الأخبار العاجلة

Loading...

نوستالجيا

حسن عبادي
نُشر: 24/03/25 14:49

وجدت لقاءاتي بالأسرى قبل السابع من أكتوبر (كلّهم في الزنازين أكثر من عشرين عام) تعج بالنوستالجيا (Nostalgia)، حنين وألم الشوق للماضي والعودة لبيته وزمنه الجميل وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد.

تواصل معي صديقي الروائي عبد السلام صالح لأؤمن له نسخة من كتاب "حنين" للأسير عاهد نصاصرة (رواية، 318 صفحة، الإخراج الفني: سناء صباح، صدر عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، رام الله، ومن إصداراته "المرأة الشجاعة" و"نداء القلب") فقرأتها.

جاء في الإهداء "إلى روح أبي مصدر إلهامي وشغفي في الكتابة… إلى روح أمي مصدر هذه العاطفة الجياشة… إلى كل من تركوا آثاراً مؤلمة في حياتي وذكرياتي".

"حنين"، اللا بطلة في الرواية، فتاة قرويّة تعشق اللعب في الحقول والبراري، مثلها مثل أبناء جيلها، وهناك التقت بأسامة، ابن الجيران، ابن السابعة، وبطل الرواية، يستفرد بها ويتعريّا من ملابسهما واضطجعا بين الأشجار وتبادلاً قبلاً بريئة، وفجأة انقضّ عليهما والدها وانتزعها من حضنه "كما لو أنّه ينتزع قنبلة موقوتة"، انهال عليهما بالضرب المبرح "أمسك يومها شعرها في قبضة يده، ورفعها إلى الأعلى، كأنما يرفع دمية، وقام بصفعها بباطن يده الأخرى وظاهرها، والسؤال على ألسنة الجميع: "فتحتها؟!".

يتم عرضها على أم الخضر، قابلة القرية، التي تؤكّد سلامة غشاء بكارتها، البنت بنت، وأنّها لم تُمس وليست مفتوحة!

صارت فضيحة بجلاجل؛ تضطر حنين إلى الرحيل مع أهلها من البلدة هرباً من الفضيحة وألسنة الناس، بينما يتعرّض أسامة للضرب والشتم من قبل كل أبناء العائلة دون أن يعرف جريمته، ويصير بين ليلة وضحاها منبوذاً، تلاحقه وصمة العار لتتغيّر حياته رأساً على عقب، وتُسلب طفولته، ومراقب تحت المجهر كلّ الوقت، وبات ملطشة للجميع.

 تُفرَض على أسامة/ الطفل عزلة تؤثّر على سلوكه ودراسته، تعرّض للعنف والقساوة والتحرّش، أهمل دراسته وآمن أنه بات حماراً، كما يصفه القريب والبعيد، أصبح لصّاً، وصار ينفّس عن حالته هذه بتعذيب الحيوانات وقتلها، والقيام بأعمال انتقامية تجاه الجميع، بما فيه حرق حقل زيتون والده... ويصبحَ مهووساً بحنين، لتصير وصمة عار على جبينه تلازمه كلّ الوقت.


جاءت الانتفاضة لتنقذ أسامة من الضياع وتأخذ بيده ليصبح بين ليلة وضحاها فدائياً مُطارداً مشرّداً وينخرط فيها بكلّ جوارحه.

صار العم عبد الجبار هو الغورو (يعني بالهندية المعلم والملهم Guru، يطلق على من لديه معرفة عميقة وحكمة ومرجعيّة لإرشاد الآخرين) لأسامة، ويأخذ بيده في طريقه الوعرة: "لا أعلم يا بني من أين تكالبت عليك كل هذه المآسي، كأنك منذور للعذاب، وكأن الكون خلا إلا منك حتى تتلقف كل المصائب التي تمطرها السماء، لا أدري من أين لك صبر وجلد على كل هذا، والله لو كانت مكانك هذه الصخرة الصماء الجلمود لتفتت واستحالت إلى غبار".

علّمه القراءة والكتابة من جديد، صار يفك الحرف، وتحوّل إلى شخصيّة أخرى، وبنته الانتفاضة من جديد.

تعود حنين، وقد أنهت دراسة الطب، وكلّها أمل بأن يتحقّق حلمهما ولكن كان أخوها بالمرصاد ليئد ذاك الحلم الجميل.


تناول الكاتب ظاهرة الاختراق الأمني والعملاء، الكثيرون يغرقون في مستنقع العمالة، خيانةِ العملاء الذين يبيعون أنفسهم في مقابل حزمة من المال والإحساس بالأمان والاستقرار الماديين، والاسقاط الأمني "صور مدبلجة لفتيات يمارسن الجنس من أجل الابتزاز والإسقاط وتصريح دخول مناطق إسرائيل من الشاباك، وظاهرة قتل العملاء آنذاك "أخذت بعض الحطب والهشيم وكدستها على جثته النتنة وأحرقته، أحرقته حتى فاحت رائحة شوائه" (ص. 309).

كما تناول ظواهر اجتماعيّة مقيتة، كحالة تعرّض الطفل للتحرش على يد أستاذه "فاضل" (جاء اختيار الاسم موفّقاً)، وظاهرة المخترة، كان المختار يخدم الاحتلال سرًا في فترة الانتفاضة الأولى، ويبقى اللثام شعار المقاوم النقيّ.

تناول العهر الأوسلوي وكارثة أوسلو التي أجهضت الانتفاضة، فقيادتها "توقّع ثم تفاوض بدلًا من أن تفاوض ثم توقّع، تشتري أسماكًا في مياه ولا تعلم أساسًا إن كان في تلك المياه أسماك أم ثعابين". تحوّل المشروع الوطني إلى مشروع استثماري ربحي، ستجد لك شركة، أو مشروع صغير، لتديره بدلاً من حياة الثورة والجبال والكهوف... في هذه الأيام يجب على الثائر أن يُدير الثورة من مكتب فاخر، أو سيارة فارهة، أو شاليه، ولا يضير إذا التفّت حوله بعض الحسناوات، فالنساء يشحذن همم الثوّار، ويرفعن من معنوياتهم. كان شعباً منتصراً وهزمته قيادته مما حدا بناجي الضرير أن يواجه المختار المتخاذل "الحمد لله الذي خلقني ضريرًا لأنّ هنالك أشياء كثيرة لا أريد رويتها".

يصل الكاتب إلى نتيجة مفادها أن لا أحد اليوم يهتم بالدوافع الوطنية، الكل يزاحم على الوظيفة والكرسي والوجاهة والنفوذ، مرحلة التحرر الوطني والثورة في نظر أغلب المنتفعين من مشروع أوسلو قد انتهت وآن الأوان لبناء المكاتب.

ذهبت الانتفاضة، وذهبت الثورة، وذهبت معها القيم والمثل الأعلى... الكل الآن يتزاحم على فتات ما فاض عن حاجة الاحتلال.

نعم؛ أترى أي مآل آلت أحوالنا، تفرقنا وتشتّتنا، بئس الشعب الذي تجمعه الهزيمة وتفرّقه أوهام الانتصار!

صوّر عاهد صورة قاتمة سوداء لواقعنا البائس، صورة سمعتها من الكُثُر "تحرّر أسيران من ذات السجن في صفقة تبادل "تسلم صديق نجلها وظيفة في الأجهزة الأمنية، وأما ابنها ولكونه ينتمي إلى حزب معارض للاتفاق، أصبح تلقائياً من الملاحقين وقد اعتقل اعتقالا سياسيا وزج به في سجن أريحا. وحين ذهبت تلك الأم البائسة لزيارته، صدمت صدمة لا يعلم بها إلا الله والشياطين، حين وجدت صديق نجلها والذي هو بمثابة ابنها، يعمل سجاناً وقذ أذاق ابنها الويل" (ص. 250). يا للمفارقة!

راقت لي براءة الزمن الجميل؛ شهقت حنين شهقة خفيفة ملؤها الذهول والدهشة والسعادة، وتلونت بلون الحياء والخجل، وجهها خداها وجنتاها أصبحت كلون الحنون الأحمر، وارتجفت شفتاها وارتعشتا، وبدا قلبها كما لو كان عصفوراً صغيراً يرف خلف ثيابها، وأنا لم أكن بحال أفضل من حالها. تعرّقت واضطربت"(ص. 238)

استعان عاهد بالأمثال الشعبية جاءت موفّقة؛ "الذباب لا يحط إلا على الخرى"، "الطيور على أشكالها تقع"، "عصفورين بحجر واحد"، "ذبابتان ببصقة واحدة"، "فرخ البط عوّام"، التكرار يعلّم الحمار"، "أنت تحسب وغراب البين يحسب"، و"رزق الهبل ع المجانين".

 أما ذكر الهوامش فجاء نوعاً من الابتذال وكان بغنى عنه؛ الجنبية، الفلعوص، كُر، الكراكيب، الخاربة، على الطالعة والنازلة، التنفّس، من طقطق لسلام عليكم، سبعة وذمتها، شرشوح مقثأة، الخربوش، خمسة بلدي، أين القرد مع اسم الله، الشنانير، الأشبال.

جاء في الكتاب ذَكر "الإعفاء" و"العفو" أكثر من عشر مرّات مع اللبس بينهما؛ فالإعفاء تدخل في إسقاط الحق من قبل صاحبه بينما العفو هو المسامحة، وأسامة ما زال ينتظر العفو الموعود. 

ويُبقي أسامة السؤال مفتوحاً؛ أنهجر الوطن لأنه محتل؟ أم نقاوم الاحتلال، حتى نحرّر الوطن؟ّ! فهناك قناعات تُخرج المرء عن دينه، ودين أبيه.

وجاءت النهاية "ارجع يا بني، ارجع، يبدو أننا سنبدأ مرحلة جديدة..." (لم تنته...)

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة