الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 22 / نوفمبر 05:01

البحث عن وطن/ بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 25/04/22 11:57

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

بقي صقر أبو اللبن بعد وفاة والده استاذ اللغة الانجليزية المشهور في بلدته ومنطقتها كلها، يبحث عن وطنه مدة عشرة أعوام، إلى أن عاف البحث فراح يبذل المزيد من الجهد للعثور على هدفه ومبغاه، وكان كلّما تذكر غمزات والده الساخرة منه ومن بحثه، يندفع أكثر فأكثر في بحثه ذاك مُصرًّا على المواصلة في تفتيشه التاريخي، ومؤكدًا لنفسه أولًا وقبل كِّل شيء أن المرء إذا ما أراد شيئًا وكان صادقًا في طلبه له تآمر العالم كله معه كي يحققه له، كما قرأ في رواية نسي اسمها واسم مؤلفها.

انطلق أبو اللبن ذات مساء مجددًا محاولاته البحثية، دار ولف في المدينة المجاورة لقريته، وصادف أن التقي بشخص فنان تعرّف إليه قبل فترة وجذبه فيه حسه الوطني الملتهب، فدعاه هذا إلى جلسة مع صديق فنان عُرف بحدة فكره وطول لسانه. اتخذ الزائران مقعدهما قبالة ذلك الفنان، وقبل أن يشرع كل منهما في ارتشاف القهوة من فنجانه، شرع أبو اللبن بإعلان غضبه وتذمره، مشيرًا، آنا بالتلميح وآخر بالتصريح، إلى أهمية دعم النضال من أجل العيش بحرية وكرامة على أرض الوطن.. ومضى وقت طال عن حدّه في الاطناب بالشرح والتوضيح، فما كان من الفنان اللوذعي، إلا أن طلب منه أن يحدّد ما اراده. احتار أبو اللبن فيما يمكنه أن يرد به عليه، وللحقيقة انتابته لحظة حذر، إحساسًا منه أنه قد يكون جالسًا مع مُخبر، فصمت غائصًا في متاهاته، الامر الذي دفع الفنان ذا اللسان الطويل أن يقول له بنبرة مصممة كلامًا طويلً، أشبه ما يكون بالخطبة المنبرية، مفاده انك ينبغي أن تُحدّد ما تريد، فاذا ما كنت تبحث عن الكوفية والعقال، فإن أبناء عمومتنا سيستخرجونهما لك غدًا من اعماق المتاحف، أما إذا كنت تريد التاريخ فإنه موجود لا يتحرّك. وأنهى كلامه هذا قائلًا لهُ: أرجو أن تتحدث عن البواسير في دبرك.. أفضل لك مما تفيض به من سخافات غير واضحة وترّهات لها بداية و...ليس لها نهاية.
كلمات الفنان هذه أثارت أبا اللبن وأخرجته عن طوره، بل أكثر من هذا.. دفعته لمواجهة حقيقية مع نفسه، فوقف مزيحًا كرسيّه ومحاولًا مغادرة القعدة، الامر الذي فسره ُمحدّثه الفنان على أنه تأهب للشجار، فبادره بصفعة قوية على وجهه اللبنيّ. ما ان أفاق أبو اللبن من غفلته تلك حتى تحفّز للدخول في عراك مع محدثه، الامر الذي استدعى مرافقهما إلى أن يحول دون تطوّر العراك بين الاثنين، وشرح ما حدث شرحًا محايدًا يعيد الامور إلى نصابها.. ويصفّي الاجواء والقلوب المتخاصمة.. دون أي سبب يذكر.
وساطة ذاك المرافق أوضحت سوء التفاهم بين المتخاصمين قُبالته، إلا أنها لم تنه الخلاف بينهما إنهاءً تامًا، وقد بقي أبو اللبن يتذكر تلك الواقعة خلال امتطائه الطائرة إلى بلاد الفايكنج. هناك في تلك البلاد، كان عليه أن يبحث عن مصدر رزق يعتاش منه، فقيل له إنه عليه قبل العثور على مصدر الرزق أن يرتبط بمواطنة محلية، للحصول على الجنسية. عندها سأل أبو اللبن عمّا إذا كان بإمكانه أن يعمل في السر، فهو لا يريد أن يغيّر جنسيته، بل انه جاء يبحث عن وطن "لا أريد أن أضيع وطني"، اكد لمحدثه ناطحًا إياه بنوع لطيف مُرفقًا بكثير من التودّد.
هذا الوضع اضطر بطلنا الهُمام للعمل في السر، وبدون الحصول على تصريح بالاقامة.. ولم يعدم مَن يشغله بهذه الطريقة أو تلك من الطرق التي برع العمال الاجانب بانتهاجها. وكان أن عثر على عمل بسيط متواضع، وقاه شرّ السؤال في بلاد الغربة والبحث عن وطن، وخلّف من ناحية ثانية له وقت فراغ طويلًا طويًلا.. خلال محاولته التغلّب على هذا الفراغ تعرّف أبو اللبن على أناس تشبه أوضاعهم أوضاعه، فكان يجلس إليهم الساعات الطوال، يشرب ماء الشعير، ويتبادل معهم اطراف الحديث في شتى المواضيع، إلا في الموضوع الذي جاء من أجله. فحتى الحيطان لها آذان.. أحيانًا، وعندما أنس إلى صديق فنان حاد الذكاء.. طويل اللسان، فاض له بمكنون قلبه وأخبره بما حدث له مع ذاك الفنان من خلاف كاد يفضي به إلى حلبة مشاكل تبدأ ولا تنتهي، عندها فنجل الفنان مُجالِسَه عينيه وغرسهما في عينيه:
-حقًا تقول؟
-ألا تصدّقني. هتف به أبو اللبن، فردّ الفنان.
- غريب أمرك. تبحث عن وطنك في ربوعه.. ثم تهاجر إلى بلاد الغربة لتبحث عنه.. عن جدّ أمرك غريب.
عندها أرسل ابو اللبن نظرة ساخرة إلى الفنان محدثه:
-وماذا كنت تتوقّع مني..
وجاءت الصفعة الثانية القاضية على لسان ذلك الفنان. قال:
-لم أكن اتوقع منك شيئًا.
وأضاف بعد صمت قصير جدًا:
- ما رأيك أن تتحدث عن بواسيرك.. أفضل لك.
قبل أن ينهي المُتحدّث الفنان كلماته هذه، انتفض أبو اللبن في مكانه وانتصب واقفًا.. زائحًا كرسيّه من موقعه، الامر الذي فسّره الفنان على أنه بداية شجار.. غير أن ما حدث هذه المرة اختلف كثيرًا عمّا حدث في المرة الاولى، فقد سارع أبو اللبن إلى صفع محدثه وخرج مُقررًا العودة إلى بلدته وسط غمزة رضا من والده استاذ اللغة الانجليزية المشهور..
 

مقالات متعلقة