الأخبار العاجلة
زُجاج يتكسر. عالم ينهار.. يتدمّر. يختلط الأسود الأبيض، الاحمر والاخضر. تغيم الصورة في عينيها. عالم يتدمّر. عيون تتنمر وأطفال تتدهور. كلّ شيء يختلط ويفقد خصوصيته فرادتها. تنطلق الصرخات من كلّ مكان حتى من أعماقها، هي الام القلقة على ابنتها وابنها الصغيرين. شعور جارف يأخذها من قُبالة شاشة التلفزيون، يبعدها عنها غير أن شعورًا طاغيًا يقول لها يصرخ في أذنها.. ان عودي لتري إلى أي نهاية ستمضي الأمور. إنها تهرب من مشاهد الدمار لحظة.. غير أنها سرعان ما تعود إليها مثل فراشة كان لا بدّ لها من الدوران حول الضوء المشتعل الحارق. مشاعر متضاربة تجتاحها.. إنها تعي كلّ ما يحدث.. سوى انها لا تعي ما يخبئه الغد..
تتحرّك في مقعدها قُبالة الشاشة الصغيرة. منذ غادر زوجها تاركًا إياها مع طفيهما، هو وهي، منذ أدار ظهره لها متخلّيًا عن مسؤوليته الابوية وهي تشعر ببهاظة المسؤولية في تربية صغيرها المحبوبين.. جليلة ابنة الأربعة أعوام وجلال ابن التسعة أعوام. وهي تقوم بمهمتها الامومية في تقديم ما يمكنها مِن رعاية. بل أكثر مما يمكنها. عندما خطر في بالها اسما ابنيها الغاليين، انتابها شعور بخطر هُلامي يستولي عليها ويصبغ عالمها باللون الأحمر القاني. خوفها على ابنيها كان قاتلًا. حاولت أن تهرب من تلك المشاهد المثيرة للدموع في العيون. ازالت دمعتين من عينيها. توجّهت إلى التلفاز الموضوع على الكومودينو العتيق. تذكرت أنه كان بإمكانها أن تتحوّل إلى محطة أخرى بواسطة الكونترول الموجِّه. عادت إلى مقعدها.. ضغطت على رقم آخر. محطة أخرى.. علّها ترى ما يُفرح القلب ويهدّئ الروح القلقة، فعلت ذلك وسط كلّ ما أسبغه عليها عالم التلفزيون من الاحزان. بيد أن ما حصل هو أنها إنما كانت تنتقل من خراب إلى خراب رغم أنها كانت تنتقل من أخبار بلدان مختلفة.. قريبة وبعيدة في الان.
توجّهت نحو المطبخ الصغير في بيتها المتواضع، علّها تتخلّص مما حلّ بها من مشاعر الاسى والشجن. فتحت الثلّاجة الصغيرة. تناولت كيسًا مليئا بحبات البطاطا. راحت تقشرها بسرعة مَن يريد أن ينسى.. الا مُرغمًا انه يتذكّر. هي ستسرع في إعداد البطاطا المقلية. جليلة وجلال يحبانها. عرفت ذلك يوم قدّمت صحنًا مليئًا بالبطاطا المقلية لابنتها جليلة فاختطفه من بين يدها ابنها جلال وراح يتناول البطاطا بشهية لافتة. لم يعبأ جلال يومها ببكاء اخته الصغيرة، فتوجّهت إليه، هي أمه المحبوبة، طالبة منه أن يقدّم لأخته الصغيرة بعضًا مِن شرائح البطاطا.. بيد أن ما حصل هو أنها ما إن نظرت إلى صحن البطاطا بين يدي ابنها حتى فوجئت به وقد فرغ عن بكرة ابيه. وهو ما اضطرها لقلي كمية أخرى من البطاطا. التي سينظر إليها جلالها بنوع من الفجع وسوف ينتزع الصحن من بين يدي اخته الصغيرة تاركًا لها.. هذه المرة .. بعضًا من الشرائح.. توقيًا لحنق امه وصوتها المدوي. "جلال يحب الحياة" قالت ذات يوم لأبيه وتابعت" هذا الولد نفسه طيبة ويُحب الطعام"، يومها أفرحها زوجها.. الهارب من المسؤولية حاليًا.. بقوله، " ان كل ولد يحب طعام أمه".
تحرّكت الام المتوترة نوعًا ما باتجاه الباب الخارجي للبيت، هي لن تعود إلى التلفزيون سلوتها الصديقة الغالية في هذا اليوم المتلبّد الغائم. يكفيها ما رأته فيه من مآسيَ وآلام تنوء بحملها الجبال، يكفيها ما نالها من مشاعر التضامن مع معذبي العالم في كلّ أماكنه" عالم مجنون هذا"، قالت لنفسها وهي تغلق الباب وراءها. نظرت إلى الساعة المُنتصبة في وسط المدينة كانت عقاربها تقترب من الثانية. في الثانية والنصف سينتهي دوام ابنيها. ستصل قبل هذا الانتهاء بدقائق. وها هي تمضي على مهلها وأقل من مهلها. ها هي تتوقّف قرب هاته المرأة أو تلك الدكانة لتستمع إلى أخبار الزجاج المتكسّر تنتشر في مكان، زاوية وركن من أركان الطريق المؤدي إلى المدرسة. إنها تستمع إلى احتجاجات واستنكارات الكثيرين. "الله يستر"، قالت لنفسها وهي تُتابع الطريق باتجاه المدرسة، كي ترافق ابنتها صغيرتها الغالية ذات الشعر الذهبي المسترسل. أما ابنُها صغيرُها مُحب طعامها الخاص .. وآكل البطاطا النهم، فقد تعوّدت منذ فترة ليست بعيدة من الوقت على تركه يعود إلى البيت دون مرافقة، فقد أرادت أن تخلق منه طفلًا مستقلًا ومعتمدًا على نفسه.
وصلت بوابة المدرسة. ها هي مُنظّمة تسليم التلاميذ الصغار إلى أمهاتهم تسلمها جليلتها.. وها هي تحتضن قارب الذهب الوردي كما أطلقت عليها. وتمضي في طريق العودة إلى البيت.. بيتها.. رافعة الرأس وواثقة مِن أنها إنما تؤدي دورها على أكمل وجه، في مقابل إهمال زوجها، وتخلّيه عما يُفترض أن يقوم به في عالم يتدمر. عندما وصلت إلى الباب الخارجي لبيتها لاحظت أنه ما زال مغلقًا بالضبط كما تركته قبل قليل. لقد عوّدت ابنها.. صغيرها.. محبوبها البطل على أن يترك ذلك الباب مفتوحًا، عندما يعود إلى البيت بعد انتهاء دوامه. فتحت الباب المُغلق. أدخلت ابنتها قبلها.. وتبعتها.. نادت ابنها غير أن أحدًا لم يردّ. حملت صغيرتها.. وخرجت إلى الشارع المحاذي.. انتظرت أن يُطلّ ابنها من الطريق التي اعتاد على العودة منها بعد انتهاء دوامه، غير أن أحدًا لم يظهر أو يمرّ. توجّهت إلى المدرسة مرة أخرى. وعندما وصلت إلى هناك، وجدت بوابة المدرسة مغلقة. حالة من القلق الموازي لذاك الذي انتابها خلال متابعتها للمآسي التلفزيونية. شعور بالجفاف استولى على لسانها. وضرعت إلى السماء" يا رب السماوات.. أين ذهب ابني"، اكفهرّ وجهها أكثر فأكثر. احتلت الحيرة كلّ ما في عينها من مساحة. توقفت في باب المدرسة تفكّر فيما عساها تفعل. استولى عليها شعور بأنها تغرق في بحر من الألم العميق. ولم يخرجها مما هي فيه.. سوى رؤيتها مُساعدة طلاب المدرسة ومسلّمتهم إلى أهاليهم. فعندما التقيت عيناها بعيني تلك المرأة المُخلّصة حتى سألتها أين ابني جلال.. هل رأيته؟.. "لقد جاء والده واصطحبه من هنا.. الم يعد إلى البيت؟"، سالتها فلم ترد الام القلقة عليها وإنما انطلقت إلى حيث يقيم زوجها الهارب من مسؤوليته الابوية.. فلم تجده.. عندها طارت إلى بيتها.. الحمد لله باب البيت مفتوح هذه المرّة.. تنفّست الصعداء ودخلت البيت لتحتضن ابنها وزوجها العائد إلى بيته وابنيه العزيزين الغاليين.. " كنت أعرف أنك لن تتخلى عنّا في هذه الأجواء المشحونة.. هتفت بزوجها وهي تعود إلى احتضان ابنها البطل.. وتنظر الى البعيد.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency