الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 27 / نوفمبر 17:02

سيرة حمار بين الواقع والتاريخ والخيال/ بقلم: زياد جيوسي

زياد جيوسي
نُشر: 07/12/21 10:49

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

الحمار في الأدب كرمز سبق ان استخدم أكثر من مرة، فنرى توفيق الحكيم استخدمه في روايته "حمار الحكيم" وأعطاه صفة الفيلسوف، واستخدمه عبد الله المقفع في كتابه "كليلة ودمنة" وأعطاه صفة الغباء وخاصة في قصة الأسد والثعلب والحمار، والكاتب الأمازيغي أفولاي برواية "الحمار الذهبي"، والذي يعتبر اول كاتب للرواية في التاريخ والتي تقوم على فكرة تحول انسان الى حمار يبقى بالعقل البشري، وهي الفكرة التي قامت عليها رواية حسن اوريد، وكل كاتب منح الحمار صفة اراد من خلالها ايصال فكرته من خلال هذه الصفة، وعادة ما يلجأ الكُتاب لهذه الطريقة كي لا يتلقوا المحاسبة من السلطات على ما كتبوه، فيلجئون للكتابة على لسان الحيوانات من خلال الأسطورة.

كما استخدمه كُتاب عالميين مثل الكاتب التشيكي كافكا في روايته المسخ، وأيضا الروائي البريطاني جورج أوريل في روايته "مزرعة الحيوان"، ورواية "الأجمة" لنفس الكاتب حسن أوريد، لكننا في رواية "سيرة حمار" للكاتب حسن أوريد من المغرب والمنشورة عن دار الأمان في الرباط/ المغرب والمتضمنة 130 صفحة من القطع المتوسط، نجد أنفسنا أمام فكرة مختلفة تماما حيث يتحول المثقف والمتعلم إلى حمار، يفكر كإنسان ويعيش كحمار ويتعرض لقسوة البشر كما تتعرض الحمير، وهي فكرة فلسفية حيث اراد الكاتب من خلال شخصية الحمار الذي كان انسانا أن يوصل افكاره ورأيه بالأحداث والواقع، وغلاف الرواية يشير لذلك حيث دائرة في وسط الغلاف تحمل صورة رأس حمار بين الأعشاب يدير وجهه ويفكر وباقي الغلاف لون أبيض، وكأن لوحة الغلاف تشير لضرورة أن نعيش لحظات التفكير في الواقع المحيط بالبشر.

الرواية من وجهة نظري رواية سياسية بامتياز مغلفة بالتاريخ والأسطورة والأدب، فهي تهدف للتركيز على بعض من تاريخ وحضارة الأمازيغ وهم حسب التاريخ السكان الأصليين للشمال الافريقي، وبالتأكيد أن تاريخ المغرب لا يبدأ من بعد الاسلام فهو تاريخ موغل بالقدم، وهذا ما نراه أيضا في كتابه رباط المتنبي حين يلتقي المتنبي بالسارد، وتقوم الرواية على فكرة خيالية تستخدم التاريخ القديم والأسطورة والسحر والشعوذة، فهو يستخدم المسرح التاريخي وهو مدينة أليلي كمسرح للرواية، والأحداث فيها من الواقع الحالي مسقطا إياها على تلك الفترة الزمنية القديمة، حيث الشخصية الرئيس في الرواية أذربال ابن لشخص يعمل بالبلدية محاسبا وطموحاته سياسية وكونه ليس من طبقة النبلاء فلا مجال له فيها، لكنه متأثر بالمحتل روما التي تمتد امبرطوريتها من روما إلى قيرط وقرطاج وغيرها شرقا وغربا، وأمه إيزة وتعمل مزارعة في ارضها وتبيع الناتج للرومان، ترفض الحديث باللاتينية وتصر على التحدث بالأمازيغية وترفض حياة الرومان وترفها وتبعد أولادها عنها بعكس الأب تماما، وهذا لب الرواية من خلال تأكيد السارد على امازغيته والحديث عن حضارة الأميزاغ وتاريخهم وتأكيد الانتماء لهم، لكن هذا لا يترك أثره إلا على السارد فيصر على العودة لمدينته بعد الدراسة حيث يدرس المحاماة بين قيرطة وقرطاج ويحب امرأة ويقترن بها ويفترقان ويعود لمدينة أليلي مسرح الرواية، فيخسر هيباتا حبيبتة وزوجتة وينفصل عنها لرفضها ان تعود معه لبلدته، بينما باعل شقيقه قوي البنية ينخرط في جيش روما ويقاتل معهم.

يعود السارد لوطنه ويتورط بحكاية عشق وجنس مع ثيوزيس زوجة اوكتافيو فائقة الجمال من جزر بحر ايجه ولديها المام غير متعمق بمعارف الاغريق وتهوى اقامة الحفلات لعلية القوم، ولكن بعد وفاة ابنها اقتصرت اللقاءات على الفلاسفة والشعراء بجلسات مغلقة، ودعت السارد وحده للحديث الذي انتهى بالعشاء واحتساء النبيذ وممارسة العشق حتى الفجر وهي تكبره بخمسة عشر عاما، وهي زوجة اوكتافيو الثري وممثل موريتانيا الطنجية في مجلس الشيوخ وله مصانع لعصر الزيتون الذي يصدره الى روما وغيرها، وهو ملتهي بتجارته ولا يعطيها الاهتمام الكافي وخاصة بعد غرق ابنهما ليسيوس، فتعيش بفراغ عاطفي ورغبات جسدية تفرغها مع أذربال، وتقرر الهرب من زوجها بأن تسقيهما الخادمة شراب يحيلهما إلى طيرين يحلقان بعيدا ثم يعودان لسيرتهما الأولى، فتسحر الخادمة رحابوت المصرية الجذور والمتميزة بجمالها السارد أذربال بأن تسقيه شراب وتحوله إلى حمار، فهي كانت قد اشتهته بصمت ولم تجد استجابة بسبب سيدتها، وحين تشاهد ثيوزيس ما جرى تصرخ ولكن الخادمة تخرجها من الغرفة، فتسرق بعض من ممتلكات زوجها وتهرب مع الخادمة من المدينة بعد قضاء ليلة حمراء معه، وترمي مزق ملابسه التي تمزقت حين تحول إلى حمار مع بعض الدم عليها، فيظن من وجدها انه قتل، وهنا معالجة لقضايا اجتماعية لها دورها في انحراف الزوجات بسبب الفراغ العاطفي والجسدي والروحي بعدم اهتمام الأزواج.

وهنا نأتي لجانب الاسقاط السياسي في الرواية، فهنا الحاكم يحيل ما جرى الى عملية اختطاف للثلاثة وقتل أذربال، وأن البلاد تتعرض لخطر خارجي وخطر داخلي وظروفا عصيبة ينبغي التصدي لها بحزم، وينهي الكلام بالهتاف لروما والقيصر ويردد أهل المدينة الهتاف من خلفه، بينما هو متورط بفضائح مالية ووجد بهذه الحكاية وسيلة لاختراع قصة الخطر الداخلي والخارجي فيحول الموضوع عن رائحته التي بدأت تنتشر لقضية وطنية، بينما أذربال يسمع ولكنه لا يقدر ان يقول الحقيقة بعد أن أصبح حمارا، ويقوم الحاكم بترتيب جنازة للسارد بلا وجود للميت ويلقي الخطب العصماء هو وغيره في مناقب الفقيد، والذي ينهق بقوة ليشوش على الحفل فيتم ضربه ويغمى عليه، ويحلم انه خطيب يخطب بالناس، ويجري بيعه لتاجر مقتر لا يرحم ويهرب منه بعد أن تحرشت به أتان وسمع التاجر ينوي خصيه، ولكن هناك تساؤلات دارت في ذهني، فثيوزيس تعيش بقصر مليء بالخدم والحشم وليس مع خادمتها حتبوت لوحدهما، فكيف لم ينتبه أحد لليالي الحمراء شبه الليلية مع السارد بين مخدعها وشرفتها وصالونها؟ أعتقد أن هذه نقطة تلفت النظر، ونقطة أخرى لفتت نظري لماذا تحتاج للهرب والمخاطرة بعد أن تحول حبيبها الى حمار فالأصل أن نية الهرب كطيرين مرتبطة بعلاقته بها وعشقها له، مضافا لذلك أن ثيوزيس شخصية أساسية في الرواية وبمجرد هروبها لم يعد هناك أية اشارة لها رغم قدرة زوجها على البحث والوصول اليها، كما لم ترد أية اشارة لزوجها بعد شيوع قصة أنها تم اختطافها وسرقة بيته.

حين هروب أذربال وهو حمار وجد نفسه بين قبيلة بربرية تسمى بني سنوس تعبد الحمير، فقدسوه ودللوه، وكان الشاهد على ممارساتهم وجعلوا له خادما من نفس مدينته فتفاهم معه وعلمه لغة الحمير وكان خير الصاحب له، حتى وقع بأسر خصوم القبيلة من بني ييس الذين يعبدون الخيل ويكرهون الحمير وكادوا يقتلونه لولا انه جامع فرسهم التي استكانت له، وهنا نجد اسقاط آخر من الواقع الحالي على التاريخ القديم، ففي القبيلتين المنحدرة من أصل واحد نجد أشخاص يؤججون الصراع بين القبيلتين ليتمكنوا من حكمها، ولا يؤمنوا بعبادة الحمير والخيل ولكنهم يجدوها وسيلة للتحكم بالناس من خلال جهلهم، وتحرض روما كل من الطرفين على بعضهما ضمن سياسة فرق تسد، بينما لو توحدوا لأصبحوا قوة تهدد روما وتستقل عنها، وهذا ما نراه الآن باختلاق الصراعات بين الشعوب واختلاق مقدسات يؤمن بها العامة ويحكمهم من خلالها أصحاب الأمر والقرار، منفذين أوامر الغرب والقوى العالمية المهيمنة.

ولكنه كحمار أصبح اسمه أسنوس يفكر كإنسان يقول بهمساته لنفسه كلام فلسفي جميل توجهنا الرواية للتفكير فيه مثل: "اليس الإنسان حيوانا من نوع خاص، فما يميزه عن الحيوان التفكير، وقلة من الناس من تفكر".

حين يتم طرد الحمار من عند قبيلة بني ييس ربطته علاقة طيبة بكهل يعيش وحده وهو ايضا من بلدته، ولكنه كهل له فلسفته في الحياة وثقافة واسعة، ولا يؤمن بالعرافة او النبوة بل بسقراط والتوليد المعرفي والسؤال وليس الجواب، وهناك التقى أتان وصفها كما وصف خادمة عشيقته وسلوكها انساني فمارس العلاقة معها رغم انه كان يرفض ذلك كونه انسان ولم يمارسه الا مع الفرس لينقذ نفسه، ولكنه يقع والأتان من جديد بيد التاجر البخيل فيبيعه للسيرك، ويكتشف ان مدينته نسيته بعد استنفاذ استغلال القصة لصالح الحاكم الذي أعيد تعيينه، فالآن المدينة وجدت لها قضية أخرى تتلهى بها، محاكمة الحكيم بتهمة سرقة الحمير وتهديد أمن المدينة والارتباط بعدو خارجي، وفعليا لأنه اعتزل المدينة وأصبح خارجها، فنسي الناس فضله على تعليم الأبناء والأحفاد، وهذا اسقاط سياسي آخر نشاهده الآن في بلادنا تجاه أي شخص معارض يقول الحقيقة ولا يتم شراؤه، فالتهمة جاهزة كما تهمة الحكيم أو القتل بشكل أو آخر، اضافة للتشهير والاستهزاء لمجرد الاختلاف في الرأي، كما فعل زعيم الحمير بأذربال المتحول الى حمار، فيتساءل السارد عن الفرق بين سلوك زعيم الحمير وزعماء البشر، وفي السيرك يكون اسقاط سياسي آخر عن اهتمام الحكومات بمثل هذه الأنشطة التي تبعد الناس عن التفكير بشؤونهم، ويسقط الحدث الآن على التاريخ من خلال ما كان يتم بعهد الرومان بإلقاء السجناء ليتصارعوا مع الأسود الجائعة فيقول: "أن الساسة لا يتورعون في استعمال جميع الأساليب حتى الدنيئة منها، من أجل القضاء على غرمائهم كما يفعل المبارزان في الحلبة... أليست السياسة سيركا من نوع خاص"، كما يرى السارد أن الشعوب روضت وأصبحت تخشى قوى أضعف منها ولو استخدمت قوتها لانتصرت ولكنها روضت على الخوف فرضخت.

مسرح الرواية نقلنا بين مساحات واسعة من أراضي امبراطورية روما، وأشار الكاتب بذكاء للاختلاف في النظرة للعلم والفلسفة والحياة بين هذه المسارح، فمنها مسارح كما المسرح الأول مدينة أليلي عاصمة موريتانيا الطنجية حيث نشأة السارد وحيث وطنه، وقيرطة مكان دراسة السارد ومازجت بين حضارة الرومان وأثر نوميديا وهي تعود للأمازيغ، وقرطاج مكان استكمال دراسة السارد للقانون، وهي مدينة تحمل اثار حضارات مختلفة ولكن الحضارة الإغريقية تغلب عليها كما الفلسفة اليونانية حاضرة في برامج دراستها، وتعبد ايزيس والبعض منها يؤمنون بالحياة بعد الممات، وفيها اقترن السارد بالواعية بالفلسفة اليونانية هيباتا من مدينة سرين والملمة بلغة بلاد القبط التي تشابه لغة الأميزاغ، وروما التي اقام بها السارد بطريقه لموريتانيا بعد ان انفصل عن هيباتا التي رفضت أن تصحبه لبلده، وروما يغلب عليها الترف والسياسة والبعد عن الحكمة، وهذه المسارح التي كانت مجال حديث السارد وهو انسان، لينقلنا إلى مسارح أخرى تدور على خشبتها لرواية مثل بلدات ومدن صاله وبناسا وليكسوس وتين جيس وسبتوم وتامودا وهي التي وصلها مع المسرح وهو ممسوخ حمار، بينما الشخصيات في الرواية كان الراوي فيها الشخصية الرئيسة، والشخصيات الثانوية اوردتها خلال حديثي عن الرواية، لكن هناك شخصيات ثانوية أخرى لو غابت لما تركت أثرا على الرواية.

الرواية سلسة وتشد القارئ بين الأسلوب والرمزية والأسطورة والخيال وقد تمتعت بقرائتها، فقد حفلت الرواية بالرمزيات التي تدفع القارئ للتساؤل مثل المصارعة بين الحمار/ الانسان والأسد الجائع والتي تنتهي بانتصار الحمار ولكن ليس بقوته بمقدار استخدامه للتفكير والعقل وعدم الخوف من القوة المتمثلة بالأسد الجائع، لكن كان يجب الانتباه للتدقيق اللغوي والاملائي من دار النشر، وخاصة أن الكاتب مبدع باللغة العربية ويتحدث بالفصحى، حيث هناك عدد من الأخطاء، ومنها خطأ في نهاية الصفحة 30 حيث وردت عبارة مواء البقرة، وصوت البقر خوار وليس مواء، وقد أفادني الكاتب حسن أوريد لاحقا في ندوة نقاش وحوار عبر الزوم، اقامها منتدى شرق وغرب الثقافي الذي يضم نخبة من المثقفين والمبدعين في أنحاء العالم ولي شرف العضوية فيه، أن هذه الأخطاء كانت في الطبعة الأولى التي قرأتها، وأنه جرى التصحيح بالطبعات اللاحقة، وبالتأكيد ان فكرة التفكير والتحرر من الجانب الحيواني في داخل الانسان، بعض من أهداف عديدة تمكن الكاتب بأسلوبه المشوق من ايصالها للقارئ من خلال الحمار/ الإنسان، ونهاية الرواية لم تخرج عن الأسطورة والرمز وأترك للقارئ قراءة الرواية ومعرفة النهاية فيها، وهذا ما يثير في ذهني سؤال: الكتابة مرآة للكاتب وتعكس بداخلها بعض من صور الكاتب، والمفترض أن لكل كاتب رسالة يؤمن بها ويعمل من أجلها، فيا ترى ما هي رسالة الكاتب حسن أوريد.
رأيت في الرواية أن مسيرة الانسان الحمار هي رحلة الانسان الذي تحيله الحكومات حمارا، فإما أن يفكر ويثور أو يبقى حمارا، فالانسان حتى يكون حرا عليه أن يفكر ويعمل على البحث عن الحقيقة وإلا بقي حمارا كجزء من القطيع، فلذا التفكير والثقافة ورفض الواقع المسيطر عليه من المتسلطين والأثرياء وخفافيش العتمة مسألة مهمة، فتلك الفئات لا يهمها الا المال ومصالحها، فنرى كيف أن ابناء التاجر كلهم في روما المحتلة لبلادهم، وهذه الاشارات بعض من أهداف الرواية وتجلت في نهايتها حيث تولد الانسان بعد مرحلة البحث من جديد، حين تقول حاتبوت التي كانت خادمة وحولت نفسها لأتان حين عادت الى وضعها الإنساني والتقاها أذربال حين عاد لوضعه الانساني: "لكي يتخلص الانسان من عنصره الحيواني عليه أن يقوم بسفر داخلي"، فتمسك بيده وتقول له ايضا: "ما أجمل الغروب" فيقول لها: "هو إيذان لفجر جديد"  

مقالات متعلقة