الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 26 / أبريل 13:01

لينا الجربوني أسطورة تمشي على قدمين/ بقلم: إبراهيم صرصور

كل العرب
نُشر: 18/04/17 19:23,  حُتلن: 14:07

إبراهيم صرصور في مقاله: 

لحظات لا يمكن ان تُنسى اختزلت 15 عامًا كاملات بدأت بتاريخ 18.4.2002 وانتهت بتاريخ 16.4.2017، نحسبها نحن المعتقلين في السجن الكبير تَمُرُّ مَرَّ السحاب، لكنها في داخل السجون الاسرائيلية الظالمة كأنها عمر كامل يحمل وجهين متناقضين

كان لي شرف التواصل مع "لينا" عبر العشرات من الزيارات التي قمت بها للأسرى والاسيرات في السجون الإسرائيلية كجزء أساسي من عملي كنائب في البرلمان

انهت " لينا" مدة حكمها حتى الثانية الأخيرة ( 15 عاما ) ، عاشتها كعميدة الاسيرات والمتحدثة الرسمية باسمهن في سجن الشارون

 قررت أن اخصص مقالي هذا للأسيرة المحررة لينا جربوني التي عانقت الحرية بعد خمسة عشر عاما طوتها في السجون الإسرائيلية في شموخ وكبرياء، لم تَحْنِ رأسها الا لربها سبحانه الذي وثقت في وعده وصبرت على قضائه، واحتسبت معاناتها عنده وحده.
 
اشترطت لينا ان يكون استقبالها عند خروجها من السجن متواضعا، حيث حضرت أمها العجوز وإخوتها واخواتها وبعض المهتمين، كان لي وللنائب عبد الحكيم حاج يحيى شرف ان نكون من بينهم، وغطت فضائية الجزيرة الحدث في بث مباشر.. لم نستطع منع دموعنا عندما عانقت لينا أمَّها لأول مرة بعد هذه السنين الطويلة... كان عناقا ودموعا لا تصفها الكلمات.. تحررت لينا وتركت وراءها أكثر من ستة آلاف أسير وأسيرة ينتظرون لحظة الخلاص، وانها لآتية بإذن الله..
 
لحظات لا يمكن ان تُنسى اختزلت 15 عامًا كاملات بدأت بتاريخ 18.4.2002 وانتهت بتاريخ 16.4.2017، نحسبها نحن المعتقلين في السجن الكبير تَمُرُّ مَرَّ السحاب، لكنها في داخل السجون الاسرائيلية الظالمة كأنها عمر كامل يحمل وجهين متناقضين. أحدهما، معاناة بلا حدود خصوصا وأن الأسير الفلسطيني سواء كان مواطنا في إسرائيل او فلسطينيا من الوطن المحتل في العام 1967 ، فهو (صيد!!) ثمين بالنسبة لأجهزة المخابرات والأمن الإسرائيلية بغض النظر عن حجم مخالفته، تصب هذه الاجهزة على رأسه الوان العذاب ابتداء من الاعتقال ومرورا بفترات التحقيق داخل اقبية السجن المعتمة وزنازينه الرطبة، وانتهاء بظروف السجن القاسية التي فَصَّلَتْها مصلحة السجون الإسرائيلية بمقاسات ظالمة خصيصا للأسير الفلسطيني، والتي لا تتفق مع ابسط قيم العدالة ونصوص المواثيق الدولية ذات الصلة.. أما الوجه الآخر فهو الذي لا سلطان عليه  لمصلحة السجون بكل شياطينها وخططها الخبيثة. إنها إرادة الأسير وكرامته وكبرياؤه وشموخه وقناعاته والتي هي هوية الأسير الحقيقية التي لا تستطيع كل قوى الأرض النفاذ اليها مهما امتلكت من ادوات التعذيب، وحازت من تقنيات الحرب النفسية.
 
بدايــــــــــــــة المشــــــــــــوار ..
وُلِدَتْ "لينا" بتاريخ 1.11.1974 في قرية عرابة البطوف قبل نحو سنتين من يوم الأرض الذي سَجَّلَتْ فيه عرابة مع اختيها سخنين وديرحنا (مثلث يوم الأرض) صفحات من نور، وقدمت الشهداء دفاعا عن الأرض والعرض، فكانت أمينة لتاريخها الذي عرف هو ايضا صفحات من النضال الفلسطيني عبر حقبه المختلفة.. وُلِدت لعائلة رضع أفرادها القيم الوطنية منذ نعومة أظفارهم..
 
أبوها "احمد جربوني" عرفته فلسطين مناضلا عنيدا وقائدا شجاعا كَرَّس حياته في خدمة بلده عرابة ووطنه فلسطين وشعبه الذي عشق قضيته منذ تفتحت عيناه على هذه الدنيا. كان في المقدمة دائما متحديا سياسات التمييز العنصري والقهر القومي الإسرائيلي من خلال مواقعه المختلفة التي تبوأها عبر سنين عمره المديدة. كما كان له دوره المباشر كرئيس للجنة الدفاع عن الأراضي في "عرابة" في قيادة الحراك الشعبي الذي وَلَّدَ يوم الأرض الخالد حيث تحطمت فيه عنجهية السلطة، فكان واحدا ممن صنعوا النصر في ذلك اليوم الأغر. في مقدمة كتابه " فهود الروابي" أرَّخ لثلة من الرجال الذين صبغوا المشهد الفلسطيني بألوان زاهية من البذل والعطاء والبطولة والفداء، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .. تحدث عنهم، لكنه لم يتحدث عن نفسه وهو الذي يستحق ان يكون واحدا منهم لما قدم وما يزال في سبيل قضيته وقضية شعبه. كانت الثماني سنوات التي قضاها في السجون الإسرائيلية بعضا مما دفعه راضيا محتسبا لتبقى قضيته حية في الذاكرة والوجدان والواقع. جاءت كلمات الاهداء في كتابه "غبار الأيام" لتلخص المسيرة في كلمات دامعة يقول فيها : (إلى أمي التي فقدت زوجها وبعده أربعة من أبنائها، فعاشت مع مصائبها واحزانها تفلح الأرض وتتعهد الزيتون حتى صارت قدوة في الصبر والكد ومثالا للبذل والعطاء. إلى ولدي الحبيب العريس الجريء الجميل الذي سافر صباحا على جبال البطوف فامتد به المشوار وطال بنا الانتظار" ..
 
خالها "عمر" غادر عرابة الى سوريا عام 1961 بعد ان لم يطق صبرا على انتهاك إسرائيل لحقوق عائلته وأخوته. استشهد خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 1982. خالها الآخر "حسين" أمضى أربعة عشر عاما في السجون الإسرائيلية بسبب تهم امنية ، يخرج بعدها ليبدا دراسة القانون حيث اصبح واحدا من ابرز المحامين.. اما جدها  "الحاج علي" والد "عمر" و " حسين" ، فقد قاوم القوات البريطانية قبل نكبة فلسطين وصدر بحقه حكم غيابي بالإعدام، كما وقاد المقاومة الشعبية ضد اليهود حتى سقوط عرابة في العام 1948، اعتقل بعد اختفاء استمر ستة أشهر حيث بقي في الاعتقال مدة ثمانية أشهر، ليُطلق سراحه بعدها.
 
في هذه الأجواء نشأت "لينا" حيث تلقت تعليمها الابتدائي والاعدادي والثانوي في مدينتها عرابة. لم تستطع إنهاء دراستها الجامعية بسبب أوضاع العائلة الاقتصادية، ولذلك عملت في إحدى مشاغل الخياطة وتلقت دورة تدريبية في تخصص السكرتارية الطبية.
 
اعتقلت "لينا" بتاريخ 18.4.2002 وتعرضت اثناء فترة اعتقالها لتحقيق قاس لمدة ثلاثين يوما في معتقل "الجلمة" سيّء الصيت. أصدرت المحكمة الإسرائيلية حكما بسجنها فعليا لمدة 17 عاما انخفضت إلى 15 عاما بعد تقديم استئناف على الحكم الأول. كانت تهمتها الاتصال مع سرايا القدس، الجناح العسكري للجهاد الإسلامي.
 
كان لي شرف التواصل مع "لينا" عبر العشرات من الزيارات التي قمت بها للأسرى والاسيرات في السجون الإسرائيلية كجزء أساسي من عملي كنائب في البرلمان، حيث التقيت بها لعشرات الساعات ناقشنا فيها ملفات كثيرة تتعلق بالأسرى عموما والاسيرات خصوصا، وقفت من خلالها على عظمتها وعظمة صبرها وعمق ثقافتها وسعة اطلاعها وصدق انتمائها وصادق حسها الديني ومسؤوليتها الوطنية وبالغ حرصها وحنوها على اخواتها الاسيرات التي رافقتهن على مدار فترة سجنها حتى أصبحت بالنسبة لهن الأم الرؤوم والمرجعية الموثوق بها في كل شيء، والحضن الدافئ والكتف الذي لا تتردد الاسيرات في اللجوء اليه ليُلْقِين بثقل همومهن عليه لما يجدنه عندها من أمن وأمان وحرص وحنان. تُشَكِّلُ مدرسة في العطاء والتضحية، في الصبر والصمود، وقدمت نموذجا يُحتذى في سلوكها وتعاملها مع أخواتها الأخريات القابعات معها في السجن، فهي الحاضنة والراعية لهن بحكم أقدميتها وخبراتها واجادتها للغة العبرية، وهي مبعث القوة والارادة والعزيمة للحديثات منهن، وهي من تمثلهن جميعاً أمام إدارة السجن، فهي الأخت والأم والمجاهدة والرفيقة والمتحدثة والمعلمة، هي كل شيء لهن ..
 
كانت مدرسة متحركة، نظمت  الدورات في مختلف الفنون والمواضيع المتاحة، عَلَّمَتْ اللغة العبرية للأسيرات الفلسطينيات ونظمت النشاطات والفعاليات في مختلف المناسبات الدينية والوطنية.
 
كانت "القاضية" العادلة لفض النزاعات وحلحلة المشكلات ومواجهة  الازمات التي تنشب بين الاسيرات، فتعالجها بحكمة ودراية وتُصْدِرُ قراراتها بشأنها لتقبَلَها الاسيرات برضى يدلل على الثقة الكبيرة التي تسود بينها وبينهن.   
 
كانت "مانعة الصواعق" في كل ما يتعلق بالقضايا المطلبية للأسيرات تنقلها إلى إدارة السجن بكل شموخ كبرياء ومسؤولية وصبر وإصرار حتى تنفيذها قدر المستطاع، وتتصدى بنفسها لكل محاولات إدارة السجن للمس بحقوق الاسيرات او بكرامتهن، ودفعت بسبب ذلك في كثير من الأحيان ثمنا باهضا من صحتها وحريتها وحقوقها.
 
التبــادل والافـــراج الــذي لــم يتــــم ..
تعتبر عمليات تبادل الاسرى بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية او اللبنانية فرصة لا يمكن تعويضها  بالنسبة للأسرى داخل السجون الإسرائيلية، خصوصا بالنسبة لأسرى الداخل الفلسطيني الذين رفضت إسرائيل شملهم في اية صفقة تبادل بعد صفقة احمد جبريل في العام 1985. وقد شاء الله سبحانه ان ارافق الحركة الاسيرة في كل السجون بما في ذلك الاسيرات داخل سجن الشارون خلال المفاوضات الطويلة والشاقة التي أفضت في النهاية الى صفقة  "وفاء الاحرار" والتي تم التوصل اليها بتاريخ  11.10.2011 ، وتم تنفيذها ابتداء من 18.10.2011 وانتهاء بتاريخ 18.12.2011. علَّقَ اسرانا القدامى (قبل أوسلو) واسيرتانا ( لينا جربوني وورود قاسم ) آمالا كبيرة على الصفقة، وحرص الجميع على ان تصل رسالتهم الى كل المعنيين بهدف شملهم وعدم تركهم فريسة بيد إسرائيل بعد عقود طويلة قضوها في السجن.
 
لقد تبين في النهاية ان ستة من اسرى الداخل القدامى قد شُملوا في الصفقة، بينما شُمِلَتْ جميع الاسيرات بما في ذلك الاسيرتان من الداخل "لينا وورود".. او هذا ما تم الإعلان عنه .. 
 
كانت "لينا" قد قضت عند عقد الصفقة نحو عشرة أعوام تقريبا من محكوميتها، لذلك كانت فرحتها لا توصف حينما بلغها خبر شملها في قائمة المفرج عنهم.. أبلغت سلطات السجن الاسيرات بما في ذلك "لينا وورود" بالاتفاق، وطُلب منهن الاستعداد ليوم الافراج. كانت عقارب الساعة قبل خبر الصفقة تسير عادية وإن كانت رتيبة وكئيبة بشكل مستفز، لكنها أصبحت بطيئة جدا منذ سماع الخبر، فكيف الصبر بعد الآن على قيد السجان وزرد السلاسل بعدما اقترب فجر الحرية وبات قاب قوسين او أدنى؟!
 
انشغلت الأسيرات بترتيب مع اعددنه عبر السنين في صناديق خاصة وقد حرصن كل الحرص على كل التفاصيل مهما كانت بسيطة أو حتى ساذجة. فارق النوم جفون الجميع حتى كادت بعضهن – كما حدثتني لينا في اكثر من مناسبة – ان تتمرد على سلطان النوم لتجلس على اغراضها منتظرة لحظة الافراج! التقيت مع "لينا وورود" وعدد من الاسيرات من الضفة مرات كثيرة قبل الافراج، وشعرت بالفرحة في اعينهن خصوصا الاسيرات المؤبدات ، الا انني – للحقيقة – لم اجد هذا "التلهف" عند  "لينا" وكأنها كانت تحس بشيء ما جعلها لا تذهب بعيدا في الانسياق وراء مشاعر الفرح، وكأن خبرتها وفراستها وخَبْرَها لسنين طويلة النفسية الإسرائيلية دعاها الى التريث والاستعداد لكل طارئ مع دعائها الدائم ان يتم كل شيئ كما خطط له.
 
وجاء الصباح الموعود ، وانتظرت الاسيرات جميعا وبلا استثناء – هكذا جاءت الأوامر - (لان هدف المقاومة المعلن هو تبييض السجون بالنسبة للأسيرات).. انتظرن فتح الأبواب ليبدأن الخطوات الأولى نحو الحرية. ظهر ضابط السجن المكلف بإعطاء آخر التعليمات.. بدأ يقرأ الأسماء .. كن يتمنين لو انه فتح الباب وقال للجميع : خروج ! بدأت كل أسيرة تسمع اسمها بالتقدم نحو مكانها الجديد .. استمرت قراءة الأسماء ومعها تضاعفت دقات قلب كل أسيرة تأخر النطق باسمها ولو للحظة. لم يبق من المجموعة الا "لينا وورود".. الآن ينطق الضابط بأسمائهن، واستمر الصمت وارتفع منسوب القلق! لعل الضابط أراد شد اعصابهن لا اكثر! إن كان الأمر كذلك فلا بأس، فالأمور بخواتيمها، وليصبرن على أذى هذا الضابط فما اكثر ما آذاهن! جمع الضابط أوراقه وقبل ان ينقلب على عقبيه القى بالقنبلة النووية : القائمة التي معي لا تشمل أسماء "لينا وورود"! قال الضابط ببرود أعصاب وحشي، الحقها بابتسامة عَبَّرَتْ عن مكنون قلب كأنما قُدَّ من صخر، وإنَّ منه لما يَشَّقَّقُ فيخرج منه الماء، وإنَّ منه لما يهبط من خشية الله.
 
كنا في الخارج نتابع الاحداث عن كثب، وكنا نرقب ونرصد كل شاردة وواردة. جاءت الصدمة قاسية جدا عندما علمنا باستثناء " لينا وورود" ! كيف يمكن لهذا ان يحدث ؟! أولا يكفي ان الصفقة استثنت العدد الأكبر من اسرانا القدامى؟! مَنَّيْنا انفسنا ان يكون ما وقع إنما جاء بسبب سوء فهم او خلل فني سرعان ما سيم تداركه لتلتحق الاسيرتان بمن سبقهن!  تواصلتُ مع السفارة المصرية الراعية للاتفاق، وكذا مع بعض الاخوة في وزارة شؤون الاسرى والمحررين الفلسطينية لاستجلاء الخبر.. لم نسمع أجوبة قاطعة! تابعنا الاخبار وتفاصيل تطور عملية الافراج.. لاحظنا أن الجانب الفلسطيني رفض تسليم الجندي الأسير للجانب المصري حتى تُسَوّى مسألة الاسيرتين "لينا وورود".. عادت الينا الروح بعدما كادت تفارقنا!
 
انتهى الأمر ونجحت إسرائيل في تمرير مؤامرتها وأصرت على الإبقاء على "لينا وورود" داخل السجن بدعوى ان الاتفاق معني بالإفراج عن جميع الفلسطينيات وهذا ما نفذته إسرائيل، اما "لينا وورود" فليستا فلسطينيتين في التعريف الإسرائيلي ولذلك لن يتم الافراج عنهن! هكذا بكل وقاحة ..
 
ما مر عليَّ يوم كئيب كذاك اليوم! وألح علي السؤال: ما حال " لينا" و "ورود" الان وقد بقيتا وحيدتين في السجن.. نعم، لم يبق في سجون إسرائيل من الاسيرات السياسيات غيرهن. خمس غرف او ربما ست غرف هي غرف الاسيرات الامنيات في سجن الشارون، لم يبق فيهن الا هن! اثنتين فقط! لماذا؟! لأن إسرائيل وحكومتها أبت إلا ان تسجل صفعة عار جديدة اثبتت للمرة الألف أنها عصابة من الوحوش، الإنسانيةُ منها براء.   
 
كان وقع المؤامرة الاسرائيلية على اهل الاسيرتين كارثيا! تواصلت معهم بشكل دائم دون انقطاع ووضعتهم في صورة التطورات وابلغتهم بما وصلني من معلومات، الا انني نصحتهم بتوقع الأسوأ.
 
لقـــاء أثقـــل من الجبـــال الرواســــي ..
بدأتُ بالتخطيط للقاء أسيرتينا الوحيدتين في سجن الشارون، ولذا قدمت طلبا فوريا للزيارة، وتمت الموافقة لتتم الزيارة وليتم اللقاء ولتكون المفاجأة. وانا في طريقي الى السجن ألحَّ عليَّ السؤال: ماذا سأقول وكيف سأبدأ حديثي وهل سأنجح في التخفيف ولو قليلا من وقع الكارثة؟! تعمدت أن اخرج خارج الغرفة المخصصة للقاء النواب بالأسرى لاستقبال "لينا" لعلي انجح بذلك في تفريغ شحنة من التوتر الذي انتابني ، او لعلي الحظ في "لينا" ما يخفف عني هواجسي التي جثمت بقسوة على صدري!
 
اقبلت "لينا" كعادتها بهدوئها، بابتسامتها، بوقارها ورباطة جأشها.. القت التحية وجلست. لم أبدأ ، لكنها هي من بدأت: "اعرف سبب حضورك المستعجل! أنا وورود توقعنا أن تكون اول من يزورنا في هذه الظروف! إنْ قلت لك اننا لا نشعر بالحزن لما جرى فلن نكون صادقتين مع انفسنا. نعم تمنينا ان نكون الان خارج هذا السجن، وما تخيلنا ان تكون الضربة بالشكل الذي كان. لكن رغم ذلك اطمئنك وأطمئن اهلي وشعبي أنني ما شعرت باطمئنان لحكمة ربي فيما حدث كما شعرت هذه المرة. ولذلك سأستمر في تنفيذ محكوميتي كما لو أن صفقة " وفاء الاحرار" لم تكن. الا أنني في ذات الوقت فرحة الى ابعد حد بالإفراج عن الاسرى والاسيرات الذين ما كان لهم ان يروا النور لولا توفيق الله سبحانه وإتمام الصفقة رغم ما سيقال فيها وحولها. منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه السجن احتسبت ما اقدم عند الله، ووطنت نفسي على دفع ثمن الولاء للدين والوطن والمقدسات حتى آخر لحظة في عمري وليس سجني فقط . لم أفكر يوما في صفقات ، لكني فوضت امري كله لله، وانا راضية بما يقدره لي". ...  أضيف لك من الشعر بيتا أيضا، قالت : " تأكد لدي من خلال تجربتي في السجن أن الله سبحانه لا يريد ان يجعل لجلادي عليَّ من مِنَّة، ويريدني ان انهي محكوميتي حتى آخر لحظة حتى اخرج وانا مرفوعة الرأس ليس لهؤلاء الأفَّاقين علي من فضل مهما كان بسيطا. هكذا انا، وقد علم الله عز وجل مني ذلك فأعطاني ما أثق في انه الاصلح لي، فاطمأنت نفسي ، ولذلك لا تثريب على احد"..
 
ماذا عساي ان أقول بعدما سمعت.. لم تُبْقِ لي "لينا" ما يمكن ان أضيفه .. لم يكن هنالك ما يبرر مخاوفي بعدما رأيت ما رأيت من شموخها وكبريائها وثقتها بوعد ربها وتسليمها بحكمة الله فيما جرى.. رأيت امامي أسطورة تمشي على قدمين، فهنيئا لشعبنا بها وهنيئا لها بشعبنا..
 
وتستمــــــــــــر الملحمـــــــــة ..
اعتقدتُ أن مصلحة السجون ستحاول لأسباب موضوعية ان تخفف من القيود والممارسات المجحفة في حق "لينا وورود" ، كنوع من التعويض ربما عن "الفَشْلَة" في موضوع الافراج .. كان ظني في غير محله، فلم تتغير الممارسات بل وزادت بشاعة.
 
قلت ان الاسيرتين " لينا وورود " بقيتا الوحيدتين في سجن الشارون بعد الافراج عن كل الاسيرات الفلسطينيات. يبدو ان هذا الوضع لم يَرُقْ لإدارة السجن ولمصلحة السجون فقررت نقل الاسيرتين الى قسم الاسيرات الجنائيات في سجن الشارون الأمر الذي اعتبرناه تجاوزا لخط احمر لا يمكن القبول به. لم يكن امام " لينا" إلا ان تعلن إضرابا عن الطعام استمر حتى عدلت إدارة السجن عن قرارها خصوصا بعد انضمام اسيرات فلسطينيات جددا الى قسم الاسيرات السياسيات في سجن الشارون.
 
من جهة أخرى زادت معاناة " لينا" بسبب التهاب في المرارة التي حَوَّلَتْ حياتها الى شبه جحيم.. لم تنفع التقارير الطبية حول مرضها، ولا الضغوطات التي مارسناها، ولا الأطباء الذي دخلوا من خارج السجن لمعاينة حالتها، والتي اشارت كلها الى ضرورة إجراء عملية جراحية مستعجلة لتفادي المضاعفات الخطيرة لاستمرار التهاب المرارة، لم تنفع كلها في اقناع مصلحة السجون بالتسريع في إجراء العملية. مرت سنة ونصف على هذه المعاناة التي لا توصف حتى تمت الموافقة على اجراء العملية، لتستمر المعاناة بعدها لإصرار إدارة السجن على عدم تقديم الادوية المطلوبة لتخفيف الاوجاع التي تصحب عادة مثل هذا النوع من العمليات.. 
 
مارست "لينا" حقها الشرعي والقانوني في التقدم "للجنة الثلث" التابعة لمصلحة السجون بهدف إعفائها من المدة المتبقية من محكوميتها أسوة بالأسرى الأمنيين اليهود الذين يتمتعون بكل حقوقهم وامتيازاتهم داخل السجون بشكل كامل بما في ذلك تخفيف رئيس الدولة لأحكامهم وتخفيض مدة الثلث بعد انقضاء ثلثي مدة الحكم. كان الرفض المنهجي لطلباتها هو سيد الموقف دائما، حيث ترتكز مبررات قرارات "لجان الثلث" على تقارير مخابراتية خبيثة في مبناها ومضمونها محشوة بالأكاذيب والافتراءات التي لا صلة لها بالواقع، والتي يتم قبولها كما لو انها من المقدسات.  
 
انهت " لينا" مدة حكمها حتى الثانية الأخيرة ( 15 عاما ) ، عاشتها كعميدة الاسيرات والمتحدثة الرسمية باسمهن في سجن الشارون. لازمها هذا اللقب منذ سنوات مضت، فيما تحفر اليوم بصمودها وعنفوانها وثباتها، اسما عظيما في الذاكرة الفلسطينية، ومكانة مرموقة في سجل التاريخ المشرق للحركة الأسيرة يمنحها أن تقف في مقدمة كافة الأسيرات الأخريات اللواتي سبقنها لتغدو عميدة الأسيرات عبر التاريخ، باعتبارها أكثر الأسيرات الفلسطينيات والعربيات في تاريخ الثورة الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي قضاءً للسنوات داخل سجون الاحتلال. هكذا يقول التاريخ وهكذا تشير الوقائع والوثائق.
 
لذلك كله ولغيره الكثير، استحقت "لينا"  بجدارة لقب "امرأة فلسطين للعام 2015 " ، والفوز بالعديد من الجوائز اعترافا برصيدها الكفاحي وثباتها الأسطوري وبنشاطها وإنجازاتها على مدى سنوات طويلة.
 
سيرة "لينا" ملحمة لم تخطها يد فيلسوف أو حكيم أو شاعر أو روائي عبقري، وإنما هي ملحمة بطلتها فتاة في مقتبل العمر تقرر ان تقتحم التاريخ وتحتل فيها مكانا سنيا ومكانا رفيعا... إنها المشاعر الصادقة والوجه الحقيقي لهذا الشعب... هي رأس مالنا الذي نتحدى به الأخطار، ونخوض به الأهوال، وهي فوق كل ذلك ضمان تيسير الله سبحانه لفرج ندعوه سبحانه أن يجعله قريبا جدا، حتّى تفرح كل أمهات وزوجات وأخوات الأسرى بنصر الله وبعودة الأحبة بعد طول غياب..
 
ستبقى "لينا" فلسطينية المولد والنشأة، متمسكة بالهوية والانتماء، وستبقى حكايتها جزءاً من الرواية الفلسطينية الطويلة ومن التغريبة الفلسطينية الاصيلة، وسيبقى اسمها محفوراً في الذاكرة الفلسطينية. 
 
فلك يا "لينا"  منا سلام ...
 

إبراهيم صرصور- الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني
 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

 

مقالات متعلقة