للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
أنجزت في العام 1969 كتابة قصّتي القصيرة "اللّجنة" الّتي ظهرت فيما بعد في مجموعتي القصصيّة الثّالثة "جسر على النّهر الحزين" وبعد مراجعتها كالعادة مرّات عديدة "بيّضتها" على دفتر "ذي ثمانين ورقة" ولا أدري لماذا على دفتر كبير، وحملته معي الى حيفا في صباح يوم جمعة، يوم عطلتي الّذي ألتقي فيه أحيانًا بالصّديق محمود درويش امّا في مكاتب "الاتحاد" أو مكتب مجلّة "الجديد" في وادي النّسناس وبعد حديث ثقافيّ ممتع معه كنّا نتوجّه معًا الى مطعم "إسكندر" أو مطعم آخر كان يومئذ في شارع الخوري لنتناول طعامنا.
كان محمود درويش محرّرًا لمجلّة "الجديد" الثقافيّة الرّاقية الّتي ظهرت على صفحاتها مقالات المؤرّخ د.اميل توما وقصائد الشّعراء توفيق زيّاد ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وراشد حسين وآخرين و"سداسيّة الأيّام السّتّة" للكاتب اميل حبيبي وقصائد للشّعراء العرب عبد الوهّاب البياتيّ وصلاح عبد الصّبور ومحمّد مهدي الجواهريّ وقصيدة "رسالة الى الرّئيس ترومان" للشّاعر عبد الرّحمن الشّرقاويّ وقصص الأديب يوسف إدريس وقصائد للشّعراء الفلسطينيّين فدوى طوقان ومعين بسيسو ويوسف الخطيب ونماذج من الأدب العالميّ للشّعراء: لوركا ونيرودا وأراغون ومايا كوفيسكي وآخرين. وكانت "الجديد" مجلّة الأدب الوطنيّ التّقدميّ الانسانيّ ولها الدّور الكبير في الحياة الثّقافيّة، وكان القرّاء والمثّقفون العرب في البلاد ينتظرون صدورها شهريًّا، وأمّا الشّعراء والأدباء فكانوا يطمحون بنشر أعمالهم على صفحاتها، وقد حرّرها مجموعة من الأدباء مثل: صليبا خميس وتوفيق زيّاد ومحمود درويش وسميح القاسم واميل توما، ويؤسفني أنّني كنت المحرّر الأخير لها قبل أن تتوقّف عن الصّدور بسبب الأزمة الماليّة الّتي مرّ بها الحزب الشّيوعيّ. أعطيت الدّفتر الّذي يحتوي على القصّة لصديقي محمود كي يقرأها وافترقنا. ويبدو أنّني انشغلت بأمور عائليّة، ومضت أسابيع ولم ألتق به في حيفا الى أن كان نهار يوم جمعة وكنت أسير في الشّارع قرب ساحة الحناطير في حيفا الّتي كانت تسّمى من قبل ساحة الخمرة على اسم عائلةٍ عربيّة عريقةٍ من عائلات حيفا فغيّرت السّلطات الاسرائيليّة اسمها الى ساحة باريس وإذا بصوت محمود درويش يناديني، وبعد السّلام والمصافحة قال لي مستغربًا: أين اختفيت؟ قرأت قصّتك الجميلة لجميع الأصدقاء فماذا أفعل بها؟
أجبته أعطيتك ايّاها كي تنشرها في مجلّة "الجديد" إذا نالت اعجابك. فقال: انتظرت موافقتك على نشرها.
التقيت بعد أيّامٍ مصادفة بصديق الشّاعر المحامي محمّد ميعاريّ فقال لي باسمًا: لم يترك محمود أحدًا في شارع عبّاس لم يقرأ له قصّتك.
كان محمود يحبّ أن يشّجع كلّ عملٍ أدبيّ جميل أعجبه، ولا أظّن أن الدّرويش أراد أن يقابلني بالخير لما فعلته قبل سنوات، في أواخر الخمسينات من القرن الماضي عندما كان شاعرًا مبتدئًا، وعلمنا بتنظيم مهرجان شعريّ في كفر ياسيف حيث كنّا ندرس في المدرسة الثّانويّة فذهبت برفقته مع مجموعة من التّلاميذ الأصدقاء وطلبنا من الشّخص المنظّم للمهرجان أن يسمح له بإلقاء قصيدة.
كانت المهرجانات الشّعريّة تقام يومئذٍ في ساحة القرية، في ساحة العين أو ساحة المراح على "ضيّ القناديل" في قرية تفتقر الى الكهرباء، ويحضرها عدد كبير من أهل البلدة، من الرّجال والنسّاء وكان الشّعراء توفيق زيّاد وحنّا أبو حنّا وحنّا إبراهيم وراشد حسين وغيرهم يشاركون فيها ويلقون قصائدهم الوطنيّة، وكان الحاكم العسكريّ يمنع اقامتها أحيانًا أو يمنع بعض الشّعراء من الوصول اليها.
ألقى محمود درويش في المهرجان قصيدة وصفقنا له، وفي نهاية المهرجان دعا المنظّم الشّعراء بما فيهم الشّاعر الشّابّ الى وجبة عشاء في بيته.
غبطنا صديقنا كثيرًا.
حدّثني محمود في الغداة أنّه " تناول عشاءً فاخرًا" كما وصفه وأضاف: قدّموا لكلّ واحد منّا قطعة دجاج وزجاجة بيرة.!!
هذا عشاء فاخر في تلك الأيّام لشابّ كان يقضي الأسبوع لا يتناول فيه سوى الخبز والزّيت والزّعتر واللّبنة والبيض. شابّ لاجئ ابن لاجئ يعرف القلّة والجوع.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com