيولوجيا. نقهرهم ونتفرّج عليهم ونتلذّذ بمرأى الآلات تقضم لحمهم، إذ الأمر لا يعدو كونه مصارعة مُسلّية ومحسومة النتيجة سلفًا بين وحوش جميلة وصامتة تنفّذ أوامرنا ووحوش كلّيّة التوحّش امتلأت أجسادها بدم متّسخ.

ونزع الأنسنة هذا ينسجم كلّ الانسجام مع تسليم النظام المستولي على دمشق بأن يتولّى روس وإيرانيّون ولبنانيّون وعراقيّون قتل سوريّين. فما دام الأخيرون منزوعي الإنسانيّة، حشراتٍ أو بهائم، فليقتلهم أيٌّ كان، لا سيّما وأنّ هذا الـ «أيًّا كان» شريك «حضاريّ» للنظام وقاعدته الوفيّة. هكذا، مثلًا، يُستضاف السيّد قاسم سليماني كي يُشرف بنفسه على سلخ جلودهم المتقرّحة والمجذومة.

ولأنّهم منزوعو الإنسانيّة، ولأنّهم جنس آخر خطير على الجنس البشريّ السويّ، صار غضّ النظر عن انتهاكات إسرائيل وإهاناتها لنظام دمشق أمرًا طبيعيًّا أيضًا. ففي مواجهة الحشرات والبهائم، لا يعود مهمًّا ولا مُلحًّا أن يُهيننا مَن هم مثلنا. هذا عَرَض داخل الجنس الواحد، داخل العائلة الواحدة، بالقياس إلى الجوهريّ الذي يفصلنا عنهم.
وبالمعنى نفسه، وكمجرّد تفصيل عديم الأهميّة، لا يستوقفنا بتاتًا أن يكون فلاديمير بوتين، منقذُنا من الحشرات والبهائم، الحليفَ الكبير لبنيامين نتانياهو، أو أن يكون دونالد ترامب، «اليمينيّ» كما يقول جراميزنا «اليساريّون»، شريكًا طبيعيًّا في مكافحة الإرهاب. المهمّ تمتين التحالفات التي تضمن منع الوحشيّ والبهيميّ من أن ينتفض ويتمرّد.

وهم، في آخر المطاف، مجرّد موضوع لنا، ننقلهم إلى مناطق أخرى، ونجعلهم عرضة للتحويل الديموغرافيّ والهندسة الاجتماعيّة... وكم نستحقّ الشكر على معالجتهم بالجراحة بدل الإماتة الفوريّة التي عولج بها سابقون لهم؟

وهذا سلوك لا يقتصر بالطبع على النظام المستولي على دمشق... إلاّ أنّ الأخير صاحب طريقة في هذا السلوك. إنّه مثال وقدوة. إنّه أحد الآباء المؤسّسين. وهو، في الحساب الأخير، «دولة» يُفترض بأفعالها أن تتعالى قليلًا إلاّ أنّها، ومن غير انقطاع، تنحطّ كثيرًا.

والحال أنّ مُوقّع هذه الأسطر ليس من المولعين بالهزيمة، ولا من الكارهين للانتصار. لكنّ الشيء الوحيد المؤكّد أنّ الهزيمة تبقى أرقى وأنبل من انتصار تحفّ به «ثقافة» كهذه ويجسّده سلوك كهذا.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة