للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
بقي كلّ شيء صامتًا مستسلمًا في مؤسستنا العتيدة، إكثر من ثلاثة عقود من الزمان، إلى أن دخلها ذلك الاسمر مربوع القامة ثاقب النظرات. كلّ شيء كان مستسلمًا لإرادة مدير المؤسسة، يقول للشيء كن فيكون منصاعًا إليه بدون أية روية أو اناة، وأذكر هنا أن أحد المستخدمين في المؤسسة أعلن ذات لحظة هدوء بدا انها لم تعجبه، تمرّده على الاوامر غير المعقولة، فتصدى له المدير أمامنا، نحن جميعًا، ليقنعه بأن شيئًا لن يكون أفضل مما كان، وأن كلّ ما يخيل إليه وإلى أمثاله من مخالفات واخطاء، ما هو إلا نتاج العقل المتفتّح المجرّب والممارس. لقد خطر لنا حينها أن ما حدث بين المدير وذلك الموظف، إنما كان مرتّبًا له مسبقًا وأن الهدف منه تربية مَن تسوّل له نفسه التصدي للإرادة العليا.. أقول هذا بدليل أنه لم تمضِ سوى أشهر إلا وفوجئنا بذلك الموظف يعود إلى العمل بقوة أكبر ومركز حسّاس.. هو نائب المدير.
منذ تلك الحادثة التي تبدو بسيطة سارت الامور في مؤسستنا أشبه بخطى من يُطلب منه أن يمشي على العجين فلا يخربطه، وقد وقعت بين الحين والآخر أحداث أخرى مماثلة ما لبث مديرنا ونائبه، أن سيطرا عليها وأعادا الامور إلى ما كانت عليه وأكثر. على هكذا منوال بقيت الامور تجري في أعنتها، إلى أن حضر ذلك الاسمر الواثق من نفسه.. وكان أول ما فعله هو أنه اقترب مني أنا الكاتب الوحيد في المؤسسة، وأدنى وجهه من وجهي ليقول لي كلامًا أحبَّ أن يقوله على ما بدا، إلا أنه فضّل في اللحظة الاخيرة الابقاء على صمته مكتفيًا بابتسامة وقّادة ساحرة، تدُلّ على شبوبية متدفّقة لا ترضى بأنصاف الحلول وتعرف كيف تتعامل مع المياه الاسنة أو تلك التي تقترب من التلف.
بما أن غرفتي الصغيرة المتواضعة كانت قريبة من غرفة المدير، فقد كنت استمع إلى محادثاته مع آخرين دون قصد بالطبع وبإمكاني أن أسجّل هنا ملاحظة إجمالية لما كان يحدث في تلك الغرفة وهو أن المدير عرف كيف يحفظ خطّ الرجعة دائمًا، وأتقن فن المناورة وكأنما هو تعلّمه في أعلى المعاهد.. رفيعة المستوى في العالم، لدى الامريكان أو الروس، وربّما لدى الصينيين، فقد كان حاذقًا تمام الحذق في المحاورة والمناورة.. يحفظ خط الرجعة ويعرف كيف يدير النار إلى قرصه، دون أن يشعر مَن قُبالته بأن الامور تصبّ في مصلحته الشخصية.. دون العامة، وأتذكّر في هذا الصدد.. الوفير من الحكايات التي لا يتّسع لها المقام ويعجز عن سردها اللسان. منها أنه دأب على مواجهة الآخرين بالتحدّث عن المصلحة العامة وأقنع كلّ مَن خالفه، أن ما يطلبه من دفاع منه، إنما هو دفاع ضروري ومشروع عن المؤسسة التي تقدّم خدماتها لجميع أهالي البلد. بقيت أموره تمضي على هذا النحو إلى أن دخل ذلك الاسمر البسّام، ثاقب النظر والاحلام، واتهمه بأن مؤسسته إنما تعمل من أجل مصلحته الشخصية الصرف.. متجاهلة أنه توجد هناك مصلحة عامة تحتاج إلى مَن يرعاها ويسهر على أمنها وأمن عامليها ومستخدميها عندها انفجر بين الاثنين نقاش تاريخي.. استمعت إليه بالصدفة ودونًا عن رغبتي وإرادتي.. فيما يلي أقدمه محافظًا على حذافيره.. وأرجو ألا يكون هذا التلخيص مخلًّا بما أردت أن أنقله إليكم.
المدير: هذه المؤسسة أقيمت من أجل المصلحة العامّة.. أعتقد أنه يُفترض مِن كلّ منّا نحن العاملين فيها والمقربين منها أن يقوم بدوره في دعمها وتسديد خطاها.. في مواجهة مخاطر العنف المتتالية التي شهدها ويشهدها مجتمعنا في السنوات الاخيرة الماضية خاصة.
الشاب الاسمر: هل تعني بهذا أن المؤسسة ملك عام؟
المدير: ليس بالضبط.. إنما أعني أنها تعمل من أجل التغيير إلى الافضل.
هنا وجّه إليه ذلك الشاب الشجاع سهمه الاول. سأله:
-أريد أن أسالك سؤالًا واحدًا محدّدًا.. أرجو أن يأتي جوابك عليه واضحًا محددًا.
ارتعدت فرائص المدير، قال:
-تفضّل إسال.. كلّي اذان صاغية.
عندها ضرب الشاب الاسمر على الطاولة أمامه قائلًا:
-سؤالي هو كالتالي.. أنت تعمل في إدارة هذه المؤسسة منذ ثلاثة عقود من الزمان.. شخت وأنت فيها.. هل صادف أن تقاسمت أرباحها مع أحد؟
المدير: مَن تقصد؟
الشاب الاسمر: أقصد مثلًا هذا الكاتب الذي يجلس في الغرفة الصغيرة القريبة من غرفتك الكبيرة. لقد قدّم لك.. كما أجمع كلّ العاملين في مؤسستك.. على أنه أحرق شمعة شبابه في إنارة طريقك.. ماذا أخذ منه وماذا طاله منك غير الكلام المعسول المنمّق.. والفارغ؟
انفعل المدير: ولماذا أقاسمه أرباحي؟ هل هو شريك لي؟
الشابّ الاسمر:
-ما تقوله حقّ.. هو ليس شريكًا لك في الربح.. أما في الخسارة.. فإنه واحد من أشد الشركاء تبييضًا لصفحتك السوداء. لقد أحرقته لينير في ليلك دون أن تقدّم إليه شيئا يقتًات به.. أي جشع هذا؟
المدير ناظرًا إلى البعيد ونافثًا دخان سيجارته في وجه محدّثه:
-ألا يكفي أنني أوجدت له الاطار.. ووفّرت له بيتًا دافئًا يأوي إليه.. وينتج ما يودّ ويريد مِن قِصص وروايات؟
الشابّ بغضب:
-أنت اويته مقابل امتصاصِك دمَه.
المدير: هل أنت محامٍ عنه؟
الشاب: لست محاميًا عنه.. إنما أنا أردّ على ادعائك.. ان هذه المؤسسة تعمل من أجل المجتمع.. وليس من أجل جشعك الشخصي.
بعد نطق الشاب هذه الكلمات الاخيرة، انتفض مدير المؤسسة في كرسيه الشخصي الوثير، ونفر فيه:
-إياك أن تتدخل بيني وبين أحد.. خاصة صديقي الكاتب..
عندها وجدت نفسي مضطرًا للدخول إلى غرفة المدير.. لأفضّ الخلاف أو أساهم في فضّه على الاقل، حينها توجّه ذلك الشابّ الاسمر نحوي مفاجئًا إيانا، المدير وأنا، رافعًا بطاقة مفتش في وزارة المعارف، وقال مُوجّهًا الكلام إلي:
-لقد أتيت من أجل راحتك.. يكفي ثلاثون عامًا مِن القمع والاضطهاد..
وأرسل نظرَة إلى المدير وهو يواصل:
-مِن اللصوصية.. الرشوة والفساد.
انتهى ذلك اليوم على سؤال ينطحه سؤال.. لتبزغ شمس اليوم التالي وقد حمل المدير الظالم حقيبته اليدوية.. خرج مِن بوّابة المؤسسة.. إلى لا رجعة..