للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
ابراهيم صرصور في مقاله:
عُمْقِ النقاشات وموضوعيتها في مثل هذه الصالونات مرتبط بمستوى الحضور الثقافي والعلمي والقدرة على التحليل المهني بعيدا عن (طَقِّ الحنك) كما نقول في الامثلة العامية
من أبجديات المشروع الذي نتمناه أن يكون فيه دَفَقُ الثورة على كل السلبيات في حياة الأفراد والجماعات، الثورة على طغيان الغرائز، وسطوة الأهواء
اكثر ما يلفت نظري فيما يمكن تسميته بالصالونات الشعبية (المقاهي وتجمعات الناس الخاصة والعامة)، الانكباب – في الاغلب الأعم – على مناقشات لا تلتزم جدولا للأعمال ولا جدولا زمنيا، ولا قواعد منهجية، يغلب عليها الارتجال والعفوية في الشكل والمضمون، يتم خلالها تناول واحد من ثلاثة ملفات، او كلها معا. الاول، ملف بلا عنوان، وكلام يخبط فيه الناس خبط عشواء لا يعرفون له بداية ولا نهاية، قد تشمل عشرات العناوين ترتكز كلها او جُلُّها على الحكايات الشخصية والتجارب الذاتية. الثاني، تقارير متفرقة يَغْرِفُها الحاضرون من قاعِ ما مّرُّوا به من تجارب في ذلك اليوم/الايام، او ما سمعوه في نشرات الاخبار او قرأوه في الصحف اليومية حول واقع مجتمعنا العربي وما يجري على الساحة المحلية. الثالث، تحليلات لواقع العرب والمسلمين مع التركيز على الازمات التي تمر فيها دولهم وانعكاس ذلك على حاضر ومستقبل الامة التي تواجه تحديات وجودية بلغت اوجها في الفترة الاخيرة، وهم فيها يوجهون أصابع الاتهام الى النظام العربي والاسلامي الرسمي "الخائن والعميل والمتخاذل والمهزوم" والمعادي لأشواق الشعوب وتوقها للتحرر والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية والشموخ الوطني.
لِرُوَّادِ هذه "الصالونات" اهتمامات اخرى - وانا هنا لا أعمم – تنبع مما أشرت إليه من طبيعة نشاطات هذه الصالونات. من اهم هذه الانشغالات مشاهدة التلفزيون سواء بهدف متابعة نشرات الاخبار وخصوصا في ظل احداث مثيرة، او مباريات كرة القدم لكبار الاندية العالمية، أو مباريات كأس العالم ..
في غياب الاولى والثانية، ينشغل بعض رواد هذه الصالونات بتسلية أنفسهم بالتحلق حول طاولات تلتقي عليها (ثلة من الرجال) في مبارزات حماسية وجدية مداعبين بين أصابعهم قِطَعاً من الورق او العاج (العظم) او غيره من وسائل التسلية.. بين هذا وذاك، يمسك البعض بحبال متدلية من انابيب زجاجية، ينفثون منها الدخان بمذاقاته المختلفة تسمى النرجيلة.
من المدهش أنك يمكن ان ترى في هذه الصالونات روادا من مختلف الاجيال.. ترى الشباب كما ترى الشيوخ.. ترى الصغار كما ترى الكبار.. كما تراها تنعقد داخل المقاهي، او على ارصفة الشوارع، او في المتنزهات او في احضان الطبيعة..
عُمْقِ النقاشات وموضوعيتها في مثل هذه الصالونات مرتبط بمستوى الحضور الثقافي والعلمي والقدرة على التحليل المهني بعيدا عن (طَقِّ الحنك) كما نقول في الامثلة العامية. فكلما تواجد بين الحضور من يُحسن إدارة النقاش وتوجيهه وربطة بمنهجية علمية ذات مرجعية دينية/وطنية/قومية او كلها معا، كلما خرج النقاش اكثر عمقا ونجاعة وفائدة، وشعر الجميع بانسجام اكبر ومتعة اعظم.. أما إن غاب هذا العنصر عن المشهد – وهو الغالب، تظل النقاشات عشوائية هي أقرب الى (حرق الوقت) و (التسلية) منها إلى نقاشات بَنَّاءة تنتهي إلى نتائج تترتب عليها خطوات عملية تراكمية تساهم بقدر معين في تصحيح الاوضاع المتردية في مجتمعاتنا..
(2)
هذه الوضع غير الصحي يهدر الاوقات والتي هي العمر في غير فائدة، الامر الذي يحتم على النخب المثقفة وهي موجودة في كل موقع صَغُرَ او كَبُر، ان تنزل من برجها العاجي لتنتشر بين الناس في اماكن تجمعهم، والقيام بدورها في توجيه بوصلة الاهتمام العام نحو ما يفيد في بناء المجتمع الرصين وتنظيم صفوفه واستكشاف كنوزه الانسانية واستثمار طاقاته البشرية والمادية والمعنوية، وشحذ همته من اجل القيام بدوره في تشييد صروح المجتمع الذي يعاني من امراض تكاد تفتك به وتهد ما تبقى من حصونه. او ان تخصص الصالونات الثقافية الجادة والمنظمة في برامجها ما يضمن تواصلها مع القطاعات الشعبية في مواقع تواجدها بهدف التوعية ونقل الخبرات وتجنيد الطاقات والمهارات خدمة للمصالح العليا للشعب والوطن.
حينما اتحدث عن النخب لا أعنى بهم المهتمين في الشأن السياسي العام، ولا المؤطرين في احزاب او حركات وتنظيمات، ولا المنخرطين في منظمات المجتمع الاهلي فقط، وإنما أعنى أيضا جمهرة المعلمين والمهندسين والمحامين والاطباء والجامعيين والاختصاصيين في كل مجال وفن، والذين يتجاوز عددهم المئات في كل بلد.. على اكتاف هؤلاء أيضا ملقاة مسؤولية كبرى وأمانة عظمى عليهم الانتباه اليها والعمل على ادائها على أحسن ما يكون الأداء.
لتحقيق ذلك يجب على هذه النخبة ان تعمل لتحرير نفسها من "أسْرِ" المهنة والتي نريدهم فيها الأكثر إبداعا وإنجازا، لكن مجتمعهم يطالبهم بأكثر من ذلك.. شعور هذه النخبة بأن مِهَنَهُم المختلفة فوق انها جاءت لسد ثغرة على المستويين الشخصي (تامين حياة كريمة ماديا) والعام (خدمة المجتمع في إطار المهنة)، فإنها فوق ذلك، والاهم من ذلك، بوابتهم الواسعة لأداء رسالة إصلاحية في المجتمع بعيدا عن المهنة، مستثمرين الاحترام الذي يحظون به في قلوب الجميع من اجل التأثير إيجابا في بناء المجتمع على أسس سليمة وصحيحة.
ان تتنادى هذه النخب في كل بلد لعقد اجتماع يضعون فيه خريطة طريق لما يمكن ان يقدموه لمجتمعهم بالتعاون مع كل الجهات المجتمعية ذات الصلة، وان يُخصص كل منهم سُويعات قليلة شهريا للقيام بدور توعوي وتعبوي خدمة لشعبهم، سيجعل لحياتهم معنى آخر، وسيضيف لها نكهة خاصة، سيكون لها نتائجها الايجابية وأثرها الحسن على تكوين مناخ عام من نوع آخر يملأ الشارع نورا وعلما وإيجابية بعد ان مُلئ ظلاما وجهلا وسلبية.
(3)
أرى - بكل تواضع – ان هذا ضروري كجزء من خطة استراتيجية لمواجهة الأمواج السلبية العاتية التي تجتاح مجتمعنا العربي كالوباء الفتاك، والتي يمكن تلخيص عناصرها فيما يلي:
أولا، استعادة الشارع وتحريره من سيطرة الفاسدين والعابثين ونقله الى يد المؤتَمَنين على المصلحة العامة. فقد تعلمنا من نظرية (الشبابيك المكسرة) في علم الاجرام، أنه لا بد من إصلاح كل شيء يتم العبث به في الشارع، وتحويله الى بيئة صحية تبث الايجابية وتحارب السلبية.
المطلوب لتحقيق هذا الهدف: تشكيل مجموعات من اهل الرأي ( مربين ومعلمين واطباء ومحامين ومهندسين .. الخ .. )، يأخذون على عاتقهم مهمة الانتشار في كل اماكن تجمع الشباب (مقاهي ومفترقات ومتنزهات .. الخ )، وفتح حوار جدي وصريح مع قطاع الشباب خصوصا والمتواجد في هذه المواقع، حول دورهم ف بناء المستقبل، ودعوتهم للمشاركة في الفعاليات الاجتماعية والثقافية في مؤسسات المجتمع .
ثانيا، الاهتمام بالعائلة على اعتبارها الحاضنة الأولى لكل خير او شر في المجتمع من خلال مساعدتها وتوجيهها وتقديم النصح لها.
المطلوب لبلوغ هذه الغاية السامية: توزيع كل بلد عربي الى احياء صغيرة تقوم في كل منها هيئة خاصة من الخيرين من القطاعات التي ذكرت آنفا لوضع برامج لقاءات مع الاباء والامهات والأولاد والبنات بهدف التعاون على تصحيح المسار والشروع في عملية اصلاح شاملة.
وثالثا، الحرص على التحرك المجتمعي لاحتواء اية إشكالية مهما كان نوعها صغيرها وكبيرها من خلال اللجان الشعبية ولجان الصلح المحلية الفعالة التي تحرص على الوقاية كحرصها على العلاج ..
المطلوب للوصول إلى افضل النتائج في هذا المجال: وضع خريطة دقيقة للملفات ذات العلاقة بالأزمات الاجتماعية وغيرها بما في ذلك العنف، وتحديد قائمة الأولويات بناء على نوعية الإشكاليات وخطورتها، سواء وقعت والتي تحتاج الى حلول سريعة، او التي لم تقع والتي تحتاج هي ايضا الى تحرك سريع منعا لوقوعها..
إذا لم تقم النخب المجتمعية للقيام بهذه المهام الجسام، والاضطلاع بهذه المسؤوليات العظام، فمن تراه يفعل؟!
وإذا لم يقم كل منا بدور مهما كان متواضعا في حمل الْهَمِّ العام، فماذا تفيدنا مناقشة أوضاع العالم العربي والإسلامي، وتحميل النظام الرسمي فيه مسؤولية الانحطاط الذي بلغ قاعا سحيقا غير مسبوق، متجاهلين تماما النظر تحت أقدامنا لنرى ان اوضاعنا المحلية ليست اكثر من صورة مصغرة لما يجري هناك، وان أسباب الازمة هناك هي ذات أسبابها هنا.
عليه، كما نطالب في نقاشات صالوناتنا الثقافية الشعبية العرب انظمة وشعوبا للقيام بدورها في إصلاح الوضع، فلماذا لا نطالب أنفسنا القيام بنفس الدور بهدف إصلاح اوضاعنا هنا، والتي إن صَلُحَتْ لربما تساهم في إصلاح الأوضاع هناك، فكلنا على ثغرة من ثغور هذا المجتمع بغض النظر على اتساعه او ضيقه، وأي عملية إصلاح تتم في ربوعه سيكون لها أثرها الظاهر والباطن على المشهد برمته، مصداقا لقول الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم: (أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك)، والذي يعني بكل بساطة أن كل فرد في المجتمع مسؤول، وأن كلا منا على ثُغرة من ثغر الإسلام كدين والمجتمع كوعاء لهذا الدين، فلا يؤتين لا الدين ولا المجتمع من قبلنا نحن الحراس. والثغرة كما هو معروف، موطن الضعف من الحدود، أو الثُلمة في الشيء. ففي هذا الحديث ما يشير الى المسؤولية الفردية في حماية حصون المجتمع الفكرية والمادية، والتي تبلغ في عمقها حد اعتبار الفرد منا نفسه مشاركا في المسؤولية عن الامة كلها سلبا او إيجابا. إن كان هذا صحيحا بالنسبة للجميع بغض النظر عن المستوى العلمي او القدرات المهنية، فمن باب أولى ان يكون المعنيون به أولا وقبل شيء النُّخب المثقفة ممن تملك هذه الأدوات.
(4)
والآن لنلقي نظرة على نوعية المرجعيات التي يجب ان ننطلق منها لإصلاح اوضاعنا، فأنا ممن يؤمنون أن منطلقات الاصلاح لا تقل خطورة عن ادواته ونوعية القوى البشرية التي ستعمل على تنفيذه، واحتمالات نجاحه.
كثرت النظريات والأفكار المطروحة لإصلاح الأوضاع على الساحتين العربية والإسلامية، تتراوح بين نظريات مغرقة في التغريب والتبعية، ومرتبطة بدوائر دول الاستكبار والامبريالية العالمية، وأخرى مغرقة في التقليد وترفض كل جديد.
في مكان وسط بين تلك النظريات المُفَرِّطَةِ وهذه المُفْرِطَةِ، تقف نظرية وسطية (الإحياء والتجديد)، عرفت الأدواء التي أصابت الأمة، فوصفت لها من الدواء ما يجمع الخير بعضه إلى بعض، إحياءً لها بعد موات، وتجديدا لأوضاعها التي ارتكست بعد عقود طويلة من الانحطاط، وأخرى مثلها من الاستعمار، وعقود أطول من الدكتاتورية والتسلط والهزائم والتخلف.
بكلمات أخرى، هنالك من رجال الفكر والسياسة في شرقنا الإسلامي من تجرأ إلى حد الدعوة إلى ترك الدين وإهماله، وإلغاء التاريخ والحضارة وطرح ذلك بالكلية جانبا، وإلى قبولٍ مفتوحٍ وبلا قيود لمُنْتج الغرب غثه وسمينه، وخيره وشره على اعتبار ذلك - على حد زعمهم - الطريق الأوحد لخلاص الأمة وتقدمها. أولئك هم الخطر الأكبر على الأمة، ولا يُنتظر معهم رجاءٌ في خلاص ولا نصر ولا فلاح. فمن يقوم بهذه المهمة الكبرى والوظيفة العظمى ؟؟
إذا طرحنا جانبا كل الدعوات التغريبية وعكفنا على النظر المعمق في الدراسات والدعوات الجادة التي تحاول أن ترسم طريقا لنهضة الأمة من خلال الجمع بين الماضي والحاضر والمزج بين الأصالة والحداثة، فان أحدا لا يشك في أن بداية الإصلاح لا بد أن تبدأ من خلال إعلان عام، يجمع كل قطاعات الأمة على مستوى الأنظمة والشعوب ليطلق الجميع مشروع المصالحة مع الله سبحانه وبرنامج الإصلاح المرتكز إلى مرجعية الشرع والدين.
من أبجديات المشروع الذي نتمناه أن يكون فيه دَفَقُ الثورة على كل السلبيات في حياة الأفراد والجماعات، الثورة على طغيان الغرائز، وسطوة الأهواء، وتحكم الشهوات والنزوات... ثورة على حكم الجاهلية بكل صوره وأشكاله والرجوع الخالص إلى الله وما ارتضاه لعباده المؤمنين ... ثورة على حالة التفرق والتمزق التي عبثت في شرف الأمة وكرامتها... ثورة على حب السلطان والصراع على الجاه والمال... ثورة على حالة غياب المبادئ والقيم والأخلاق في المجتمعات... ثورة على كل صور التخلف والضعف والهزيمة والمرض.. ثورة على الدكتاتورية والاستبداد والتسلط.. ثورة على الظلم والظلام بكل وأنواعه، وثورة لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
هذه الثورة في حياتنا كفيلةٌ بتغيير مسار التاريخ، وضمانةٌ لانطلاقة مجتمعنا المحلي وأمتنا عموما... بهذه الثورة تصفو الحياة من جديد، وتشرق الأرض بنور ربها من جديد، وتعود البسمة إلى محيا الأرض والإنسان والمقدسات من جديد، ويعود النصر ويكون للعزة طعم، ويعيش الإنسان في امن وأمان، وتتقدم المجتمعات وتزدهر...
بناءُ الانسان الصالح خُلُقا وعقلا وروحا وسلوكا من جهة، وتعزيز انتمائه لمجتمعه والذي يعني ببساطة ايمان بمبادئه، وسلوك موافق لِقِيَمِهِ، ودفاع عن حياضه بالنفس والمال، وعمق الولاء له، والاعتزاز والثقة به، والاهتمام بمصالحه من الجهة الأخرى، هما الاساس لنهضة المجتمع وتعزيز احتمالات نجاحه في تحقيق اهدافه وأشواقه.
الرئيس السابق للحركة الاسلامية في الداخل الفلسطيني
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net