الأخبار العاجلة
مدخل عام:
حين تصل مرحلة تذوُّق النَّصِّ الشِّعري، تكون قد بلغت مرحلة وعي، يمكنك من خلاله التَّفريق بين الشِّعر واللَّا شعر، بين قوَّة الكلمة وهشاشتها، بين الرَّكاكة والـمتانة، بين اعتدال الكلام وشدَّته وبين ترهُّله، وتكون قد امتلكت بصيرة تكشف التَّرهُّل في الكلام حَتَّى لو كان موزونًا مقفًّى، وتعلم أيضًا أنْ لا نثر في الشِّعر ولا شعرَ في النَّثر، وَهٰذا يختلف عن قولنا «الشَّاعريَّة أو اللُّغة الشِّعريَّة، أو الأقاويل الشِّعريَّة [الكلام الـمخيِّل] حسب ابن رشد والفارابي وابن سينا أو التَّخييل والـمحاكاة حسب حازم القرطاجنِّي، وقبلهم أرسطو»، فالأقاويل الشِّعريَّة الَّتي هي الكلام الـمخيِّل، والـمحاكاة كما عند حازم القرطاجنِّي، الَّذي دلَّس عليه الشُّيوعيُّ الـمصريُّ، محمود أمين العالم، وأنطقه ما لـم ينطقه، أو الصُّورة بلغة العصر أو التَّشبيه، موجودة في الشِّعر وفي النَّثر، لٰكِنَّها ليست الشِّعر طالـما خلت من الوزن، وَهٰذا ما يأبى قسم كبير من النَّثريِّين قبوله بل وفهمه.
وقد قلت في موضع آخر: ليس كلُّ موزون شعرًا ولا شعر بلا وزن.
إِنَّ للكلمة قوَّة لا يستشعرها إِلَّا من تمرَّس في الدَّرس الأدبيِّ، وقطع رحلة طويلة بصحبة الشِّعر العربيِّ الأصيل، وصار بإمكانه التَّمييز بين نصٍّ متين ونصٍّ هشٍّ مترهِّل الكلام، حَتَّى لو كان موزونًا مقفًّى، ويحضرني قول لا أدري من صاحبه في تفضيل الزَّجل عَلى الفصيح، وهو أنَّك قد تجد قطعة زجليَّة تبدو بجانبها مئات القصائد الفصيحة كومة من الحطب، وهو قول خبيث، يحمل في ثناياه هجومًا مبطَّنا عَلى الشِّعر العربيِّ الأصيل وينتقصه. والرَّدُّ عليه أنَّ بيتًا من الشِّعر العربيِّ الأصيل في الحكمة أو الأمثال أو الوصف أو مطلع قصيدة، ما كان، محكم البناء والـمعنى ستجد بجانبه كلَّ الزَّجل، من ابن قزمان حَتَّى يومنا، زبدًا طافيًا عَلى وجه سيل مندفع؛ رغم أنِّي لا أحبِّذ هٰذِهِ الـمفاضلات، فلكلِّ نوع طعمه ومذاقه وجماله وسحره، والـمفاضلة إنَّما تكون في النَّوع نفسه، بين نصٍّ وآخر وليس بين نوع وآخر، فالشِّعر يُفاضَل بالشِّعر من جنسه، والنَّثر يُفاضلُ بالنَّثر من جنسه، والزَّجل يُفاضل بالزَّجل من جنسه، لأنَّ مفاضلة نوع بغيره من الأنواع، كأنَّك تفاضل بين الإنسان والحصان أو الجمل أو غيرهما من الـمخلوقات، وهي مفاضلة باطلة بَدْءًا، والإصرار عليها نوع من الجهل والغباء والتَّجنِّي. فهل أدركت الآن، أيُّها القارئ الكريم، حُبْثَ طويَّة من فاضل بين الزَّجل والشِّعر العربيِّ الأصيل، حين جعل مئات القصائد كومة حطب بجانب قطعة زجليَّة، والهدفَ الخفيَّ الَّذي يرمي إليه من وراء مفاضلته غير الفاضلة تلك؟ وهل يُفاضَلُ بين الخمر وعصير الرُّمَّان مثلًا؟ أو بين الـمرسيدس وحمار يجرُّ عربة، رغم أنَّ كليهما للرُّكوب والنَّقل؟
بعد هٰذا الـمدخل العامّ، نقول: إنَّ شاعرنا، الدُّكتور عامر جنداوي، ليس طارئًا عَلى ميدان الشِّعر العربيِّ الأصيل، وليس كما سمَّى أحدهم الشِّعر العربيّ الأصيل، بالشِّعر العَروضي والقصيدة العَروضيَّة، وَهٰذا بعض ما ابتلينا به من الجهل في هٰذا العصر، لأنَّ الشِّعر العربيَّ الأصيل موجود حَتَّى قبل ولادة الخليل مبتكر علم العَروض، ولا وجود لشيء اسمه شعر عروضي أو قصيدة عَروضيَّة، وإلَّا وجب علينا أن نقول الشِّعر العَروضي لامرئ القيس، أو معلَّقته العَروضية، وحسبك بجهل هٰذا التَّوصيف وجهل قائله.
قلنا إِنَّ شاعرنا ليس طارئًا عَلى هٰذا الـميدان، بل هو أحد فرسانه الـمتمكِّنين، يعرف كيف يقنص الـمعنى البعيد باللَّفظ البسيط، وكيف يصطاد أبكار الـمعاني، وأيّ سهم يصيب الفرائد وأيُّ سهم يصيب الشَّوارد، وكيف يلتقط من رياض الشِّعر ما قد نَوَّر، وما في سماء البلاغة قد سما وأزهر.
هو شاعر عرك اللُّغة نحوًا وصرفًا وعَروضًا، فصدرت عنه محكمة تنفح الشَّذا عَلى كلِّ دانٍ منها، لا وهْن في كَلِمِهِ ولا ضعف في بنائه ولا ترهُّل في نسيجه.. تقرأ الـماضين في حروفه وشعره، فتبصرهم أحياء طوَّافين عَلى أحفادهم يتفقَّدونهم ويتعاهدونهم، بل ويوصونهم أن لا يرضوا أقلَّ من الـمُجَلِّي، لأنَّ ما دونه كلُّه السُّكَّيْتُ وإن كان الـمُصَلِّي.
لنا الآن أن نردَ روض شاعرنا وماء غدرانه السَّلسبيل، نغرف بملء الكفِّ ونروي ظمأنا، ونقطف من أزاهيره ونتنشَّق شذاها، ونصغي لأغاريد طيره، ونحاول الإمساك بفراش مبثوث صبغته طبيعة الرَّوض بألوانها فاتَّحد مع ألوان الزَّهر مشكِّلَين لوحة ربَّانيَّة ربيعيَّة، وتنعفنا نسائمه بما حملَتْ من طيب وديان الكلام وشذاها، ونتفيَّأ ظلاله، ثُمَّ نتبتَّل قليلًا في محرابه، قبل أن نصدر عنه بما جمعنا في طوافنا في حضرة الجمال، فما أكثر أفنانه وما أعبق أزهاره.
قد يرى البعض أنَّنا نغالي في حقِّ شاعرنا، ونقول: لا، فاللُّغة العالية ومتانة السَّبك، وقوَّة النَّسج، والصُّور الـمبتكرة، والبلاغة والتَّمكُّن من الأدوات، كلُّ هٰذا يؤدِّي إِلى حسن التَّذوُّق للشِّعر، وعلينا أن ننصفه ولا نبخسه حقَّه، وبالـمقابل لن نغضَّ الطَّرف عن الجانب الآخر إِنَّ وجدنا منه ولو نزرًا يسيرًا.
قلنا إِنَّ شاعرنا عرك اللُّغة نحوًا وصرفًا وعَروضًا، لِذٰلِكَ فهو يكتب القصيدة العموديَّة والتَّفعيليَّة، جريًا عَلى سنن السَّابقين واللَّاحقين، دون أن يُغفل سنَّة الإبداع والابتكار الَّتي تأخذ منتهجها إِلى مصافِّ التَّفرُّد والتَّحليق فوق حدود الخيال، حَتَّى لا يظلَّ أسير حدود السَّابقين فيقع في حيِّز التَّقليد، ونبدأ مع النُّصوص، فيقول في قصيدة «لَنْ يَهونَ» [مجزوء الرَّمَل]:
«مُثْقَلٌ بِالحُبِّ قَلْبي.. نارُهُ شَبَّتْ بِجَنْبي
إِنْ جَفا الغَيْثُ سُفوحي.. ما جَفاني عَطْفُ رَبِّي» [ص: 5].
ولنا أن نقف عند الغيث الَّذي يجفو، وهل يملك الغيث أن يجفو؟ والغيث من مفاتيح الغيب.. وهو علم اختصَّ الله به نفسه.. ولا ينازعه فيه غيره، والله أخبر أنَّه هو من ينزِّل الغيث { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلْأَرْحَامِ...} [لقمان - 34]، إذن، هنا انزياح لغويٌّ، والغيث هنا ليس الـمطر، بل هو غيث آخر، والانزياح اللُّغويُّ يتيح لنا، وفي عجز البيت جاء { ما جَفاني عَطْفُ رَبِّي}، ويصبح الغيث وعطف الرَّبِّ متجانسين، ويكون الغيث عطف الحبيب، فإن جفا الحبيب ونضب عطفه فلن يجفوه عطف الخالق، وهو لا يطلب مجرَّد عطف عادي، بل منهمر كالغيث، وفي البيت نلمح استعطافًا، وهو أمر دارج بين الأحبَّة.
«لَنْ يَهونَ الحُبُّ فيكُمْ.. لَنْ يَخونَ العَهْدَ قَلْبي
رُبَّما أَلْقاكَ يَوْمًا.. لَوْ رَماني فيكَ دَرْبي» [ص: 5].
يصف لنا حاله وخُلُقَهُ، والوفاء وعدم الخيانة، وَهٰذِهِ صفات النُّبلاء، حَتَّى حين يخسرون يظلُّون عَلى أخلاقهم النَّبيلة، وقد أخبرنا في البيت الأوَّل أنَّ قلبه مثقل بالحبِّ، وناره شبَّت في جنبه، لٰكِنْ في البيت الثَّاني هنا يواجهنا إشكال، فهو يحيل إمكانيَّة اللِّقاء مجدَّدًا إِلى الصُّدفة [ربَّما] وَهٰذِهِ تحمل نقيضها في أحشائها، أي ربَّما ألقاك وربَّما لا ألقاك. أمَّا الإشكال فهو حرف [لَوْ] وهو حرف امتناع لامتناع، والـمعنى أنَّ الدَّرب لن يرميه فيه، ولذا لن يلقاه، فاللِّقاء ممتنع ولن يكون.
«أَوْ أَصَرَّ البُعْدُ هَجْرًا.. ذِكْرَياتُ الأَمْسِ حَسْبي
يا حبيبي لا تَسَلْني.. قَدْ يَكونُ الذَّنْبُ ذَنْبي
فَاذْكُرِ العَهْدَ لِعُمْرٍ.. ظَلَّ دَوْري أَنْ أُلَبِّي» [ص: 5].
والبعد هنا له إرادة ليصرَّ، وَهٰذا انزياح آخر، ونتيجة بعد الحبيب وطوله، صار هو نفسه البعد، أي الحبيب البعيد، والجواب ذكريات الأمس تكفيه، والأمس غير أمس، فالتَّعريف يجعلها ماضيًا قد يكون بعيدًا أو قريبًا، لٰكِنَّهُ ماض عَلى أيِّ حال، ثُمَّ يوصيه أن يذكر العهد، وقد أخبرنا عن نفسه أنَّ قلبه لن يخون العهد.
في قطعة صغيرة [نُتفة] من ثلاثة أبيات، من الكامل، عنونها بـ «يا جَميلُ» يقول:
«قُرْبٌ وَبُعْدٌ، حَيْرَةٌ وَسَكينَةٌ.. وَالقَلْبُ يَحْيا تارَةً وَيَموتُ
كَالأُفْقِ يَنْفُرُ كُلَّما راوَدْتُهُ.. بِسَرابِ رَيِّكَ يا جَميلُ رُويتُ
وَعَدَلْتُ عَنْ زَهْرِ الرِّياضِ بِعَرْفِهِ.. نَشْرُ البَلاغَةِ في البَيانِ سُكوتُ» [ص: 6].
البيت الأوَّل ما إِنْ تقرأه حَتَّى يخطر امرؤ القيس وهو يصف جواده وأنَّه «منجرد قيد الأوابد هيكل» [الدِّيوان: 19]، ثُمَّ يصف إقباله وإدباره:
«مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا.. كَجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ» [الدِّيوان: 19].
وحديثنا هنا عن جماليَّة التَّقسيم والتَّفصيل، يقول شاعرنا:
قُرْبٌ وَبُعْدٌ، حَيْرَةٌ وَسَكينَةٌ
وامرؤ القيس:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا
فالقرب عند شاعرنا نتيجته سكينة، والبعد نتيجته حيرة، فالقرب سكينة والبعد حيرة، وامرؤ القيس يصف إقبال جواده وإدباره بالكرِّ والفرِّ، فإقباله هو الكرُّ وإدباره هو الفرُّ. وبينما امرؤ القيس في وصفه مطمئنٌّ هادئ النَّفس، فليس شاعرنا كَذٰلِكَ، بل هو قلق، فالصُّورة عنده وصف لحالة نفسيَّة تعتريه، بين الهدوء والقلق، بل وزاد، والقلب يحيا تارة ويموت، ويتابع:
«كَالأُفْقِ يَنْفُرُ كُلَّما راوَدْتُهُ.. بِسَرابِ رَيِّكَ يا جَميلُ رُويتُ»
وهنا صورة رائعة مدهشة، وجمعه بين الأفق والسَّراب جميل، من جهة بعد الـمنال، فالأفق تراه بعيدًا مهما سعيت لتقرب منه، وكذا السَّراب، كلَّما ظننت أنَّك وصلته لتوهُّمك أنَّه ماء، وجدته بعيدًا، وقد قال الله في السَّراب: {...كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا...} [سورة النُّور: 39]. فالأفق والسَّراب من جهة بعد الـمنال واستحالته سواء.
يصف هٰذا الحبيب وتصرُّفه كلَّما راوده، أنَّه كالأفق ينفر ويبتعد فلا يُطال، ولذلك فقد ارتوى من سراب ريِّه، والخاتمة وفق هذا:
«وَعَدَلْتُ عَنْ زَهْرِ الرِّياضِ بِعَرْفِهِ.. نَشْرُ البَلاغَةِ في البَيانِ سُكوتُ»
وعَرْفُ الزَّهر رائحته الطَّيبة وهي النَّشْرُ أيضًا، فلماذا استعمل العَرْفَ للزَّهر والنَّشر للبلاغة؟ مع أنَّه قصد المعنى ذاته، نشر البلاغة هنا عطرها وعَرْفُها. والعَرف ينتشر بصمت وهدوء، يقابله نَشْرُ البلاغة وهو السُّكوت، فهناك تشابه في الوصف، وما دام هٰذا الحبيب كالأفق ينفر، فليستعض عن زهر الرَّوض بعَرفه، أي عن الحبيب بذكراه، والصَّمت في هٰذِهِ الحالة هو عطر البلاغة، وهو ملجأ من فقد الحيلة. قوله يقارب الشِّعر الَّذي وجد منقوشًا عَلى حجر في بئر باليمامة:
«كُلُّ عَيْشٍ تَعِلَّهْ.. لَيْسَ لِلدَّهْرِ خِلَّهْ
يَوْمُ بُؤْسى وَنُعْمى.. وَاجْتِماعٌ وَقِلَّهْ»[السِّيرة النَّبويَّة لابن هشام: ج1/ 107].
رغم اختلاف القصد، لٰكِنَّهُ «بؤس ونعمى واجتماع وقلَّة.»
في قصيدته التَّفعيليَّة «سهر: 10- 13»، من الكامل، مُتَفاعِلُنْ، نجد الشَّاعر يحاكي السَّيَّاب في قصيدته من السَّريع «أنشودة الـمطر» الَّتي مطلعها:
« عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ» [الدِّيوان: 1/474]، وممَّا يقول فيها أيضًا:
« ...
ودغدغت صمت العصافير على الشَّجرْ
أنشودةُ المطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحُّ من دموعها الثِّقالْ» [الدِّيوان: 1/ 475].
ويقول شاعرنا:
«سَهَرٌ سَهَرْ/ الكَوْنُ مِنْ حَوْلي نِيامْ/ وَالرِّيحُ تَعْصِفُ بِالشَّجَرْ/ مَطَرٌ مَطَرْ/ بَرْقٌ وَرَعْدٌ/ وَانْخِطافٌ في البَصَرْ/ البَرْدُ يَضْرِبُ في العَظامْ/وَالرِّيحُ تَرْكُضُ لا/ تَنامْ/ وَأَعُدُّ حَبَّاتِ الـمَطَرْ/ نَقَرَتْ عَلى شُبَّاكِ بَيْتي/مِثْلَ ضَيْفٍ جاءَ يَبْحَثُ/ عَنْ مَلاذْ» [ص: 10- 11].
رغم اختلاف الـمضمون في القصيدتين، إِلَّا أنَّ أنفاس السَّيَّاب تشيع في قصيدة شاعرنا.
في قصيدته التَّفعيليَّة «شاعِرٌ» [ص: 14] عَلى الرَّمل، فاعِلاتُنْ، يقول:
«لَمْ يَعُدْ صُبْحي/ بِدايَهْ/ أَوْ فُصولًا مِنْ/حِكايَهْ/ كُلُّ ما في الأَمْرِ أَنِّي/ شاعِرٌ عاش/ الرِّوايَهْ/ بِجُنونٍ/ وَدِرايَهْ/... وَالنِّهايَهْ...؟/ اِسْأَلوها...». خاتمة مفتوحة عَلى التَّأويل، فمن هي الَّتي يطلب منَّا أن نسألها؟ وماذا نسألها؟ وماذا بعد أن نسألها؟ كلُّ هٰذا محتمل، فهي ليست نهاية مغلقة.
والتَّذكير والتَّأنيث للحبيب وارد في الشِّعر، ولذا نجده في قصيدة «وَإِذا التَقَيْنا» [ص: 31- 33 ] من الكامل، يخاطب الحبيب بلسان الـمذكَّر، فيقول:
«بَيْني وَبَيْنَكَ خُطْوَتانِ وَلَهْفَةٌ.. يا وَيْحَ قَلْبي كَمْ يَئِنُّ وَيَسْهَدُ
فَأَجُسُّ نَبْضَ الصَّدْرِ مَوْجًا هادِرًا.. يَعْلو إِذا ذُكِرَ الحَبيبُ وَيَقْعُدُ» [ص: 31].
البيت الثَّاني يستوقف، لِـما فيه من وصف الـمحبِّ القلق عَلى محبوبه، ولأنَّه يجري عَلى سنن القدماء، فقد ورد في أشعار الهذليِّين، منسوبًا لأبي صخر الهُذليّ:
«إِذا ذُكِرَتْ يَرْتاحُ قَلْبي لِذِكْرِها.. كَما انْتَفَضَ العُصْفورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
أَما وَالَّذي أَبْكى وَأَضْحَكَ وَالَّذي.. أَماتَ وَأَحْيا وَالَّذي أَمْرُهُ الأَمْرُ
لَقَدْ تَرَكَتْني أَغْبِطُ الوَحْشَ أَنْ أَرى.. أَليفَيْنِ مِنْها لا يَروعُهُما الزَّجْرُ» [شرح أشعار الهُذليِّين للسُّكَّري: 957].
ويبدو التَّناقض في السِّياق واضِحًا، فلا يعقل أن يكون البيت الأوَّل صحيحًا، إضافة أنَّه ليس لأبي صخر الهُذليِّ، فكيف يرتاح قلبه كما انتفض العصفور بلَّله القطر؟ ثُمَّ التَّكملة تناقض الـمعنى، والأرجح أنَّه لقيس، فقد ورد في ديوانه أيضًا، وهو الـمعنى الَّذي يقاربه شاعرنا:
«وَإِنِّي لَتَعْروني لِذِكْراكِ نَفْضَةٌ.. كَما انْتَفَضَ العُصْفورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ» [الدِّيوان: 85] وورد بلفظ: (هِزَّةٌ)، وبهذه اللَّفظة ورد في شرح ابن عقيل [ج2: 20]، وهو الشَّاهد 207 عنده، ونسبه الـمحقِّق، لأبي صخر الهُذليّ.
ويقارب شاعرنا أكثر قول توبة بن الحميَّر:
«كَأَنَّ القَلْبَ لَيْلَةَ قيلَ يُغْدى.. بِلَيْلى العامِرِيَّةِ أوْ يُراحُ
قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فَباتَتْ.. تُعالِجُهُ وَقَدْ عَلَقَ الجَناحُ» [الدِّيوان: 97]. نسب الأخفش الشِّعر لمجنون ليلى، ونسبه الـمبرّد لقيس بن ذريح، وقال أبو تمَّام: هو لنصيب. ورد البيت الثَّاني بلفظ (تُجاذِبُهُ).
وشاعرنا كما قلنا يقارب في معناه قول الأقدمين، وكيف لا وهو الحفيد الوارث، وكما قيل: لا تسقط الثَّمرة بعيدًا عن الشَّجرة.
لٰكِنْ عجبت لهفوة شاعرنا، أو كما يقال (سقط سهوًا)، وَذٰلِكَ في قوله:
«أَوْ رُبَّما كُنَّا نَسينا أَوْ نُسينا (م) مِثْلَما يَنْسى الصَّلاةَ الـمُلْحِدُ» [ص: 31].
والـملحد لا يعترف بوجوب الصَّلاة، فكيف ينسى ما لا يعترف بفرضيَّته ووجوبه ولا يمارسه؟
ويخاطب هٰذا الحبيب الـمفارق موصِيًا، فيقول:
«وَإِذا سُئِلْتَ عَنِ اللَّيالي قُلْ لَهُمْ.. عِشْنا الأَهِلَّةَ وَالكَواكِبَ نَرْصُدُ
حَتَّى إِذا ضَحِكَ الصَّباحُ لِشَمْسِهِ.. هَبَّ القَطينُ، وَراحَ عَنَّا العُوَّدُ
وَإِذا كَتَبْنا الحَرْفَ يَخْرُجُ باسِمًا.. يُغْوي قُلوبَ العاذِلاتِ فَتَحْسُدُ
وَاليَوْمَ يا كَبِدي غَدَوْنا في الهَوى.. غُرَباءَ لا وَطَنٌ وَلا مُسْتَنْجَدُ» [ص: 32].
والقطين أهل الدَّار والقاطن فيها. أي إنَّ السَّمر كان يطول حَتَّى الصَّباح، وَلٰكِنْ كما يقال لا بدَّ لكلِّ اجتماع من تفرُّق، وهو ما عبَّر عنه في البيت الأخير. ويختم القصيدة بقوله:
«سَيَظَلُّ ذِكْرُكَ "هَمْزَ" كُلِّ قَصيدَةٍ.. وَيَظَلُّ رَسْمُكَ حاضِرًا يَتَرَدَّدُ
إِنْ أَشْرَقَتْ شَمْسٌ، فَأَنْتَ وَصيفُها.. أَوْ يَذْكُروا النَّيْروزَ أَنْتَ الـمَوْعِدُ» [ص: 33].
والهمز هنا يقصد الـمطلع، أي بداية كلِّ قصيدة كما أنَّ الهمزة بداية حروف الهجاء، والنَّيروز الـموعد، أي الرَّبيع.
وللرِّثاء نصيب في شعر شاعرنا، وفي قصيدته الـمعنونة بـ «هُوَ ذا تَرَجَّلَ» [ص: 36- 38]، وهي في رثاء «الـمرحوم فلاح عبَّاس/ أبو الأمين» صهره، يقول:
«سَقَطَ النَّدامى، وَالنُّفوسُ تَساقَطَتْ.. وَالهَوْلُ أَرْعَنُ وَالمُصابُ جَليلُ
في غَفْلَةٍ قَدَّتْ عَباءَةَ فَرْحَتي.. يا مَوْتُ، ما بِكَ في الدِّيارِ نَزيلُ؟!
لَمْ نَصْحُ مِنْ ضَرَباتِ سَيْفِكَ إِنَّهُ.. فَوْقَ الرِّقابِ مُسَلَّطٌ وَصَقيلُ
في الأَمْسِ "أَحْمَدُ"، وَ "الفَلاحُ" بُعَيْدَهُ.. وَالخَوْفُ مِنْ آتيكَ لَيْسَ يَزولُ
كُلُّ الـمَواسِمِ أَعْلَنَتْ ميقاتَها.. ما عالِمٌ إِلَّا وَفيكَ جَهولُ
صَرَخَتْ "مَرَحْ": خالي "فَلاحٌ" ماتَ..؟! لا!.. فَأَجابَ دَمْعٌ، وَالدُّموعُ دَليلُ
هُوَ ذا تَرَجَّلَ، قَبْلَ آخِرِ صَوْلَةٍ.. وَالخَيْلُ تَرْمَحُ في الوَغى وَتَصولُ» [ص: 36].
ثُمَّ يتَّجه بالخطاب إِلى الـموت ومتمنِّيًا لو غيَّر طريقه حين وصل ديارهم، لٰكِنَّهُ يعذره كونه مسيَّرًا لا مخيَّرًا:
«يا مَوْتُ لَيْتَكَ إِذْ قَصَدْتَ دِيارَهُمْ.. بَدَّلْتَ دَرْبَكَ، وَالعُيونُ تَميلُ
أَدْري بِأَنَّكَ في القَرارِ مُسَيَّرٌ.. لٰكِنْ أَتَفْهَمُ إِذْ أَقولُ: رَحيلُ؟» [ص: 37].
ويستمرُّ إِلى أن يختم بالدُّعاء للمتوفَّى بالجنَّة، وأنَّ مصير الجميع نفس مصير الـمتوفَّى.
ونتابع مع الشَّاعر في قصائده، فيقول في قصيدته، من الكامل «قَلْبي يُعانِدُني» [ص: 54- 55]:
«لا تَظْلِمي قَلْبي فَإِنَّكِ داؤُهُ.. وَدَواؤُهُ الـمَنْشودُ عِطْرُكِ وَاللَّمى
لَنْ يَعْبُرَ اللَّيْلَ الـمُخيفَ لِوَحْدِهِ.. وَهُوَ الَّذي هَجَرَ الـمَضاجِعَ كُلَّما
هَزَّتْهُ أَشْواقٌ تُبَسْمِلُ حَوْلَهُ.. جَعَلَ الكَواكِبَ لِلْكَواكِبِ سُلَّمَا» [ص: 54].
هي الدَّاء، والدَّواء بعض منها، وكان أبلغ لو كانت الدَّاء والدَّواء، العلَّة والبلسم. كما قال ابن ابن عبد ربّه، من الخفيف:
«أَنْـتِ دَائي وَفـي يَدَيْكِ دَوَائي.. يَا شِفائي مِنَ الجَوى وَبَلائي» [العقد الفريد: ج6: 280].
في البيت الثَّاني أضاف اللَّام إِلى [وحده]، ولا تضاف اللَّام، ويشرح بروفيسور فاروق مواسي، رحمه الله، الأمر، لأنَّ «كلمة (وحد) مصدر، وهذا الاسم الـمصدر يدلُّ على التَّوحُّد والانفراد، ويعرب حالًا منصوبة (أو في محلِّ نصب مع ياء المتكلِّم)، يقال: شاهدتها وحدَها، وقفوا وحدَهم، وقد قلت مرَّة في قصيدة لي:
«وحدي بهذا الكون لا خلٌّ وفي .. يُصفي إليّ الودَّ لم يتكلّفِ»
استُخدِم حرف الجرِّ (على) في بعض الـمصادر القديمة قبل (وحد) = على وحْدِه،
أما اللَّام فهي من الخطأ الشَّائع، فليس في قول العرب الفصحاء (لوحده)!]
[...]
وقد وردت (وحده) في الذِّكر الحكيم ستَّ مرَّات مضافة إلى الضَّمير- الهاء، نحو:
"فلمَّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحدَه"- سورة غافر 84.
أمَّا في الشِّعر:
ابن الرومي:
«يرى أو يلاقي وحدَه فكأنَّما.. يرى أو يلاقي ألف ألف مصمِّم»
أبو العتاهية:
«وتصريف هذا الخلق لله وحدَه.. وكلٌّ إليه لا محالةَ راجع»
المتنبي:
«وإذا ما خلا الجبان بأرض.. طلب الطَّعن وحدَه والنِّزالا» [بروفيسور فاروق مواسي: موقع ديوان العرب: سؤال في اللُّغة- وحده وحدها] (1). وكنَّا نقع في هٰذا الخطأ أيضًا.
كَذٰلِكَ فقد جاء التَّضمين في كلمة [كُلَّما]، والتَّضمين من عيوب القوافي وهو كما قال الشَّيخ ضياء الدِّين الخزرجي في مقصورته في عيوب القوافي:
« وَتَضْمينُها إِحْواجُ مَعْنـى لِذا وَذَا..
[...]
أي أن لا يتمَّ معنى البيت إِلَّا بالبيت الَّذي يلي، كقول الشَّيخ ضياء الدِّين الخزرجي نفسه، رحمه الله:
«تَحوزُ رَوِيًّا حَرْفًا انْتَسَبَتْ لَهُ.. وَتَحْريكُهُ الـمجْرى وَإِنْ قُرِنا بِمَا
يُداني فَذا الإِكْفا وَالِاقْوا وَبُعْدُهُ الـ (م) إِجازَةُ وَالإِصْرافُ وَالكُلُّ مُتَّقَى»
قوله "بِما- يُدانى" أحد عيوب القوافي وهو التَّضمين، أي لا يتمُّ معناه إِلَّا بالَّذي يلي.
أو قول النَّابعة:
«وَهُمْ وَرَدوا الجِفارَ عَلـى تَميمٍ.. وَهُمْ أَصْحابُ يَوْمِ عُكاظَ إِنِّي
شَهِدْتُ لَهُمْ مَواطِنَ صادِقاتٍ.. أَتَيْنَهُمُ بِوُدِّ الصَّدْرِ مِنِّـي»
لاحظ أَنَّ معنى القافية الأولى "إِنِّي" لم يكتمل حَتَّى اتَّصل بـ "شَهِدْتُ" مطلع البَيْت الثَّاني» (2) وهو نفس ما وقع لشاعرنا في قوله [كُلَّما/هَزَّتْهُ] فلم يكتمل معنى البيت بكلمة [كُلَّما] حَتَّى اتَّصل بمطلع البيت الَّذي يليه وكلمة [هَزَّتْهُ].
ويشرح الشَّاعر حال قلبه ومعاندته، وذلَّة الـمحبِّ، كالطِّفل يؤمر فيذعن رغمًا عنه، ثُمَّ يطلب من نسمة الصُّبح أن تعزف همسًا رقيقًا وأن تتسلَّل قبل الشُّروق لـمخبَإٍ أو مخدع كان وكان:
«قَلْبي يُعانِدُني فَأُذْعِنُ صاغِرًا.. كَالطِّفْلِ يُؤْمَرُ ثُمَّ يُذْعِنُ مُرْغَمَا
يا نَسْمَةَ الصُّبْحِ الرَّقيقَةَ اِعْزِفي.. لَحْنَ الوَفا هَمْسًا رَقيقًا مُنْعَمَا
وَتَسَلَّلي قَبْلَ الشُّروقِ لِـمَخْبَإٍ.. كانَ الشَّذا لِلْقَلْبِ فيهِ البَلْسَمَا» [ص: 54- 55].
ويكتب عن أمِّه قصيدة من الكامل «أُمِّي» [ص: 56- 59] تفيض حبًّا، وهي طويلة بلغت 30 بيتًا:
«"آذارُ" يَصْحو كُلَّ عامٍ مَرَّةً.. وَفُؤادُ أُمِّي كَالفَراشِ يَحومُ» [ص: 56].
ويعرِّج فيها عَلى ذكر والده الَّذي ترجَّل مبكِّرًا «توفِّي» وظلَّت هي:
«مَسَكَتْ عِنانَ الرِّيحِ وَلَّتْ وَجْهَها.. شَطْرَ الحَياةِ، وَلِلْعَزيمِ حَزيمُ
أُمِّي الهَوى وَالأَرْضُ وَالـمَجْدُ الَّذي.. وَهَبَ الأَنامَ بِراحَتَيْهِ كَريمُ
أُمِّي ابْتِسامُ الصُّبْحِ في ثَغْرِ الدُّجى.. مِنْ ثَوْبِها عِطْرُ الجِنانِ شَميمُ
أُمِّي غِراسُ النَّخْلِ في أَرْضِ العِرا (م) قِ وَياسَمينُ الشَّامِ فِيَّ يُقيمُ
أُمِّي "الفُراتُ" وَحُبُّ أُمِّي "دِجْلَةٌ".. وَ"النِّيلُ" يا "بَرَدى"، وَفيكَ أَهيمُ
أُمِّي شُموخُ "الدَّيْدَباءِ" وَما انْحَنى..أَتُراهُ مِنْ وَجْهِ الرِّياحِ يَريمُ..؟!
عَلَمٌ عَلا عَلَمًا يُرَفْرِفُ عالِيًا.. رَفَعَتْهُ فَوْقَ الذَّارِ]اتِ حُلومُ
أُمِّي صَهيلُ الخَيْلِ في ساحِ الوَغى.. سَيْفٌ عَلى الأَعْداءِ جِدُّ لَئيمُ
أُمِّي أَبي وَأُخَيَّتي وَأَخي الَّذي.. لَوْ جاعَ طِفْلٌ في الجِوارِ يَصومُ
رَسَمَتْ مَسارَ الشَّمْسِ، قالَتْ "مِنْ هُنا.. مُرُّوا"، تَراكُمْ في السَّماءِ نُجومُ
وَطَنٌ مِنَ الفِرْدَوْسِ أُمِّي، لَوْنُهُ.. طُهْرٌ وَقُدْسٌ، عِفَّةٌ وَحُشومُ» [ص: 56- 57].
ومن كانت هٰذِهِ صفات أمِّه، لا شكَّ أنَّه رضع الحنان والكمال منها، والوفاء لها، ولا يتوقَّف عند هٰذا الحدِّ، فهي صلاة الفجر، وهي التِّلال السَّبع، وهي سرمد الحبِّ وطاعة الرَّبِّ، وحديث في "رياض الصَّالحين"، وسراج روحه في الدُّجى، وهي الخزامى وانتشار الطِّيب في مرج ابن عامر، وهي القصيدة الَّتي لـم يقلها شاعر، وأيُّ برٍّ فوق هٰذا البرِّ بالوالدين؟ وَلِذٰلِكَ يقول:
«تَبَّتْ يَدا مَنْ أَنْكَرَ اليَدَّ الَّتي.. كَدَّتْ فَبانَتْ في الغُضونِ كُلومُ
قَلْبٌ خَلا مِنْ أُمِّهِ ثَمَرٌ بِلا.. طَعْمٍ، وَغُصْنٌ يا بُنَيَّ سَقيمُ
.....
مَنْ عَقَّ أُمًّا أَوْ تَنَكَّرَ فَضْلَها.. ضَلَّ السِّراطَ وَلَلضَّيلُ غَريمُ» [ص: 58- 59].
ويأسى ويحزن ويرثي لحال اللُّغَة العَرَبِيَّة وما أصابها من بنيها، وكيف أصبح مقامها بينهم، ففي قصيدة «أَعِزُّوها تَعِزُّوا» من الوافر [ص: 60- 63] يبدأ بالسَّلام عَلى حماة الحرف، وأنَّ حرف الضَّاد أقرأه السَّلام، لٰكِنَّهُ سلام ملؤه اللَّوم والعتب، يقول:
«سَلامًا يا حُماةَ الحَرْفِ مِنِّي.. وَحَرْفُ "الضَّادِ" أَقْرَأَني السَّلامَا
وَحَمَّلَني إِلَيْكُمْ وَرْدَ وُدٍّ.. وَحَرَّمَ بَوْحُهُ عَنِّي الكَلامَا
وَحَلَّفَني بِعَهْدِ الحُبِّ صُنِّي.. وَزادَ الأَهْلَ مِنْ حُبٍّ مَلامَا
وَكانَتْ عَيْنُهُ كَالجَمْرِ حَرَّى.. وَيُخْفي الدَّمْعَ كِبْرًا وَاحْتِشامَا» [ص: 60].
فحالة الضَّاد كعزيز قوم ذلَّ، (وَيُخْفي الدَّمْعَ كِبْرًا وَاحْتِشامَا)، يخفي دموعه ولا يبديها، كبرًا وعزَّة، وعينه كالجمر حرَّى، وفي الأمثال: اِرحموا عزيز قومٍ ذلَّ، لٰكِنَّهُ لـم يطلب منهم الرَّحمة، بل يلومهم لأنَّهم أرخصوا الغالي فيهم، فهو حزين لحالته بين أهله، لأنَّه لـم يقصِّر بل هم قصَّروا فضاعوا:
«وَما في الضَّادِ تَقْصيرٌ وَلٰكِنْ.. تَقاعَسْنا فَضِعْنا كَاليَتامى» [ص: 60].
وَهٰذا ردٌّ عَلى من يتَّهمون العربيَّة بالتَّقصير وعدم مجاراة العصر، فالتَّقصير ليس في اللُّغَة بل في أهلها، وَهٰذا شأن جميع اللُّغات، فتطوُّر اللُّغات واتِّساعها يكون بتطوُّر أهلها. ولذا فهم بتقاعسهم ضاعوا كاليتامى. ويحمل شاعرنا عَلى الجهل بقواعد اللُّغَة وعلى الَّذينَ يرطنون رطن العجم، وكانت النتيجة انتكاسًا لنا وذلًّا وهزيمة:
«وَضَحَّيْنا بِعِزٍّ دامَ دَهْرًا.. بَنَيْنا قَبْرَهُ حَجَرًا رُخامَا
نَصَبْنا الفاعِلَ الـمَرْفوعَ جَهْلًا.. وَفِعْلُ النَّصْبِ لاءَمَنا انْسِجامَا
تَباهَيْنا بِحَرْفِ الرَّطْنِ، تَعْسًا.. وَبِعْنا العِزَّ بِالذُّلِّ انْفِصامَا
وَجَرَّبْنا التَّفاهَةَ فَانْتَكَسْنا.. قَلَبْنا النَّصْرَ قَهْرًا وَانْهِزامَا
وَساوَمْنا الغُزاةَ عَلى صَباحٍ.. عُروبِيِّ الهَوى صَنَعَ العِظامَا
وَأَطْفَأْنا لِعَيْنِهِمُ عُيونًا.. وَبُنْيانُ العُلا أَضْحى رُكامَا
وَأَغْمَدْنا السُّيوفَ وَكانَ عارًا.. وَأَرْخَيْنا الأَعِنَّةَ وَالزِّمامَا»[ص: 61- 62].
ثُمَّ يعطي الحلَّ بعد كلِّ ما جرى:
«عُروبَتُنا بِحَرْفِ الضَّادِ تَبْقى.. وَلَيْسَ بِغَيْرِها نَرْجو القِياما
[...]
أَعِزُّوها تَعِزُّوا، وَاحْفَظوها.. لِتَرْبِضَ فَوْقَ صَدْرِهِمُ جُثامَا
وَأَحْيوها تَعيشوا بَعْدَ مَوْتٍ.. وَيَحْيا نَشْؤُكُمْ صيدًا كِرامَا» [ص: 63].
ولـمغتصِبات الـمنابر الأدبيَّة بمقاييس الجمال، نصيب من غضب الشَّاعر وهجومه عليهنَّ، وعلى من يسحج لهنَّ ومن يرفعهنَّ بـ "نقد" ليس فيه من النَّقد غير الاسم، فيقول في قصيدة «تنحُّوا» من الوافر [ص: 64- 67]:
«تَقول "زُبَيْدَةٌ": أَصْغوا لِشِعْري.. أَصَخْنا السَّمْعَ، فَانْتَفَشَتْ فَخارَا
وَكَمْ "هارونُ" حَيَّاها فَمادَتْ.. وَزادوا إِذْ تَمايَلَتِ انْبِهارَا
رَأَيْتَ قُلوبَهُمْ بِالوَجْدِ فاضَتْ.. تَلاشوا مِنْ صَدى الصَّوْتِ انْبِهارَا
وَإِذْ غَنَّتْ "زُبَيْدَةُ" صيحَ آهًا.. كَمَنْ في "الـمَرْبَدِ" اسْتَمَعوا "نِزارَا"
عَلى "وَلَّادَةٍ" "فَدْوى" وَ "لَيْلى".. وَفَوْقَ "خُناسَ" أَسْدَلَتِ السِّتارَا» [ص: 64].
وطبعًا زبيدة وهارون عَلى سبيل السُّخرية، كَذٰلِكَ فإنَّها أسدلت السِّتار عَلى وَلَّادة بنت الـمستكفي وفدوى طوقان وليلى العامريَّة والخنساء، فمن فوقها وقد صعدت الـمنبر بمقاييس غير الأدب، لأنَّها لا تملك من مقاييس الأدب شروى نقير، ورغم ذٰلِكَ فهناك من تروقهم مقاييسها حَتَّى في غير مكانها.
ثُمَّ يهاجمها متَّهمًا إيَّاها، بأنَّ هناك من أعارها الوزن والشَّكل الـمقفَّى:
«أَخَذْتِ الوَزْنَ وَالشَّكْلَ الـمُقَفَّى.. مِنَ النَّذْلِ الرَّخيصِ وَقَدْ أَعارَا
فَهَلْ يَرْضى بِكِ الشِّعْرُ الـمُقَفَّى.. وَما أَدْرَكْتِ بِالفَهْمِ الصِّغارَا؟» [ص: 64- 65].
ثُمَّ يهاجم "ناقدها":
«سَمِعْنا النَّاقِدَ الصِّنْديدَ يَهْذي.. كَأَنَّ العَقْلَ غادَرَهُ وَطارَا
وَلَوْ سَمِعَ الكَلامَ لَظَلَّ يَهْذي.. ضَميرُ الشِّعْرِ، حَتَّى الحَرْفُ خارَا
وَلٰكِنْ زِينُها يا قَوْمُ أَعْمى.. عُيونَ النَّقْدِ فَاشْتَعَلَتْ شَرارَا» [ص: 65].
ثُمَّ يختم بقوله لهم:
«سُموقُ النَّظْمِ زادَكُمُ سُقوطًا.. وَنُعْلِنُها بِوَجْهِكُمُ جَهارَا
تَنَحُّوا تَحْفَظوا في الوَجْهِ ماءً.. وَخَدُّ الوَرْدِ يَزْدادُ احْمِرارَا» [ص: 67].
وله قطعة «الأميرة» من الكامل [ص: 110]، يكشف فيها عن همَّته العالية الَّتي تأبى الدُّون صنوًا للغالي:
«لي فيكَ يا لَيْلَ الأَنامِ سُوَيْعَةٌ.. أَدْعو إِلٰهي أَنْ يَرِقَّ بِحالِيَا
مَنْ لي بِغَيْرِكَ إِنْ جَفَتْ "وَلَّادَةٌ".. وَالنَّفْسُ تَأْبى الدُّونَ صِنْوَ الغالِيَا
زَهَتِ الأَميرَةُ في مَجالِسِ شِعْرِها.. وَعَلَتْ بِأَنْدَلُسٍ مَقامًا عالِيَا
شَطَّ النَّوى بِأَميرِ أَنْدَلُسِ الهَوى.. ما كانَ خَوانًا بِعَهْدٍ سالِيَا
صَلُحَتْ وَتاهَتْ قَبَّلَتْ بَلْ قُبِّلَتْ.. هِيَ صَرَّحَتْ، ما كانَ ذاكَ سُؤالِيَا» [ص: 110].
قد يتبادر إِلى ذهن القارئ البسيط، أنَّها قصيدة غزليَّة وشكوى بعد أن هجرته "ولَّادة"، ولكلّ عاشق ولَّادته، أو ليلاه، لٰكِنْ بالتَّدقيق في الكلام نجد أنَّ ما يرمي إليه الشَّاعر أبعد وأعلى من ذٰلِكَ، (وَالنَّفْسُ تَأْبى الدُّونَ صِنْوَ الغالِيَا)، هٰذا التَّصريح جاء بعد أن جفت ولَّادة، وَهٰذا يكشف خلافًا في الهمم، يكشفه البيت الأخير (صَلُحَتْ وَتاهَتْ قَبَّلَتْ بَلْ قُبِّلَتْ.. هِيَ صَرَّحَتْ)، وهو يشير في هٰذا إِلى قول ولَّادة بنت الـمستكفي الحقيقيَّة أميرة الأندلس، والَّتي صرَّحت حقيقة، فقالت من الوافر:
« أنا واللَه أصلح للمعالي.. وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها
وَأمكنُ عاشقي من صحن خدّي.. وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها» (3)، فهي أميرة عاشقة متهتِّكة في عشقها، وكونها أميرة بنت خليفة جعلها لا تحسب حسابًا لشيء، ويعقِّب الشَّاعر مباشرة عليها (ما كانَ ذاكَ سُؤالِيَا)، أي إنَّه لا يفكِّر بِهٰذا ولا تشغله مثل هٰذِهِ الأمور، وهو ما أشار له من طرف خفيٍّ (وَالنَّفْسُ تَأْبى الدُّونَ صِنْوَ الغالِيَا)، فكأنَّه يصف فعلها بالدُّون، لأنَّ همَّته أعلى وتطلب الغالي، لعلَّه الـمجد والخلود، ومن ينيله مطلوبه غير الله؟ (أَدْعو إِلٰهي أَنْ يَرِقَّ بِحالِيَا// مَنْ لي بِغَيْرِكَ إِنْ جَفَتْ "وَلَّادَةٌ")، واستوقفني استعماله حرف الباء بدل اللَّام في قوله «يرقَّ بِحاليَا» وفي الـمعتاد نقول رقَّ لحاله ورأف بحاله، وَكَذٰلِكَ (من لي بغيرك) والـمُخاطب في هٰذا هو اللَّيل، وَلِـماذا لـم يقل (من لي سواك وقد جفت ولَّادة، أو: إذا جفت ولَّادة)، باعتبار اللَّيل أنيسه ومؤنسه، وكأنَّه يقول: أين أجد غيرك؟
وللشَّاعر قصائد جميلة جِدًّا نذكر منها عَلى سبيل الـمثال «الأرض/سيِّدة النِّساء/ مسَّيتكم» وسواها الكثير، وله في الـمطارحات الشِّعريَّة والإخوانيَّات، والرُّدود، وقصيدته في تكريم أحد الـمنتديات له، وَكَذٰلِكَ قصيدته الطَّريفة «التِّلفون» الَّذي يمرض ويأخذه للطَّبيب، أي يتعطَّل يأخذه للمصلِّح، فهي ترسم البسمة عَلى شفاه القارئ، وقصيدته في مولد الرَّسول، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ينسى حفيده «آدم» فهو يهديه قصيدة.
قلنا في البداية إنَّ شاعرنا عرك العربيَّة وصحبها ردحًا طويلًا وما زال، ولذلك لـم تبخل عليه بجناها وغلالها، فقد كثرت عنده الـمحسِّنات البديعيَّة والبلاغة والتَّناصُّ بشكل ملحوظ، كقوله:
«لا تقلب الوعد الجميل وعيدَا» [ص: 26]، وعد ووعيد. أو قوله: «أنا من ينُثُّ الطِّيب طيب مُقامه» الطِّيب: العطر والمسك، وطيب الـمقام. هٰذا مثال بسيط، حَتَّى لا نطيل، فشعر شاعرنا غنيٌّ.
كَذٰلِكَ لـم يسلم شاعرنا من بعض الهنات الَّتي تسلَّلت إِلى شعره، وهو أمر جار لدى الشُّعراء منذ القدم، مثلًا وقع في الإيطاء [ص: 30] في قوله من مجزوء الكامل:
«إِنْ مَدَّ قَلْبي لِلْعبيرِ وَهالَهُ نورُ القَمَرْ»
عاد عَلى كلمة «القمر» بعد ثلاثة أبيات:
«كَفِّي بَنَتْ قِمَمَ الجِبالِ وَلامَسَتْ وَجْهَ القَمَرْ»
والإيطاء من عيوب القافية، وهو تكرار نفس القافية بنفس الـمعنى قبل مرور سبعة أبيات.
كَذٰلِكَ تسكين العَروض لغير تصريع [ص: 84] في قوله من مجزوء الوافر:
«جَمَعْتُ الذَّوْقَ في وَرْدَهْ.. وَهَلْ لِلذَّوْقِ أَصْنافُ؟» فتسكين آخر وردة جاء لغير تصريع، وهو خطأ، وَكَذٰلِكَ [ص: 106] في قوله من مجزوء الرَّمل: «يَلْبَسُ الكَوْنُ عَباءَهْ.. لَوْنُها كَالكُحْلِ أَسْوَدْ» حكم كلمة عباءة نفس حكم كلمة وردة.
تذييل الكامل التَّامِّ، رفضه قسم من العَروضيِّين، وهناك من أجازه، كقوله من الكامل [35]:
«لي زَهْرَةٌ يَجْتاحُ قَلْبي عِطْرُها.. صُبْحًا مَساءً، داءُ قَلْبي وَالدَّواءْ» همزة كلمة الدَّواء تذييل، والشِّعر من الكامل التَّامِّ، ولو حذف الشَّاعر الهمزة من جميع القوافي لِـما تغيَّر شيء.
الهاء السَّاكنة في الشِّعر تكتب هاء ساكنة، ولا تكتب تاء مربوطة، لأنَّها تلفظ هاء ساكنة، كمثال قوله من الوافر[ص: 39]:
«سَأَلْتُ اللهَ في عَيْنَيْكِ لُطْفًا.. وَعَيْنُ اللهِ ما فيها قَساوَةْ»
الصَّواب: قَساوَهْ. في [ص: 74، 75] اختلطت بين هاء ساكنة وتاء مربوطة.
جواب الشَّرط [ص: 59] في قوله من الكامل: «فَاحْفَظْ كِلا الوَطَنَيْنِ يَحْفَظُكَ الَّذي» الصَّواب «يَحْفَظْكَ» وهٰذا أعدُّه سهوًا من الشَّاعر، لعلمي بخبرته في النَّحو، ولا يفوته هٰذا الأمر.
التَّسكين الـمخلُّ بالوزن [ص: 108] في قوله من الكامل:
«عالِجْهُ يا "دُكْتورْ" ما لي دونَهُ.. عَيْشٌ وَقَلْبي في هَواهُ يَهيمُ»
تسكين الرَّاء من كلمة "دكتور" أخلَّ بالوزن.
قصيدة «لَسْتُ سِلْعَة» [ص: 113- 115] وإن كانت تفعيليَّة، فقد شذَّت فيها قافيتان عن البقيَّة «أَضْناه اشْتِياقُهْ»[ص: 112] و «عَطْرِ احْتِراقِهْ» [ص: 115]، والبقيَّة جاءت حركة القاف الفتحة. وباعتبار القوافي، فالقاف رويٌّ هنا/، والهاء للسَّكت، ليس لها علاقة بالرَّويِّ.
في قصيدته «جولة» [ص: 116] يبدأ بقوله «أُحِبُّكِ»، وفي البيت الثَّالث يقول من الوافر:
«وَفي النَّاقورَةِ الفَيْحاءِ أُفْقٌ.. يَرُدُّ السِّحْرَ عَنْ قَلْبي وَعَنْكا»
قوله «وَعَنْكا» خطاب للمذكَّر، بينما هو يوجه الخطاب للمؤنَّث.
العَروض الـمؤسَّسة والقوافي الـمجرَّدة، في قصيدة «آدم» [ص: 117]، والعَروض في التَّصريع تعتبر قافية أيضًا، والألف من كلمة «آدم» ألف تأسيس، بينما جاءت القوافي مجرَّدة، كقوله من الكامل:
«أَنا ما غَفِلْتُ وَكانَ عيدُكَ آدَمُ.. نَبْضُ السَّعادَةِ في السَّعادَةِ وَالدَّمُ»
كلمة «وَالدَّمُ» قافية مجرَّدة من التَّأسيس. ونفس الأمر وقع في [ص: 133] في قوله من الكامل:
«تَجْري بِنا الأَيَّامُ صُبْحًا وَالـمَسا.. هٰذا بِهِ فَرَحٌ وَفي هٰذا أَسى
يا رَبِّ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُكَ خاشِعًا.. اِجْعَلْ لِكُلِّ مُصيبَةٍ مُتَنَفَّسَا»
والـمسا، متنفَّسَا قافيتان مجرَّدتان، بينما [هٰ/ذا أسى] قافية مؤسَّسة.
خطأ في التَّشكل يغَيِّرُ الـمعنى، كقوله [ص: 127] من الوافر:
«سَيَأْتيني نَدِيًّا كُلَّ صُبْحٍ.. أَيَخْلُفُ ظَنِّيَ الوَرْدَ الأَقاحي؟»
هو يقصد أَيُخْلِفُ من الـمُخالفة، بينما الـمكتوب أَيَخْلُفُ من خلفه عَلى كذا.
وقد قال العبَّاس بن مرداس السُّلَمي من الوافر:
«تَرى الرَّجُلَ النَّحيفَ فَتَزدَريهِ.. وَفي أَثوابِهِ أَسَدٌ مُزيرُ
وَيُعجِبُكَ الطَّريرُ فَتَبتَليهِ.. فَيُخْلِفُ ظّنَّكَ الرَّجُلُ الطَّريرُ» [الدِّيوان: 172].
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency