ليس لي وطن، يمكنك زرع عظامي إلى جانب أي نهر.. رافائيل البرتي - شاعر إسباني.
كما هو الحزن يحتاج لطاقات، كذلك الفرح يحتاج لطاقات، والإبداع يحتاج لطاقات، ومنذ بواكير الحياة، وعلاقة الإنسان بالنهر، علاقة اسطورية، سحرية، ترمز إلى الخلود والعطاء ومواسم الخير والجنى.. والمياه الجارية طاقة وحركة، والحركة بَرَكَة وهي سرّ البدايات كلّها.. وما نحن سوى أنهارًا صغيرةً متدفقة؛ تصبّ قطرة.. قطرة، في نهر الحياة العظيم..
كي ننجح ونسعد؟ فلنستمتع بهذه الهبة العظيمة، ونستغل هذه الطاقات الهائلة التي تتدفق معها، أسرار الحياة، لتزهر وتثمر حياتنا بالفضيلة والخير وحسن الخاتمة، والأجمل عندما يتدفّق النهر في النصّ، أو حين يوظّف الكاتب النهر لخدمة النّص، فكل ما يصل إليه، أو يقترب منه، سيعيش.. لأنه يرمز للعطاء الدائم.. للخير المتدفق؛ حيث يتحول الزمان والمكان والشخوص لقصّة رائعة من أقانيم الأدب، صاغها الأستاذ وهيب نديم وهبة، هدية ثمينة، لجميع اخوته في الإنسانية..
*المياه تردُّ الحياة. قال الملاك لحزقيال: «كل ما يصل إليه النّهر سيعيش».
وعندما يتحول النهر- الدلالة والرمز - مصدر إيحاء للكثير من الأدباء والشعراء الكبار، ميخائيل شولوخوف، أرنست همنغواي، ميخائيل نعيمة، وجبران الذي تجوّلنا بين غدران لبنانه ونشفنا عطر ريحانه من خلال أدبه الأنيق، هؤلاء حوّلوا هذا الرافد الطبيعي إلى طاقة للتعبير عن الأفكار والهواجس ومنحوه دلالات خاصة، استجابت للكوامن النفسية وأحلام الطفولة المختزنة. لطالما كان النهر ومصادر المياه كالبحار والآبار والأهوار، خير عون لكثير من الكتاب، حيث وظفوها دلالة على حركة الحياة، ونمو وتطور الفعاليات. لعل حنّا مينة، واحد من المبدعين العرب الذين اهتموا بالبحر، وأسقطوا أفكارهم عليه واستمروا في تأكيد دلالاته؛ في روايته الشهيرة "المستنقع". وهنا لابد من ذكر قصيدة ميخائيل نعيمة الموسومة “النهر المتجمد” ودلالاتها الفلسفيّة، ولكن الأستاذ وهيب وهبه، في قصّته الرائعة، النهر، التي استلمتها كهدية من يده الكريمة السخيّة، اتخذت منحنى فريد من نوعه، حيث وظّف هذا الخير المتدفق، ووظف الزمان والمكان والشخوص، والفكرة المركزية، لخدمة أصحاب الاحتياجات الخاصّة، شريحة أهملها المجتمع وقلّما كتب عنها الأدباء والشعراء، شريحة تغافلت عنها المجتمعات الإنسانية بأكملها، وحشرتها في أطر ومؤسسات ربحية، تجارية، غذّت الأجساد دون الأرواح، وحدّدت الاحتياجات ولم ترعى المواهب، شريحة حسّاسة، تحتاج لفطرة سليمة وضمائر حيّة، وبصيرة نافذة، وإرادة حديديّة، تأخذ بيدها نحو الإبداع والابتكار والتّفوق.
يبدأ السرد الكلاسيكي، في هذا الكتاب الرائع، الذي يفرض عليك نفسه من خلال الغلاف الأنيق الذي صمّمته المبدعة، آلاء مارتيني؛ حيث تفوح من نوافذه المشرّعة للريح، رائحة الفضائل الإنسانية وشذا الإيثار والأريحية، اليس الإيثار أصل الفضائل كلّها؟ والتعاون سرّ النجاح؟ عائلة كاملة تعمل كخلية النحل ص 38 من أجل دعم الشاب معروفًا، "الأصم والأبكم" الذي قدّر قيمة هذا العطاء الأثير، درس وتعب، كي يثبت للجميع بأنّه جديرٌ بكلّ هذا الحبّ والرعاية.
حيث تقول الوالدة سلمى: "بفضلكم، فلولا رعايتكم واحتضاننا كأسرة واحدة لما اجتزنا كلّ العراقيل والمصاعب والعقبات، بصبر أطفالك ومحبتهم، منحوا ابننا معروفًا الخلفيّة الثقافيّة التي شكّلت الصورة الذهنيّة والدماغيّة والمعرفيّة، في تطوير عملية القراءة والكتابة وساعده السفر والتنقّل لمشاهدة ألوان الطبيعة، حتَى تنسكب بفرشاة الألوان" ص 36.
بفضل رعايتهم تطورت موهبة معروفٍ ليغدو رسّامًا معروفًا.. في زمن معدني، أغبر، وقلوب غلّفها الران، وانهكها ثقل المادة، التي حوّلت إنسان هذا العصر، لمستهلكٍ كبيرٍ لا يشبعه شيئًا، ولا يملأ عينه غير التراب؛ يشقُّ لنا كتاب النّهر، مجرى مغايرًا، كتبه لنا "الوهيب" بلغة شاعرية، مرهفة، متمكنة، ووصف دقيق جميل، للأماكن والأحداث والشخوص، مجرى يشق عبابه بالخير والعطاء المغلّف بالمسؤولية، وفهم الأمور على حقيقتها، وذلك تجسّد في بطل القصّة، الراوي باسم، الذي قال: "وحده الفكر طريقنا للمعرفة" ص 13 حيث ساقته موسيقا جريان الماء إلى ذلك النهر العذب، السلسبيل، والصدفة إلى الطفل معروف ووالدته التي كانت تصنع له السّفن الورقية، وترسلها للمجهول، عبر مياه النّهر المتدفقة، وكأن لسان حالها يكشف عن خوفها من مصير مجهول ينتظرها، وهي الأرملة التي أتت بصغيرها معروفًا، كي تنفّس عنّه قليلا في غمرة هذا الواقع الأليم، وهنا تكمن رمزية النهر في أحداث القصة، حيث يتغير مجرى الأحداث في هذا اللّقاء العجيب الذي ربما رسمته يد القدر لإنقاذ هذه العائلة الصغيرة المكونة من الأم وابنها الأصم الأبكم، التي يقرر أن يحتضنه الراوي ويساعده بكلّ ما لديه من قدرات وامكانيات ودعم، ليرعى هذا الطفل اليتيم ويؤمّن له بيئة دافئة، حاضنة، ترعى مواهبه وتؤمن بقدراته وذكائه، رغم اعاقته التي لو بقي عليها؟ ولم يتجاوزها بمساعدة ودعم الراوي وزوجته جوري دمثة الأخلاق وأولاده أصحاب الأخلاق العالية والتربية السليمة، الذين أصبحوا خير أخوة لمعروف وشركاء له في كلّ مجالات الحياة، "أليس ربّ أخ لم تلده أمّك؟"
قد استعان الأستاذ وهيب بأسماء استثنائيّة، في قصَته، وقد ارتأى ذلك حسب اعتقادي؛ كي تكتمل لوحته الفنّيّة، الإنسانيّة الرائعة؛ بطل القصّة هو نفسه الراوي باسم، وزوجته جوري وأولاده شذا ورامي، الأم سلمى، وابنها معروفًا، كلّها أسماء جميلة، تحمل أسمى المعاني، وأعمق الكلمات.. وينساب سياق القصة مع مجرى النهر، لتنقسم لقسمين، الأول عندما يغير مجرى حياة عائلة بكاملها! وكيف تتحول لعبة صغيرة إلى لعبة كبيرة في ملاعب الحياة. لقد توزعت مفردات الكتاب إلى قسمين، تناول الأول منه لبيان الدلالة في القصّة – النهر – الذي يرمز للخير والعطاء حين وجد السيّدة سلمى وابنها بجانب النهر، وكانت المفاجأة عندما حاول التحدث مع الطفل، ولم يجبه، حيث أخبرته الوالدة بصوت مخنوقً حنون: "معروف لا يسمعُ.. معروفُ أصمُّ.."
"سقط الجواب على قلبي كالصاعقة.. كلّ هذا الجمال وتلك البراءة والطفولة الناعمة، ولا يسمع؟ ص 11.
ويحدث الأسوأ عندما يبتعد الراوي عن الطفل ووالدته، حزينًا مهموما، تقوده خطواته إلى لا مكان، ليعود أدراجه كالمجنون عندما يسمع صوت الصراخ والبكاء حيث تجمهر عددٌ كبيرٌ من الأشخاص المتنزّهين بحثًا عن طفل سقط في النهر.
"لحظة، لحظتين.. وصرخت بكلّ عنفواني وأعصابي وقدرتي الصّوتيّة: معروفُ.. معروف.. وغاب صوتي مع جريان النهر في الفضاء سُدى" ص 12.
"حيث يصبح النهر سيد الموقف، والدموع تكتب عجزنا أمام جبروت النهر، والكارثة الكبيرة" ص 13.
وتنقشع الغيمة ويتبدد الخوف ويتفرق القوم عندما يكتشف أن الطفل الغريق ما هو سوى دُمية كبيرة سقطت من يد أحد الأطفال، وظنّها الناس أنّها طفلٌ حقيقيّ، وكانت هذه نقطة التحوّل في القصّة؛ حيث يقرر الراوي، الأستاذ باسم النبيل أن يحتضن هذه العائلة المُحتاجة بعد أن يدرك من خلال تبادله أطراف الحديث مع الوالدة سلمى، بأن معروفًا ولد يتيم بالإضافة لإعاقته التي أثارت شجونه وعزّزت موقفه الإنسانيّ الأصيل. ليبدأ الفصل الثاني من هذه القصّة الرائعة التي تحمل رسالة مهمّة للأجيال القادمة.
كي يتمكن الإنسان من العطاء والإبداع والابتكار، يجب أن يعيش في بيئة داعمة، نظيفة، تعجّ بالقيم والخير والعطاء والجمال، لأنه لا يمكن لبذرة الإبداع أن تنمو في بيئة عدوانية مريضة، "لولا البرّ لم يُبعث رسولٌ - ولم يٌحمل إلى قومٍ كتابًا" أحمد شوقي.
عندما تعانق البذرة المغلّفة بالظلام، ضوء الشمس وتمتصّ عطر التراب وماء الحياة، تصبح بذرة صالحة، حيّة تُرزق، تغمرنا بخصب المواسم، ولولا هذه المصادفة العجيبة، التي جمعت الراوي مع معروفٍ، الصبي حلو الشمائل، الأبكم والأصم، ووالدته الأرملة، التي كانت مستعدة أن تفعل له المستحيل كي تمنحه حفنة فرح.. ويحتضن الراوي العائلة المحتاجة، ويدعمها بكل ما لديه من قدرات وإمكانيات بعد أن يمنح الأم عملا ومأوى، ويرعى موهبة الصّغير في فن الرسم والتّصوير، ويعزّزها، فهو رجل مثقفٌ، يدرك قيمة الإبداع وقيمة الإنسان المُبدع، ويدرك إن الأيام دولٌ، وأنّه مهما شيّدنا من بنايات وعمارات، فإنها آيلة للاندثار والخراب، كما لا يبقى في النهر إلاّ حجارته، فلا خلود سوى للأدب والفن والجمال.. وقد ينسى جهابذة الاقتصاد وأصحاب البورصة، أن سعر الدقيق في زمن هوميروس، كان قرشً، أو قرشين، ولكنهم لن ينسوا الإلياذة.. ولوحة الموناليزا وحدها تجذب سنويًا تسعة ملايين زائرا لمشاهدتها في متحف اللوفر؛ ومقطوعة الدانوب الأزرق ليوهان شترواس خلّدت اسم النهر للأبد؛ إذن الإنسان تخلّده الموهبة مهما اختلفت مشاربه وأصوله.. كما يخلّد النهر مجراه، ورعاية الأولاد الموهوبين واجب وطني، واجتماعي، حسب اعتقادي، يحسّن فرص اشتراكنا وحضورنا في النظام العالميِّ الجديد. ولذلك يصرّ الراوي، السيَد باسم، هو وعائلته الكريمة على عرض كل لوحات معروف في معرضٍ فاخر، وتكريمه قبل أن يسافر للدراسة والبحت وتقديم رسالة الدكتوراه ضمن بعثة جامعيّة، تدرس مهارات لغة الإشارات ومهارة الهجاء بالأصابع، الأبجديّة المبكرّة لدى الأطفال – ص 55 لأنه يدرك أن ملايين البشر بحاجة لهذه الدراسات القيّمة ولذكائه الفذّ.
"امتلأت القاعة، التّصفيق يعلو، المشهد لا يحتاج ترجمةً.. الكل يصافح الفنان، الرّسام، المرهف معروفًا، وينطق بكلمات الإعجاب والمديح على جمالية المعرض ورقي اللّوحات.. الافتتاح يسير بالتوفيق من الله، أجمل من التّخطيط على الورق. كلمة باسمٍ جعلت المآقي تسيل كالنّهر الجاري، هناك التقينا ومن هناك أبحر الموكب" ص 50.
في النهاية؛ وفي زمن أغبر عصيب، يتقلّب فيه العالم على كفيّ عفريت، يشعر القارئ بالامتنان والامتلاء، حين ينتهي من قراءة هذا الكتاب الثمين الذي بهمس لنا أنّه "الدُّنيا من زالت بخير" ما دام هناك أشخاصٌ عقلاء، أصحاب هممٍ عالية، ونوايا طيّبة، كالسيّد باسم، الذي أعطى كلّ ما لديه، ودون أن ينتظر تصفيقًا من أحد، كي يحصد طيب الثمار.. لم يترك يد معروف ولو للحظة واحدة، حتى ولج بوابة النور.. وارتقى بالعلم والعطاء والإبداع.. إلى أعلى المراتب..
هؤلاء هم سادة القوم، يحملون السّماء على أكتافهم، يمسكون بيد الصباح، واللجام.. وكم نحن بحاجة لهؤلاء الأشخاص في مجتمعنا الذي تحكمه المادّة والأنانية والمنفعة الشخصية، في زمن فقدنا فيه البوصلة والقدوة وصلة الرحم وحتى قيمة الحياة، زمن تتخبط فيه البشرية بدمائها، وتغتسل بدموعها، وتختنق بغصّاتها، وكم من مواهب وُئِدت قبل أن تعانق النور وكم من شباب وصبايا توسّدوا التّراب بدل أن يتسلّقوا سلالم المجد وينهلوا ماء الحياة..
رسالة الكاتب؛ "الله سبحانه وتعالى منحنا مفاتيح الحياة، وجعل الاختلاف بيننا عقيدة وشريعة وسلوكًا، كي تزداد الطبيعة جمالًا وروعةً وتنوّعًا" ص37.
رسالة معروف قبل سفره لإتمام رسالة الدكتوراه: "لو خرج صوتي من حنجرتي الآن، لقلت للعالم، كلّ العالم: أحبُّ الحياة وكلّ الناس، يا ربّ امنح صغار الدّنيا، أن يحيوا في كنف العوائل الطّيّبة" ص 51.