للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
صدرت عام 2016 رواية "برج اللقلق" للأديبة المقدسية ديمة جمعة السمان عن مكتبة كل شيء في حيفا ، وهي تصميم ومونتاج شربل الياس، لوحة الغلاف الأوّل بريشة الفنان المقدسيّ طالب دويك. تقع الرواية في 464 صفحة من الحجم المتوسط.
رواية برج اللقلق رواية تاريخيّة اجتماعيّة سياسيّة ووطنيّة في آن واحد. فالكاتبة ديمة جمعة السمان تأخذنا في رحلة عبر الزمن منذ الاحتلال العثماني لفلسطين وحتى قيام دولة اسرائيل، وهي لا تغفل في هذه الرحلة عن أيّ محطّةٍ كان لها دور إيجابيّ أو سلبيّ في تاريخ الشعب الفلسطيني، جاعلة مدينة القدس محور روايتها وتحديدا منطقة برج اللقلق.
وبرج اللقلق هي حارة داخل أسوار القدس القدس القديمة، تسكن فيها عائلة آل عبد الجبّار والتي تدور أحداث الرواية حولها، يقع بيت آل عبد الجبّار على قمّة هضبة، باحة البيت تطل على ساحة الحرم القدسيّ الشرقيّ من جهة الجنوب، ومن ناحية الشرق يطلّ على جبل الزيتون.
تصوّر الروائيّة ديمة السمان الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة التي عانى منها سكان البلاد في الفترة العثمانية، حيث كان الأتراك يجبون الجزء الأكبر من محاصيل المزارعين كضريبة، ولا يبقون لهم إلا النزر اليسير، هذا إضافة إلى ظلمهم واستعبادهم للناس وتطبيق عقاب الخازوق لكل من يخالف الأوامر أو يعلن التمرّد أو العصيان. لكنّ القويّ لا يبقى قويّا أبد الدهر، فحلّ الضعف بالإمبراطورية العثمانية واستغلّت الدول الاوروبيّة ذلك، وأعلنت عليها الحرب وتقاسمت البلاد بينها، فأخذت بريطانيا فلسطين ومصر وأخذت فرنسا سوريا ولبنان، تلا ذلك معاهدة سايكس بيكو ووعد بلفور، فقامت الثورات في أنحاء فلسطين عام 1929، احتجاجا على وعد بلفور ومنح اليهود وطنا في فلسطين، استمرت المواجهات بين الثوار وقوات الهجناه(الجيش الاسرائيلي)، الذي ارتكب عدّة جرائم بحق سكّان البلاد منها مجزرة دير ياسين، ثم حدثت معركة شرسة من أجل الدفاع عن القدس انتصر فيها الثوار وتمكّنوا من دحر عصابات اليهود، لكن جيش الانقاذ بقيادة فوزي القاوقجي انهزم أمام الجيش الاسرائيلي المدعوم من بريطانيا وأمريكا. وفي عام 1952 قامت ثورة الضباط الأحرار في مصر، واستلم جمال عبد الناصر الحكم وأعلن عن تأميم قناة السويس، فدبّ الأمل في نفوس المواطنين، لكنه سرعان ما خبا بعد الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956، والذي تلاه حرب عام 1967، واحتلالها سيناء وغزّة والضفة الغربية بجوهرتها القدس، ومرتفعات الجولان السورية، ثم استلم السادات الحكم عام 1970 بعد وفاة عبدالناصر، وحارب إسرائيل في معركة اكتوبر عام 1973 التي فاجأت الجيش الاسرائيليّ وأوقعت فيه خسائر فادحة، لكن سرعان ما تدخلت أمريكا، ليُعلن بعدها عن معاهدة كامب ديفيد والتسوية بين مصر واسرائيل، ليستمرّ نضال سكان القدس ضد الاحتلال حتى يومنا هذا.
كل هذه الاحداث والسنوات الطويلة تسردها لنا الكاتبة من خلال أحداث دراميّة مثيرة بأسلوب شائق ومن خلال شخصيّات روايتها العديدة والمتنوّعة والتي جعلت من شخصيّات عائلة عبد الستّار شخصيّات فاعلة ومؤثّرة في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة طيلة هذه العقود.
تُعدّ الشخصيّة الروائيّة وسيلة الكاتب لتجسيد رؤيته والتعبير عن إحساسه بواقعه، وهي ركيزة الروائيّ الأساسيّة في الكشف عن القوى التي تحرّك الواقع من حولنا، والكشف عن ديناميكيّة الحياة وتفاعلاتها. فالشخصيّة هي من مقوّمات الرواية الرئيسة، ومن دون الشخصيّة لا وجود للرواية. يركِّب الروائيّ عددا من الكتل الكلاميّة بصورة غير مصقولة، واصفا نفسه ومُطلقا عليها اسما وجنسا، كما يختار لها ملامح معقولة، ويجعلها تتكلّم بواسطة فواصل مقلوبة؛ هذه الكتل الكلاميّة هي الشخصيّات.( فورستر، 1994، ص. 37.)
ويصنّف هنري جيمس، المشار إليه في بحراوي (2009)، الشخصيّات، من حيث علاقتها بالحبكة، إلى نوعَيْن: الأوّل، شخصيّات خاضعة للحبكة، ويسمّيها "الخيط الرابط"؛ إذ تظهر لتقوم بوظيفة ما داخل تسلسل الأحداث السببيّ؛ والثاني، شخصيّات تخضع لها الحبكة، وهي الخاصّة بالسرد السيكولوجيّ، وهنا تكون غاية الحلقات الأساسيّة في السرد إبراز خصائص الشخصيّة.( بحراوي، 2009، ص. 216.).
تعجّ رواية برج اللقلق بالشخصيّات، فمنها شخصيّات خاضعة للحبكة ومنها شخصيّات رئيسيّة تخضع لها الحبكة وتسري وفق رغباتها وإرادتها، من الشخصيّات المركزيّة المؤثّرة في الرواية شخصيّة عبد الجبّارـ وابنه علي ثم الحفيد عبد الجبار وولده علي، كذلك شخصيّة نفيسة زوجة عبد الجبار ونفيسة الحفيدة وولديها ليث وشروق، وهناك شخصيات كانت على هامش الأحداث مثل أبو رعد وأبو الطاهر وهما صديقا عبد الجبار الجد الأول للعائلة، إضافة إلى شخصيات وطنيّة مناضلة، وشخصيات متعلّمة ومثقّفة وثوريّة وشخصيات عميلة.. ولكثرة الشخصيات وتنوعها فقد اخترت بعضا منها لما رأيته فيها من تأثير على السرد والأحداث.
شخصيّة عبد الجبّار: تميّزت هذه الشخصيّة بعنادها وإصرارها على تحقيق الهدف وبقوّتها وعزّة نفسها. وعبد الجبّار ورث الزعامة أبّا عن جدّ، قرّر أن يعمل حطّابا وأن يخزن حطبه خارج أسوار مدينة القدس بقرب المقبرة، الأمر الذي أثار استهجان زوجته وعائلته، فحاول الجميع ثنيه خوفا عليه، فقد آمن الناس أن المقبرة تسكنها أرواح تخرج في الليل وتؤذي كل من يقترب من المكان. لكن عناد عبد الجبّار كان أقوى من كل هذه الخرافات، فبنى كوخا وأوصد بابه وحرس حطبه كل الليل، أمّا سكّان حيّه فلم يصدقوا حين كانوا يرونه ماشيا بينهم دون أن يُمسّ بسوء. ثمّ اكتشف عبد الجبّار سرّ خوف الناس من الأشباح، فقد سيطر على المقبرة مجموعة من اللصوص يرتدون ثيابا بيضاء فيبدون كالأشباح ويوقعون الرعب بكل من تسوّل له نفسه الاقتراب من المقبرة ليلا. استطاع عبد الجبّار أن يصادق مجموعة الأشرار هذه ويأمن شرّهم بل ووعدوه بحراسة حطبه. تمثّل شخصيّة عبد الجبار الإنسان الذي لا يؤمن بالخرافات، والذي يسعى نحو تحقيق هدفه بكل ثقّة وثبات. كما تميّزت هذه الشخصيّة بالشجاعة والكرم فعندما ضرب القحط البلاد وانتشرت المجاعة أثناء الحكم العثماني في فترة(السفر لك)، كان عبد الجبار يقسّم الرزق بينه وبين الجيران، حتى أنه ذبح البغلتين والحصان وأطعم لحمها لأهل الحيّ.
لعب عبد الجبّار دورا فاعلا في ثورة عام 1939، فكان من القادة الذين خططوا وهاجموا حتى استشهد، فتابع الرسالة أولاده وأحفاده من بعده.
شخصيّة نفيسة: نفيسة هي زوجة عبد الجبّار وهي تمثّل المرأة الفلسطينيّة القويّة الحكيمة، المتعلمّة، حيث درست القرآن والحديث ـ وكان لها تأثير كبير على الكبير والصغير. أدارت نفيسة أمور بيتها بحكمة وخاصّة في الأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة الصعبة. لا تهاب ولا ترضى بالذلّ، عزيزة النفس وذكيّة. وهي بعكس أهل الحيّ لم تكن تؤمن ببركة الوليّ الشيخ علي من عائلة عبد الجبار الذي حارب مع صلاح الدين في حربه مع الصليبيين في تحرير القدس، واستشهد ودفن في حديقة بجانب بيت عبد الجبارـ كان الناس يقصدونه لنيل البركة والشفاعة منه، أو للعلاج من العقم وولادة البنين وغير ذلك. كانت نفيسة تسخر من الناس كيف يطلبون شفاعة من ميّت، حتى أنها نقمت على الشيخ علي لأنه كان يأتي زوجها في المنام ويأمره بتطليقها .
كانت نفيسة امرأة مدبّرة اقتصاديّة، إذ كانت تدخّر من مال زوجها وتخزّن المؤن لوقت الحاجة، وحين حدثت المجاعة، كانت تصحو ليلا لتُخرج من المخزن المواد الغذائيّة، وتعدّ الطعام وتطعم أولادها. حتى اكتشف زوجها ذلك وغضب منها لأنها تطعم أولادها ولا تطعم أهل الحيّ فطلّقها، وكانت نتيجة ذلك أن مات أحد أبنائه جوعا فطلب من نفيسة العودة إلى البيت ورعاية الأولاد.
شخصية المناضل علي بن عبد الجبار: يمثّل الشخصيّة النضاليّة الوطنيّة الشريفة، اذ سار على نهج والده والتحق بالثوّار:" أخرج بندقية أبيه يسير على دربه، ويلبّي نداء الثورة، فسكن الكهف وصعد الجبل وهبط الوادي وتسلّم قيادة فصيل، ولكنّ الدعم البريطاني لليهود قوّى شوكتهم". ص 248. اشترك عليّ في معركة هامّة في الدفاع عن القدس، وقد تمكّن بفضل قوتّه وإرادته وحكمته من وضع خطّة أودت بحياة مجموعة كبيرة من اليهود الذين حاولوا اقتحام باب الأسباط. يمثّل عليّ إذن، الشخصيّة التي تؤمن بنفسها وتبعث الأمل في نفوس الثوّار.
شخصية نفيسة حفيدة عبد الجبار: كان لنفيسة أمّ ليث شخصية جدّتها نفيسة التي ورثت اسمها، لها جبروتها ومكانتها المرموقة وكلمتها المسموعة، احتلت مركز عمّة الحيّ بجدارة، فكانت بيت سرّ نسائه والثقة والمرجع لهنّ في جميع شؤونهنّ، وكثيرا ما كانت تقف وقفة صلبة أمام زوج ظالم ولا تتورّع عن تعنيفه دون أن يجرؤ على الاعتراض، أو مجابهتها أو ترشد زوجة جاهلة لحقوق زوجها فتردها الى بيتها، كما أنها كانت عونا للبيت المحتاج تدعمه وتحافظ على سرّه. ص 396.
وقفت نفيسة في وجه ابنها ليث الذي خرج عن طوعها وكان عميلا لإسرائيل، فأعلنت براءتها منه وغضبها عليه الى يوم الدين، ومنعته من التدخل في شؤون أخته شروق التي أراد أن يزوجها من رفيقه العميل غازي وفق أوامر المخابرات، حتى أنها أطلقت عليه الرصاص وقتلته قبل أن تعرف عن توبته، ثم ندمت على فعلتها ولحقت به بعد أن قامت بعملية تفجيري،ة كان ابنها ينوي القيام بها ليكفّر بها عن ذنوبه.
تمثّل شخصيّة نفيسة المرأة الفلسطينيّة الشريفة الأبيّة الصالحة التي تقف في وجه الشر حتى لو كان ابنها.
شخصيّة شروق: شخصيّة شروق مثل والدتها نفيسة مناضلة متعلّمة تشارك في مظاهرات الطلّاب دون خوف، وقعت في هوى عليّ ابن خالها الذي كان مناضلا مثلها ويتعلّم معها في نفس الجامعة في بير زيت، وقد خلّصته ذات يوم من الجنود الذين أحاطوا به وأوسعوه ضربا:" أثناء المظاهرة أمسك الجنود بعلي وبدأوا يضربونه، فهجمت تحميه بجسدها، فاستبسل الشباب في الدفاع عنها وعن عليّ وتمكنوا من انقاذه". ص 388. وقفت شروق في وجه أخيها واتّهمته بالعمالة وأخبرت والدتها أن اسمه "العميل ليث النعمان" مكتوب على الحيطان، وقد رفضت شروق الزواج من العريس الذي فرضته المخابرات عليها رغم استلام أخيها ليث مهرها منهم.
شخصية ليث: شخصيّة ليث هي شخصيّة متمرّدة، تختلف اختلافا جذريّا عن نسل آل عبد الجبّار، وكأنّه لا يمتّ لهم بصلة. يتضّح لنا من أحداث الرواية أن ليث تمرّد على والدته وأهله ورفض سطوة أمّه وجبروتها، كما كره أخواله وأولاد أخواله فهم المتفوقون في كل مجال: في الدراسة، العمل، النضال، سيادة أهل الحيّ، لذا سلك مسلكا مغايرا تماماـ فعمل في مصنع في تل أبيب ثم انزلق إلى عالم السكر والحشيش والمخدرات والجنس والعمالة، فأصبح عيون المخابرات الإسرائيلية، ينقل لهم أخبار أهل حي برج اللقلق، وذلك لأهمية الموقع حيث أنه قريب من الأقصى الشريف، وتمكّن من تشكيل عصابة أوقعت بعدة خلايا وطنيّة، كما قام ليث بشراء البيوت من الفلسطينيين وباعها لليهود.
لقد وقع ليث تحت سطوة وجبروت رجال المخابرات الذين أمروه بتزويج اخته شروق من عميل آخر لديهم، ومن بيع بيت أمّه نفيسة لهم، ولما كان البيت مسجّلا باسم نفيسة طلبوا منه قتل أمّه. ويبدو أن هذا الأمر أثار فيه صحوة الضمير فانقلب ليث عليهم ولجأ الى ابن خاله عليّ تائبا ـ بل وطلب من جهاد ابن خاله(أخ عليّ) أن يصنع له حزاما ناسفا حتى يفجّر نفسه في عمليّة تفجيريّة؛ ليكفّر عن ذنوبه. لكن نهاية ليث كانت على يد أمّه التي لم تعرف بتوبته وخشيت من بيع بيتها لليهود ومن قتل ابنها لها وتزويج اخته من العميل غازي.
يمكن القول إن الشخصيّات الذكوريّة التي جاءت بها الروائية ديمة السمان كانت متنوعة ومتعدّدة منها الوطنية والمناضلة والشريفة والانهزامية والذليلة والعميلة. أمّا الشخصيّات النسائيّة فكانت جميعها تتّصف بالحكمة والأصالة والعزّة والوطنيّة والشهامة. فهل يمكننا القول أن الروائيّة ديمة السمان أنصفت المرأة في روايتها هذه؟ فصورت المرأة الفلسطينية كما تراها في أرض الواقع؟