للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
تناولت المحكمة المركزيّة في حيفا مؤخّرًا التماسًا ضد تقاعس بلديّة الخضيرة عن تنفيذ البنى التحتيّة وأعمال التطوير المطلوبة من أجل الحصول على رخص بناء في مناطق خُصّصت للبناء وفق خرائط هيكليّة تم المصادقة عليها قبل 18 عامًا (قضية رقم 20312-07-21). رفضت المحكمة (بقرار صادرٍ عن سعادة القاضي ناصر جهشان) ادّعاء البلديّة أنّها كسلطة محلّية غير ملزمة بتنفيذ التخطيط الهيكليّ الذي تقرّه لجان التنظيم والبناء، وأمرت البلدية بالمصادقة عاجلًا على برنامج عمل لتنفيذ الخرائط الهيكليّة السارية في المدينة.
إنّ قرار المحكمة المركزية صائبٌ ومحقٌ. مع ذلك، أرى ان ظاهرة التقاعس عن إعداد الخرائط الهيكليّة والتقاعس عن تنفيذ ما يصدّق منها، هي ظاهرة شائعة في البلاد وهي من المشاكل الرئيسيّة في مجال العمران، والإسكان، والتطوير الاقتصادي. ينتظر المواطنون والمتعهّدون سنوات طويلة حتى تتمّ المصادقة على خارطة هيكليّة تخصّص أراضيهم للبناء، ولكنّهم حتّى بعد المصادقة على التخطيط الهيكليّ لا يستطيعون الحصول على رخص بناء لأنّ السلطة المحلية، والدوائر الحكومية المعنية لا تنفّذ الشروط التي تطلبها الخارطة الهيكلية ذاتها لإصدار رخص البناء. وعلى سبيل المثال، في حالات معيّنة يكون إصدار رخص بناء في منطقة معينة خُصّصت للبناء منوطًا بضمّ المنطقة إلى نفوذ سلطة محلية معيّنة، وهو أمر من اختصاص وزارة الداخلية، وفي حالات أخرى يكون إصدار رخص البناء منوطًا بتنفيذ مشروع عامّ يخصّ منطقة أو بلدة بأكملها كمشروع للصرف الصحيّ، أو مشروع لشارع رئيسيّ، وهي أمور من اختصاص دوائر حكومية متعدّدة. وفي حالات أخرى، وهي شائعة جدًّا في البلدات العربيّة على وجه الخصوص، تتمّ المصادقة على خارطة هيكلية شاملة تضع سياسة التخطيط في البلدة، ولكن إصدار رخص البناء وفق الخارطة يكون فقط بعد المصادقة على خرائط هيكلية تفصيليّة تضع التخطيط التفصيليّ العينيّ لقطع الأراضي. لهذه الأسباب، والامثلة كثيرة جدَّا، يعاني التخطيط العمرانيّ في البلاد وتنفيذه على أرض الواقع من التلكؤ والمماطلة ومن الجمود في أحيان كثيرة.
إنّ هذه الظاهرة تمسّ حقوق أصحاب الأراضي والمواطنين، وهي تضر أيضًا بالتطوير العمرانيّ، والاقتصاديّ العام للبلدة، أو المنطقة المعنيّة. بل تمس ثقة الجمهور بمؤسسات التنظيم والبناء وبالقطاع العام حين تتقاعس هذه المؤسسات عن إعطاء الحلول السريعة لحاجات ومصالح المجتمع. بل إنّ التقاعس عن تحقيق ما يُصدّق عليه من مخططات هيكلية تخدم القرية أو الحي أو المنطقة المعنية يجعل التخطيط في أعين الناس وعدًا أو حلمًا كاذبًا. وفي أحيان كثيرة يدفع هذا التقصير المواطنين الى المخاطرة بالبناء بشكل غير مرخّص لتلاحقهم مؤسسات "تنفيذ القانون" جراء ذلك بأشرس الوسائل كالهدم والغرامات وهو ما يعانيه العديد من المواطنين العرب.
على الصعيد القانوني لا يشتمل قانون التنظيم والبناء على آلية واضحة ومنظمة تحدّد هوية المسؤول المباشر على التخطيط الهيكليّ، ومن المسؤول عن تحقيقه على أرض الواقع. ينصّ القانون على أنّ واجب لجنة التنظيم والبناء المحلية، والسلطات المحليّة التابعة لها الاهتمام بتنفيذ القانون في نطاقها، وأنّ اللجنة اللّوائيّة للتنظيم والبناء تستطيع أن تأمر اللجنة المحلية بإعداد خارطة هيكلية تراها اللجنة اللوائية ضروريّة لبلدة، أو لمنطقة ما. وما عدا ذلك، لا يحدّد القانون المدّة الزمنيّة الممنوحة للّجنة المحليّة او اللوائيّة لإعداد مخطّط هيكلي ضروريّ، وما هي العقوبة جراء تباطُئِها في تنفيذ المهمّة، أو امتناعها عن تنفيذها. ولا يحدّد القانون أيضًا ما هي مصادر التمويل، والميزانيات المطلوبة لإعداد المخططات المطلوبة ولتنفيذها. بل إنّ القانون لا يحدّد الجهة المسؤولة عن تحقيق خارطة هيكلية ما بعد المصادقة عليها، وما هي المدّة الزمنيّة الممنوحة لها من أجل ذلك، وما هي العقوبة إن تقاعست عن تأمين الشروط المطلوبة لتحقيق الخارطة، والبناء وفقًا لها. لهذا أصبحت مسألة إعداد المخطّطات الهيكليّة المطلوبة، أو تنفيذ الشروط التي تمكّن المواطنين من الحصول على رخص بناء أمرًا يخصّ تقدير ومزاج وسلّم أولويات الدوائر الرسميّة المعنية، وليس لزامًا قانونيًّا صارما بالنسبة لها!
ومن الناحية العمليّة، تختلف طريقة التخطيط العمرانيّ وتنفيذ المشاريع في البلاد عن دول أخرى بأنّ الجهة التي تعدّ وتقر المخططات الهيكلية ليست الجهة ذاتها التي تنفّذ التخطيط. ينتهي دور لجان التنظيم والبناء عند المصادقة على الخرائط الهيكلية، ويصبح تنفيذ التخطيط من شأن السلطة المحلية، والمكاتب الحكوميّة المعنيّة. أضفْ إلى ذلك أن تنفيذ التخطيط الهيكلي في البلاد منوط بالتعاون، والتواصل بين أجسام مختلفة في الوقت ذاته، ومنها السلطات المحلية، المكاتب الحكوميّة، سلطة أراضي إسرائيل، أصحاب الأراضي وغيرهم، وهذا ما يزيد الأمر تعقيدًا وصعوبة ومماطلة. كما أنّ القانون لا يلزم لجان التنظيم والبناء أن تجري، قبل المصادقة على مخطط معين، فحصًا ميدانيًّا او اقتصاديًّا إن كان بمقدور الجهات المعنية تنفيذ المخطط على أرض الواقع من جهة الكلفة المادية، أو لأسباب فنيّة أخرى تخصّها. لهذا السبب تتمّ المصادقة على كثير من الخرائط الهيكلية، ولكنها تبقى حبرًا على ورق حتّى بعد مرور سنوات طويلة. أنوّه في هذا المضمار بأنّ بحثا أعددته مؤخّرًا عن خرائط الإسكان السريع التي صدّقت في البلدات العربية يبيّن أنّ الميزانيّة المطلوبة لتنفيذ هذه الخرائط من حيث الشوارع والبنى التحتية، والمناطق والمرافق العامّة، وغيرها من المشاريع العمرانية تتجاوز أكثر من 40 مليارد ش.ج. وهذا أمر لم تأخذه اللجنة القطرية للإسكان السريع في الحسبان عندما صدّقت على هذه الخرائط، بل أهتمت بالتخطيط بشكل نظريّ، دون أن تفحص إن كان بمقدور السلطات المحلّيّة تنفيذ هذه الخرائط، وان كانت الميزانيات المطلوبة لذلك متوفرة أصلا!
في نظري، إن ّ علاج هذه الظاهرة يكمن في تعديل القانون والسياسة المتّبعة، ووضع قواعد قانونيّة واضحة تحدّد الجهة المسؤولة عن التخطيط، وعن تنفيذه، والمدة الزمنيّة المطلوبة لذلك، وآليات العمل، والتطبيق، والحلول القانونية، والعمليّة في الحالات التي تقصّر فيها الجهات المسؤولة عن تنفيذ مهامّها في مجال التخطيط والبناء. أرى من المجدي أيضَا العمل على إنشاء مؤسّسة رسميّة تُعنى هي ذاتها بالتخطيط وبتنفيذ المشاريع العمرانيّة. أعني بذلك جهة أو شركة حكوميّة تركّز إجراءات التخطيط، وتكون الجسم الواصل، والمنسّق بين كل الدوائر المعنيّة، وذلك من أجل أن يتمّ إنجاز التخطيط الهيكليّ والعمران بعده بسرعة معقولة. أناشد الحكومة، ووزارة القضاء، ومديرية التخطيط، وكل النواب المعنيّين الى الالتفات الى هذا الموضوع الهام وطرح الحلول الجذريّة النافعة.