الأخبار العاجلة
"أرملةٌ منَ الجليلِ"/ محمّد بكريّة: رواية سي رة ذاتيّة غيريّة
د. نبيل طنوس
هيَ الوالدةُ:
إنْ شَرِبَتْ كأسَ ماء، ملأتْ الفضاءَ والسماءَ حمدًا وشكرًا لربِّ العالمين. تقتربُ من التسعين، لا تشكو من وَصَبٍ، أو سُقمٍ ولا لكَمَدٍ تُبين. والدُ أبنائِها، امتطى خيلَ السرابِ ودَّعها، على مَهلٍ وهي في بهاءِ الثلاثين. تصالَحَتْ مع الأيّام، رغم تباريح الدّهرِ ومُرِّ السنين. عزفَت عن الدنيا، لا لشيء بل لتربّي في الدارِ أبناءَها وفي الحاكورةِ، أشتالَ الدّخانِ والبندورة واليقطين. تنثرُ بذارًا، رزقًا للطيرِ واليتامى، وأبناءِ الله السائلين. تزرعُ القمحَ والبطّيخ، ولا تنسى سياجَ الأرض من زهورِ الياسمين". (محمد بكرية،215.هي الوالدة. ص 45).
مدخلٌ
"أرملة من الجليل" هي حكاية امرأة أحبت بيتها بإخلاص وتفانٍ، ورافقها هذا الحبُّ كلّ حياتها، متحمِّلةً الكثير من المعاناة والتضّحيات بعد رحيل زوجها، من أجل أولادها، ومن أجل كرامة أهلها وسمعتهم، حفاظًا على كيانها الجديد بكونها امرأة جليلة من الجليل، حازمة بدورها نحو أولادها من تداعيات رُملتها التي قد تعصف بمستقبلهم الدراسيّ والمهنيّ والاجتماعيّ، في الوقت الذي يتطلب منها الاعتماد على نفسها وحيدة في الحصول على موارد معيشيًة والقيام بعلاقات اجتماعيّة.
أرملةٌ منَ الجليلِ: اسمُ الرّوايةِ
"أرملة من الجليل" العنوان الرّئيسيّ للرّواية وهو محذوف أل التعريف وهي حَرْف ينقُل الاسْم من النَّكِرة إلى المَعْرِفة. توجد أهميّة خاصة لهذا الحذف، وعن هذا تقول راوية بربارة (2024) "بكريّة لا يعرّفها بأل التعريف، لأنّه رغمَ روايتِه لسيرتِها الشخصيّة، إلّا أنَّ هذه الأرملةَ نُكّرت لتشملَ غيرَها من الأرامل الجليليّات، العربيّات، نُكّرتْ لأنَّ التنكير في الاسم أرملة يعمّم السيرة، ويُخرجها من سيرة امرأة واحدة، إلى سِيَرِ نساء عِشْنَ في ذاك الزّمان، وفي ذاك المكان".
الجليل: اسم من أسماء الله الحسنى، معناهُ: عظيمُ الشأن والمقدار والمكانة العالية.
وجليل هو اسم علم مذكّر من أصل عربي، ومعناه هو صفةٌ مشبهةٌ، بمعنى المهيب، العظيم القدر، الوقور والمتقدّم في السن.
الجليل هي منطقة جغرافيّة في شرق البحر الأبيض المتوسّط في شمال فلسطين ومن أكبر مدنها النّاصرة وطبريّا وصفد وعكّا، ومن النّاحية الإداريّة تقع أغلب أراضي الجليل اليوم في إسرائيل ضمن لواء الشمال الّذي يضمُّ أيضًا لواء حيفا. ومن النّاحية الدّيموغرافيّة يشكّل عرب 48 حوالي نصف عدد السكّان الإجماليّ، ومن بينهم المسلمون والمسيحيّون والدّروز كما ويسكن في المنطقة أقلية شركسيّة. أما بقيّة السكان (حوالي 46.9% بحسب إحصائيّة عام 2006) فهم من اليهود ويقدّرون بحوالي 1.2 مليون نسمة.
عرّابةُ هي بلدة كاتب الرّواية، محمد بكريّة، أقرب البلدان لها سخنين ودير حنّا، لتصبح البلدان الثلاثة "مثلّث يوم الأرض". مدينة عرّابة من مدن الجليل الكبرى، تقع في الجنوب الشرقيّ من عكا، بلغ عدد سكانها عام 1922 م حوالي 984 نسمة وفي عام 1945 م حوالي 1800 نسمة وفي إحصاءات الاحتلال لعام 1948 كان فيها 2172 نسمة وفي عام 1961بلغ 3370 نسمة ويبلغ عدد سكانها في عام 2025 قرابة 45000.
لوحةُ الغلافِ
يأتي غلافُ الرّواية صارخًا برموزه الدَّلاليّة المتعدّدة في لوحةٍ لوجه امرأة مُسّنة، أتعبها ألمُ الفراق وأنهكتْها التّضحياتُ والتّحدّياتُ الّتي واجهتها وحيدةً في مجتمع تقوده العادات والتقاليد الصّارمة بحق المرأة عامةً والأرملة خاصّةً.
نرى الّلون الرَّماديّ سائدًا في لوحة الغلاف، والرَّماديّ هو لون الرَّماد، والرَّماد يأتي بعد الاحتراق. ممّا قد يرمز لاحتراق هذه السيّدة خلال سعيها لسنين طوال من أجل لقمة العيش بكرامة لها ولأفراد أسرتها بعد أن أصبحت المعيلة الوحيدة لأسرتها. وعندما ندقق في التّفاصيلِ، نرى في وجهها عينين حزينتين تائهتين. عينان حزينتان على ما مضى، تائهتان وخائفتان مما قد يأتي، تتساءلان: ماذا بعد؟!
نراها أيضًا واضعةً كفَّ يدها على فمها، محاولةً بذلك إسكات صوتها الّذي اعتاد على أنّه "لم ولن يُسمع"، ممّا قد يشير إلى تربية النّساء قديمًا حيثُ كانت تربيةً تقودُها سياسةُ القمع، عنوانها "الّلاحق" ومضمونها "الّلاصوت".
الإهداءُ
الإهداء الأول إلى والدته، يقول: "إلى روح والدتي الطاهرة ...أمي، سطّرتِ فصولًا لا تًمحى أبدًا، من كفاح عنيد مغموسٍ بالكدّ والكَبَد، عجزتُ هنا عن سردها ... سلامٌ عليكِ هناك مع الاطهار والصّالحين" في هذا الإهداء يختصر الكاتب سيرة والدته العمليّة.
الإهداء الثّاني إلى شقيقه غسّان بكريّة أبو ياسين: "ما أجمَلَك وأنت تَثِبُ كالنَّمرِ من نومِكَ العميق كلما اشتكى أحدُنا ... لم تعتزل دورَكَ الأبويَّ ... أدامَكَ ذخْرًا لنا وسراجًا منيرًا".
غسّان هو الشقيق البكر، والبِكْرُ أَول ولد للأَبوين ذكرًا أَو أُنثى. ولم يزلْ سائدًا ولو بالقليل المفهومُ القديمُ حولَ دور الابنِ البِكرِ في الاهتمام بإخوته الصّغارِ، في حال غياب الوالدين وانتشار القول الّذي يتوجّهون به إليه "أنت كبيرُ إخوتك وعليك المسؤوليّةُ" وفي الإهداء يعطي الكاتب شقيقَه غسّانَ موقعَ الحارس لإخوته والرّاعي لهم.
البدايةُ
جاءت البداية (ص 7) تحت عنوان "الفصل الأول" وهي مدخل عامّ للرّواية، فيها إشارات إلى سيرورة الحكاية، يخبرنا فيها بأنّه سيروي للمتلقّي مُسترجعًا ما حدث بالفعل ويعلّلُ ذلك: "هذا ما حدث إنْ لم تَخُنّي ذاكرتي، وأنا لا أظنّ ذلك بل أستحيلُه" وكأنّه يقول: أنا لا أختلقُ الأحداث، إنّها حقيقيّة وأرويها لكم من ذاكرتي. في هذا القول يوجد تبرير إنْ كان نسيَ أمرًا ما، ولكن كيف أنسى؟ يقول: "شدّةُ الأهوال وقساوةُ الأحوال حتمًا ستنتصر على النّسيان". موتيف التّذكُّر حسب طنّوس وبُربارة (2024، ص 120) هو" ما خُزِّن في الذّاكرة ورقد منسيًّا لفترة، منتظرًا ما يحثّه على معاودة الطّفو على سطح الحاضر، التذكّر يحملُ في طيّاته نسيانًا مؤقّتًا وظهورًا مفاجئًا. التذكّر يحمل ثنائيّةَ الزّمنِ، فهو فعلٌ حاضر لتجربةٍ ماضيةٍ، والتّذكّرُ لا يحدث عبثًا، فعلى الغالب يكون نتيجةَ محفّزٍ ماديّ كالرّائحة والصّوت والصّورة واللّمس، أو نتيجةَ محفّزٍ شعوريّ، إحساسٍ ما كاليأس في عتبة النصّ، يمكن أن يؤدّي إلى التذكّر" وأهميّة التذكر في رأي الراوي هي أنه "هوية صاحبها فلا ماضٍ أو حاضر له دونها". إشارة ثانية للأم: صاحب الهوية "يتشبّث بها صاحبها كما يتعلّقُ الطفلُ بتلابيب والدته، كي تبقى مُلاصقةً له لئلّا تبتعد عنه فَيتيهُ، والأمُّ الرّؤومُ لا تُهملُ أو تتخلّى عن أبنائها ... كلٌّ يتمسّكُ بالآخر فلا الطِّفلُ يضيعُ ولا الأمُّ تفقدُ طفلها" وعن علاقته بأمّه يقول: "صديقان نحن، وليفان نقطع الوقت سويّةً أشكو لها فتسمعني كعاشقة مُخلصة، تحدّثُني فأنساب على وقْع صوتها" (ص 8). بواسطة هذه البداية يُدخل الكاتب المتلقي في الحكاية ويثير توقعاته للقادم. في الصفحة التاسعة تبدأ الرواية بشكل فعلي بعد هذه البداية.
السّيرةُ الذّاتيّةُ والسّيرةُ الغيريّةُ؟
تعتمد السّيرة الذّاتيّة على ما عاشهُ ومارسهُ الرّاوي، وما مرَّ به من تجاربَ وأحداثٍ، ويكتب عن أفكارِهِ وأحاسيسه الشّخصيّة، هو خبير المعلومات حول ذاته وبما في داخل نفسه. يحكي فيها الكاتب ما يختار من حياته ويكتب السّيرةَ الذاتيّةَ بضمير المتكلم، ويكون فيها الكاتبُ هو الشّخصيّة الرئيسيّة. قد يحدث أن يستعمل الكاتبُ ضميرَ الغائبِ في سيرته الذاتيّة، مثل: طه حسين في كتابه "الأيام".
أمّا السيرة الغيريّة هي سيرة يكتبها الكاتب عن شخصيّة أُخرى، معتمدًا على الذاكرة أو المشاهدة، يكون حياديًّا فيما يكتب، يتناول حياة شخص جدير بالاهتمام، له مكانة خاصّة عنده أو له مكانة في المجتمع، يحكي فيها الكاتب ما يختار من حياة الآخر ويكتب السيرة الغيريّة بضمير الغائب. يقول محمد عبيد الله (2020، ص، 56): "يعتمد الكاتب على استحضار حياة شخصيّة حقيقيّة تنتمي إلى عصر معين، قريب أو بعيد، حاضر أم ماض، لكنّها في كل حال شخصيّة متفرّدة أو متميزة، تمتلك حياة دالّة مشبعة بالمعنى المكتوم".
كيف نحدّدُ رواية "أرملة من الجليل" في هذا المضمار؟
في روايته " أرملة من الجليل" يجمع محمد بكريّة بين مجالين: الواقعيّ (السّيرة الذاتيّة) من ناحية والمُتخَيَّل (السّيرة الغيريّة) من الناحيّة الأخرى، فمصدر مادّته السّرديّة للأحداث مأخوذ من وقائعَ وأحداثٍ حياتيّة موجودةٍ في كلّ المجتمعات، في كلّ مكان وزمان، فيدخلُ في جوهر العلاقة القائمة بين الابن ووالدتهِ، ويعالجُ قضيّةَ الارتباط الكبير بين طفلٍ لم يبلغ ستّة أشهر حينما تُوفّي والدُه (بكرية، ص 36) وبين أمّه.
تقول راوية بربارة (2024): رواية أرملة من الجليل "هي سيرةٌ غيريّة، سيرةُ أرملةٍ من الجليل، لكن فيها من السيرة الذاتيّة الكثيرالكثير، وهي سيرةٌ ذاتيّة لمحمّد بكريّة وفيها من الغيريّة، من سيرة أمّه، الكثيرُ أم يا تُرى هي سيرة شعبٍ قرويّ كانت الأرضُ أمَّهُ؟ لو أراد محمّد بكريّة أن يكتبَ سيرتَه الذاتيّةَ ألَمْ تكن أمُّه هي الشّخصيّةَ المركزيّةَ، ولو أراد كتابةَ سيرةِ والدَتِه ألن يكونَ هو الشخصيّةَ المركزيّةَ؟ هذا التطابقُ في البُطولة أضفى على القصّة حالةً سرديّةً خاصّةً، تراوَحَت فيها اللّغةُ بين المحكيّة البطّوفيّة والفصيحة".
هذا التداخُل والتشابك بين الذاتيّ والغيريّ في الرواية جديرٌ بالاهتمام والدّراسة، فالكاتب الشاعر محمد بكريّة خَصّص لوالدته الكثيرَ من إبداعه الشعريّ الّذي يبرز الأنا مع الآخر ويجعل من روايته "ذاتيّة غيريّة" معًا. من هنا نرى أهميّة بمكان إبرازَ والدته في إنتاجه قبل صدور الرواية، فقد كتب قصائدَ كاملةً في والدته بالإضافة إلى تخصيص مقاطع أو أسطر كاملة يذكرها فيها. أمثلةٌ:
قصيدة "هي الوالدة". في كتاب "على المقعد المهترئ، 2015" ص 45-48.
قصيدة "هي الوالدة" في كتاب " على صراطٍ من الوهم"، 2018 ص 75-80. باللُّغتين: العربيّة والعبريّة. (ترجمة نبيل طنوس).
في قصيدة "ثقيل هذا المساء" في كتاب "روحٌ محمولةٌ على الريح"، 2016 ص 50 يقول: "مسَحَت والدتيْ/ بكفِّها الهزيلَ جبيني/تملْمَلَ دمعُها/ قطَعَ عِرقًا من شراييني. / بسطت يدي إليها/ رسمُ جَسَدٍ هنا، والرّوح هناك".
في قصيدة "حتّى أكتبَ قصيدةً" في المصدر السابق ص69 يقول: "حتّى أكتبَ قصيدة أحتاج إلى ذاكرتي ... حيث الوالدةُ تُلَمْلِمُ غَسيلَنا ... يسقط قميصي الوحيد على غُثاءٍ وماء، تنظر إليّ أمي، وتقول: سَطِّرْ شقائي يا ولدي واروِ سِنِيْ عُمري في قصيدة".
في قصيدة "لا معنى للرّيح" في المصدر السّابق ص 84 يقول: "لا معنى للرّيح، إلّا إذا طيَّرَتْ حَبْلَ غسيلِ أمّي بلا سؤال". و"كنت عائدًا إلى بيتِ أمّي القديم" ص 97.
في قصيدة "كنت صغيرًا" في المصدر السابق ص137 يقول: "كُنْتُ صغيرًا، أستشعر حلولَ الخريفِ، من لهْفة أمّي وهي تُلَمْلِمُ غَسيلَنا عن الحبل، لئلّا يبلّلَه أوّلُ المطر/ توقّفَتْ عن ممارسةِ مهمّتِها، فقد وَهنَ جِسْمُها منْ شقاءِ السّنين وطولِ السّهر، حينها فقط، اختلطَتْ عليّ الفصولُ".
في قصيدة "في غيابها" في المصدر السابق ص 138 يقول: "ما أشَدَّ اشتياقي للرّحيل ... لولا زيتونةُ الكرم، ودموعُ الوالدة".
في قصيدة "خَوْفْ" في المصدر السابق ص149 يقول: "لا أخشى فقرًا أو بطالةً، أو وجعًا إن ألَمَّ بي المرضْ، أخشى ما أخشاه، أن تَفلِتَ يدي من زنّارِ الوالدة، وأسقط على الأرض".
في كتاب "لا تسافر أيّها الحلم"،2019 يقول في الإهداء: "والدتي الحاضرة التي مشّطت بيدٍ وجه الأرض وحلبت الغيمَ بيدها الثانية حتى تفتّقَ زرعُها" ص 5.
في قصيدة "في المشفى" في المصدر السابق. ص 96. يقول: "باغتها لمّا هزّ جَسَدَها بساعديْه الحديديّيْن/مالت على جنبها بتثاقل ... صرَخَ ناحِبًا: أنا مبعوثٌ من عندِ ربّ السماء/صاحت به: وأنا لمْ أكمِلْ صلاةَ الاستسقاء/ انتَظِرْ لأتمّ دعائي وينهمرَ على العباد من السماء ماء. /هكذا روّضت أمي ملاكَ الموت / تحيا الحياة/ تحيا الحياة".
في كتاب "شتاء الغريب"، 2020: يكتب "الإهداء أُمّي" وصورة والدته جالسة على مقعد عليه وسائدُ جميلةٌ داخل إطار للكتابة.
قصيدة "كلّ عام وأنت هناك بخير"، "أمّي" ص 52. يقول: "أعلى من الموتِ أنت/لكِ ما لا نملكُ ولَنْ/لكِ زيتُ النعناعِ الشحيحِ، رائحة الفيجن البريّ ... لما يصعدُ ملَكُ الموت، شاكيًا إلى الله: لقد أرهقَني يا ربِّ/ ما أعندَ هذا العبد!! / ما أعندَ هذا العبد!!".
قصيدة "لِمَ غافلتِني قبل هذا السفر؟" يصرخ: ياااا يمّا. أربعون ليلة، لمّا الفجرُ انكفأ. لا ضوء هنا، قد انطفأ، لمْ يقرعْ أحدٌ بابَ بيتِك، سوى صفيرِ ريحِ اللّيلِ، وذئابٍ تعوي على قِمَمِ الجليلِ، لا أحدَ هنا، لا أحد " (ص 58)، كل القصيدة يخاطب فيها والدته.
قصيدة "أحب تلك التي تشبه أمّي" ص 65.
قصيدة "وصيّةٌ إلى أمي" ص 78-79.
هذا الكمّ الكبير هو شهادة لحضور الوالدة في فكر ووجدان الكاتب. هي حاضرة بكامل كيانها الأموميّ، التعبيريّ والوجدانيّ الّذي يفيض محبةً وعطاءً وتفهمًا وحمايةً وكيانها الابويّ والعمليّ الّذي ينعكس في مجهودها الّذي تبذله لتحصيل منفعةٍ ووسائلِ معيشيّةٍ.
موتيفُ الخوفِ: "في الخوف ِمنَ الحياةِ حياةٌ".
الموتيف Motif، الموضوع الدالّ هو لفظة أو جملة أو فكرة أو موضوع مُتكرّر في العمل الأدبيّ أو الفنيّ من أجل تطوير فكرة النصّ. وتكرار الموتيف يمنحه قيمةً ومعنًى ودلالةً. يساعدنا الموتيف في فهم الحالات أو القضايا أو الأفكار الّتي كانت تجول في فكر الرّاوي. وإذا وُجد الموتيفُ فهو يوضّح العلاقةَ الكبيرة والتّرابطَ الكبير بين هذه الحالات والقضايا والأفكار وبين الواقع النّفسيّ للأديب وميوله وآرائه. وهو يستخدمُهُ ليُعَبِّرَ من خلاله عمّا في داخله، وكثيرًا ما تكون عمليّةَ تنفيسٍ يُفرِّغُ بواسطته الأحاسيسَ الّتي تملأ قلبَه والّتي تكون في بعض الأحيان ثنائيّةً ضدّيّةً تخلقُ صراعاتٍ داخليّةً.
الخَوْفُ أو المَخَافَة أو الخَشْيَة هو الشُّعورُ النّاجمُ عن الخطر أو التّهديد المتصوّر ويحدث في أنواع معينة من الكائنات الحيّة، ويقوم بدوره بالتسبُّب في تغير في وظائف الأيضيّة والعضويّة ويُفضي في نهاية المطاف إلى تغيير في السّلوك، مثل الهروب، الاختباء، أو التجمُّد تُجاه الأحداث المؤلمة الّتي يتصوّرُها الفردُ. وقد يحدث الخوف في البشر ردًّا على تحفيز معيّن يحدث في الوقت الحاضر، أو تحسُّبًا من توقُّع وجودِ تهديد محتمل في المستقبل، كوجود خطر على الجسم أو الحياة عمومًا. وتنشأ استجابةُ الخوف من تصوّرٍ لوجود خطر ما، ممّا يؤدّي إلى المواجهة معه أو الهروب منه وتجنّبه، وهذه الاستجابةُ في الحالات القصوى من الخوف (الرّعب والرَّهْبَة) يمكن أن تؤدّي إلى التجمُّد أو الشّلل. (ويكيبيديا).
علاجُ الخوف الشّديد: الرّاحة، السّفر، الرّياضة، علاجُ المواقفِ المخيفة بمساعدة مُعالج، اللّجوء إلى شخص نَثقُ به ونعتبرُه مرجعًا لنا وغيرها (ويكيبيديا).
ما هي مصادرُ الخوف عند الشّخصيّات في رواية "أرملة من الجليل"؟ وكيف تصرّفتْ وعلى مَن أو على ماذا اتكأتْ؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة نقترح طريقة كما وردت في كتاب "في الخوف من الحياةِ حياةٌ" (بدارنة، 2019):
الاسترخاء والتأمّل والتخيّل (بدارنه، 2019، ص 191) والتّواجد في أماكنَ جميلةٍ: حديقة، شاطئ بحر أو جدول ماء أو نبع ماء. التّفكير بجمال الأشياء وصحتها، التفكير الإيجابيّ بكل شيء. أمثلة يرويها المؤلف:
الحالة 1: عتمة، ظلام دامس ... منتصف اللّيل. أقود سيارتي ... على يميني جبل شاهق، على يساري منحدر.
التّصرّفُ: من داخلي صوتٌ قويٌّ: توقَّف يا عزيزي، توقَّف، لمَ العجلةُ؟
أُطيعهُ ... أُطفئُ مُحرِّكَ السيّارة والأضواء أخرج من السيارة وأتكئ عليها، فأنا بحاجة إلى متَّكأ، أي شيء أدير له ظهري وأنا مطمئن. (م. س، 172)
الحالة 2: توفي خريستوس زوج كاترينا عن عمر خمسة وستين عامًا.
تصّرُف كاترينا: تبقى كاترينا بلباسها الأسود تجلس وحدها كلّ مساء، على المقعد الخشبيّ ذاته على رصيف الميناء الصّغير ... وجدتْ كاترينا هذا المقعدَ الخشبيَّ حضنًا ومُتّكئًا آمنًا. (م. س، 179-180).
الخوف عند الأم.
عَبَرَتْ الوالدةُ-الأرملةُ تجربةَ الأمّ بعد وفاة زوجها وتَرَمُّلها، حيثُ عاشت في قلق دائم بعد وفاة زوجها على كيفيّة الاستمرار والحفاظ على أولادها والاهتمام بحمايتهم. الاحتلال وجنوده من ناحية والامكانيات المعيشيّة من ناحية أخرى. هذا الخوف أثّر كثيرًا على قراراتها نحو الاستمرار، وحقق مقولة بدارنة (2019، اسم الكتاب) "في الخوفِ من الحياة حياةٌ". كيف كان ردُّ فعلِ الوالدة في هذه الظّروف الصعبة؟ هل تستسلم أم تتحدى الظروف؟ نجد الإجابة على لسان الراوي: "بداية تشرين اقترب موسمُ زراعةِ أشتال الدُّخان والبندورة في حاكورتنا ... هذه الفِلاحة مهنةُ أمّي التي أتقنتْها جيّدًا حتى صارت علامةً فارقةً لعائلتنا" (م. س، 69). ويقولُ بدهشة: "كيف كان بمقدور أرملة لم تبلغ الخامسة والأربعين من عمرها أنْ تبذل هذا الجهد الجسمانيّ من أجل الأرض وأولادها اليتامى؟ من كان يمدّها بهذه القّوة والعزيمة، الصّبر ورباطة الجأش عدا الله القدير؟ ... الخوف أحيانًا يثأر من نفسه، ومن شدّته يتحوّل إلى مخزون قوّة، فالخائف المتحوّل إلى قويّ، لا يتلفّت إلى الخلف، ولا يحاول تقليب مواضع خوفه من جديد بل ينسج غشاءً على البصر، كي لا يرى ثانيةً ما كان يراه سابقًا، هكذا انتصرتْ أمّي على نفسها وهكذا أعتقدُ أنها نجحتْ في ترويض مخاوفها الطبيعيّة حتّى زأرت في داخلها كالأسد"(م. س، 74).
بهذا تكون الوالدة-الأرملة قد قررت أن تقوم بدورين في آن واحد: بدور الأم كقائدة اجتماعيّة (Expressive Leader) تسهم بأكثر النّشاطات الّتي تبني العلاقات الوجدانيّة السليمة، فتقوم بمعالجة التوتّرات النّاشئة بين الأولاد أنفسهم أو تعمل على تخفيف حدّتها، وتوزّعُ المحبّةَ على كلّ أفراد الأسرة وهكذا فهي تؤدّي إلى تماسك الأسرة، وبدور الأب كقائدة وظيفيّة/ مهمّاتيّة (Instrumental Leader) تُسهمُ بأكثر النّشاطات الّتي تبني علاقات الأسرة مع المجتمع الواسع، وتقوم بالأعمال الّتي تؤدّي إلى الحصول على الوسائل المعيشيّة. (حسب عالم الاجتماع الأمريكي في جامعة هارفارد تالكوت بارسونز Talcott Parsons في كتاب شلومو برزنتس، 1970، ص 55-57).
هذا يعيدنا إلى أهميّة تحدّيات الوالدة الأرملة في نظر الابن حيث قال في الإهداء يخاطب والدته: "إلى روح والدتي الطّاهرة ... كانتْ أرضنا عاقرًا، صمّاء، من كفّك المعروقِ، صرختْ، ثم استكانتْ ولانتْ، فتفتَّقَ ريحانٌ، نعناعٌ، وياسمينٌ حتّى فاض على الطُّرقات. أمّي سطّرتْ فصولًا لا تُمحى أبدًا، من كفاحٍ عنيد مغموسٍ بالكدّ والكَبد" (م. س، ص 3).
الخوف عند الابن الراوي
رافق الخوفُ الابنَ-الراوي منذُ ولادته. ونتساءل هنا: هل كتابةُ الرّوايةِ حرّرتْ روحَ أمّه من داخله وأطلقتْها نحو عالم آخر؟ هل تحرّرتْ نفسه من الخوف؟ هل الكتابة كانت هروبًا من أحاسيس الخوف؟ كان الخوف مسيطرًا عليه منذ وفاة والده وبدأ عنده خوف آخرُ وأكثرُ صعوبةً وهو خوفه الشَّديد من وفاة والدته. "هل خلقها الله كي تخوضَ غمارَ تلك التحدّيات وما يصاحبها من خوف وحزن ووِحدة وألم إلى أن صارت صديقة للأمراض ورهينة للأدوية (ص، 54) من هنا بدأت تساؤلاته حول ماهية الحياة والموت ومخاوفه على فقدان والدته. "الموت كم استَنْزفَ تفكيري كي أعرفَ مكنوناتِه وخباياهُ، كم بحثتُ في النُّصوص الدِّينيّة وقرأت فصولًا كثيرةً في فلسفة الحياة والموت، لأعرفَ ماذا يخبّئ لبني البشر وهلِ الموتُ يعني حياةً أخرى لا نعرفها؟ هذه الأسئلة كانت تحطّ رحالها في مخيّلتي ووجداني دون استئذان"(ص 64-64).
هكذا تحوّلتْ هذه التساؤلات إلى كابوس رهيب يدل على مخاوفه من فقدان والدته: "استسلمتْ عيناي إلى سلطان النّومِ دون أيِّ اعتراض ... واستقرّ في مخيّلتي وكان هو الكابوس الفاقع، الواضح، المقيم في ذاكرتي لتلك اللّيلة" (ص 56). لم يفارقْهُ هذا الكابوس طيلةَ حياتهِ، فيقول: "ذات الكابوس لم يفارقني منذ طفولتي إلى أن بلغْتُ رُشدي وحتى يومنا هذا تساءلتُ كثيرًا لماذا يتردّد عليّ هذا الكابوس في منامي من فترة إلى أخرى؟ هل بسبب حادثة معينة تعَرَّضْتُ لها في الماضي ولم أعد أتذكرها؟ هل مَردُّ هذا الكابوس إلى تجربة عشتها سابقًا وقد أثَّرتْ عليّ كثيرًا ظلّت هذه الأسئلة تذرع رأسي إلى أن تفتّقت ثقافتي خلال تعليمي الجامعي وانكشفت على سياقات فكريّة، منها ما يتعلّقُ بعلم النَّفس أدركتُ حينها أنّ خوفًا شديداً أصابني في صغري وترك أثره عليّ إلى يومنا هذا، معَ تراجُع حدّة الخوف الكابوس ذاته أنا وأمّي وشقيقي محمود وباقي أفراد العائلة نسير تائهين في أرض مفتوحة واسعة أمي تبحث عن قرية لنلجأ إليها كنت ممسكًا بكفّها الأيمن ومحمود بكفّها الأيسر فجأة أفلتت أمي يدها من يدي واختفت وبقينا وحدنا ناديتُ بأعلى صوتي أجابتني سأعود يا حبيبي..." (ص 103).
إلى هنا طرحنا بشكل مختصر مصادر الخوف عند الابن-الراوي من أحداث الحياة، فكيف تصرّف وواجه مخاوفه وعلى من أو على ماذا اتكأ؟ وهل حقًا "في الخوف من الحياة حياةٌ"؟
مواجهة الخوف تحصل بعدَّة طرق: اللُّجوء إلى شخص نثق به ونعتبره مرجعًا لنا، الرِّياضة، السّفر، الاسترخاء، التأمُّل، التخيُّل، التّواجدُ في أماكنَ جميلة، الصّلاة وغيرها. كيف واجهَ الابنُ-الرّاوي مخاوفَه؟
الطّريقةْ الّتي استعملها بكثرة هي: اللُّجوءُ إلى شخص يثقُ به ويعتبره مرجعًا له، والدته فعندها وجد الحبّ والعطف والحنان والأمان التي يحتاجها كطفل يتيم، أمثلة:
"وعندما اشتدّت الطَرَقات قفزتُ تلقائيًا مذعورًا فوجدتُ نفسي متشبثًا بتلابيب أمي (ص 13).
"غرستُ أصابعي بطيات ثوبها كعادتي حين يعتريني الهلع والفزع" (ص 14).
"حمتنا من الخوف وطردت الهواجس من نفوسنا، كم كنت سعيدًا ... أولست آمنًا الأن! هكذا أقضي ليلتي مستسلمًا لنوم عميق" (ص 20) هذا الاسترخاء والرّاحة والطُّمأنينة حدث بفضل الأجواء التي تفعلها الوالدة.
حدثَ أن تجمّع بعض الناس وأنا "كنت أتطلّع صوبهم وأنا قابض على تلابيب والدتي بقوة خوفًا من هول ما اسمع، تنبهت والدتي لهذا الاجتماع الممنوع، لأنه يكسر قرار منع التجوّل فقد تخوّفت من تبعات ما سيحدث إذا ما تنبّه الجنود"(ص 31)
"انتفضتُ من فراشي، قلبي يخفق بشدّة وجبيني يتفصّد عرقًا. هذا الكابوس له أسبابه كما أفادني أحد لخبراء بعدما استجوبني خلال جلسة علاج ..." (ص 103).
"كانت تسعى لتبديد الخوف وتقصّ علينا إحدى الحكايات الجميلة البريئة مثل حكاية "الشاطر حسن" أو "أبو زيد الهلالي" هاتان القصّتان كانتا تنسيانني بعضًا مما أصابني أنا وتضخّ في نفسي قسطًا من قوة الإرادة والعزيمة" (ص 107).
التواجد في أماكن جميلة: "أريد أن أرى البحر، لي حاجة ملحّة في النظر إلى البحر، البحر الذي لم يتغيّر أبدًا، البحر ذاته باتساعه، مياهه، موجه وسفنه، لا أدري لمَ هذه الرغبة الفجائيّة في التوقف قبالة البحر! ... أصابني فرح الأطفال الصغار، يفرحني ويحزنني أيضًا خاصة مشهد الطيور المهاجرة يثير فيّ الوجد والحزن، شعور الفراق والوداع. سأركن مركبتي قليلًا جانب الشاطئ ... أغوص في شعور أجمل" (ص136)
اللّغة السرديّة
نحن أمام خطاب روائي مركب، استخدم الكاتب فيه أسلوب الراوي المتكلم العليم وأحيانًا المشاهد وأحيانًا أخرى الشريك الذي يستثمره الكاتب لطرح حكايته بكل أحداثها المركبة من سيرة والدته الأرملة وسيرته كطفل فقد والده مما أحدث تشابكًا بين السيرتين ووضعنا أمام رواية سيرة ذاتية وغيريّة معًا، وهكذا جعلت لغة السرد من الأحداث قصة درامية مثيرة وماتعة، مثل: "وعندما اشتدّت الطَرَقات قفّزتُ تلقائيًّا مذعورًا فوجدتُ نفسي متشبّثًا بتلابيب أمّي مثل قطّ مذعور. انتصب أشقّائي وشقيقاتي على أرجلهم جميعًا ولحقوا بأمّي (ص 13).
تميَّز الأسلوب السرديُّ في الرواية بنقلِ الأحداثِ بصورتِها الواقعيَّةِ مستعملًا اللغة المحكية، والتعابير السائدة في المجتمع الفلاحي، والأناشيد والأغنيات الشعبية، والحوار الداخليّ (المونولوغ) والخارجيّ، والاسترجاع (الفلاش باك) والوصف مما يؤدي إلى أثارة حيويَّةً الحكاية وواقعيتها وتشويق المتلقي فيشعر بأنها حقيقيّة وأنه رأى أو عاش الموقف الحاضر من قبل. يلازم هذه الظاهرة شعور بالمعرفة المسبقة وشعور ممّا يؤدي إلى توسيع آفاقِه وإدراكه للحالات المروية في المضمون السردي. امثلة من الرواية:
اللغة المحكية: "مين انتِ يَلّي بتنادي؟ مِين ع البوابة؟ مين انت" (ص 13).
"فوتُوا يَمّا، فوتُوا جُوّا، تعالوا، يا رب الطف ..." ص 35).
"محمد، محمد، أوم يمّا، ساعدني بدّي أروح عالحمّام" (ص 55). "أأله" لا خيا (ص 146) وغيرها. (أوم هي قوم تعني قُمْ وأأله هي أقول له. أشير إلى استعمال الهمزة بدل القاف في اللهجة المحكية في المنطقة).
تعابير سائدة: "بيت الخارج"، "الخيش" (ص 9) "السدة" (ص 10). "حَطِّتها" البيضاء" "الأوظة" (ص 13). "الحاكورة" (ص 15). "باب السرّ" (ص 94)."كِشْ" الجاجات، قارووط" (ص 96). بكان "قلة" أيام زمان (ص 146).
أناشيدُ وأغانٍ شعبيّة: هتافات سائد في جنازة الشهداء (ص 36-37):
"بالرُّوح بالدّم نفديك يا شهيد ... بالرُّوح بالدم نفديك يا جليل".
أهزوجة فيها من الوجد والاشتياق:
"صاح محمد العابد لفوق، وشامخة الذّرعان لفوق ...
أنا لصير طير وابني لك عريشة، وأطير بيك لسابع سما" (ص 91).
أهزوجة حزينة وبكائيّة ذاتيّة لها نغمة سائدة وأدخلت فيها الأمّ أسماء أولادها:
"يا مين يجيب الدّوا ويا مين يداويني،
علي يجيب الدّوا ومصطفى يداويني"
ومحمود يحُط الدّوا ع الجرح ومحمد يشفيني" (ص 175).
الحوار الداخليّ (المونولوج):
يلجأُ الراوي إلى الحوار الداخليّ (المونولوج) فحين تتحدّث الشّخصيّة مباشرة وتحاور جهرًا تكشف عن دواخلها وتُعَبِّر عن نفسها، فيه يكشفُ الكاتبُ عن مستوياتِ التأمّل والتّفكير والوعيِ وهو أسلوب تيّار الوعي. فيه تداعيات التّفكير والتأمّل، أمثلة:
"ألم يكن من المنطق أن يبحث له عن عروس أكبر، ولماذا استغلّ موافقة أبيها المضمونة كي يتزوّجها..." (ص53). "الموتُ كم استنزف تفكيري كي أعرف مكنوناته ... (ص64). "كم كانت تلك الجملةُ "والله إذا بتظَل تغلّبني لأرجعك عند إمّك، عند الشحادة" بسيطة وسهلة على لسان أمّي وكم كانت كارثيّة عليّ" واتّضح لي أنّها من أصول مجريّة ... (ص 105).
الحوار الخارجيّ
محادثة بين شخصين أو أكثر، فيه تواصلٌ معَ الشّخصيّات الأخرى. تعتمد الشّخصيّة عليه للحصول على أمر ما من الآخرين، أو الاستفسار أو التعرّف على الآخرين أو تقديم أنفسنا لهم أو طرح قضيّة للآخرين وفي الأساس، هو وسيلة التّفاعل بين الناس، يساعد الحوار الخارجيّ في العمل الأدبيّ المتلقّي على فهم أحداث القصّة وحبكتها والصّراعات المختلفة بين الشّخصيّات، أمثلة: "وانتِ وين رايح؟ سألتني بلهجة مستنكِرة مستفسرة"، "ولا على محل يا حاجة هيّاني معك بالأوظة، ارتاحت أكثر ..." (ص66).
"بدك تنامي يمّا أغطّيك؟"، "آه، اه يا حبيبي، آه" (ص 73)
الوالدة تخاطب جندي الاحتلال: "إطلع وإلّا بحطّه بنص راسك، إطلع"، يجيب الجندي "خلص، خلص، خلص، روق، إهدأ، قلتلك بالغلط ... (ص 75).
الاسترجاعِ (الفلاش باك) أو الاستحضار أو الاستذكار الزّمنيّ في الرّواية هو انقطاع التّسلسل الزّمنيّ أو المكانيّ للقصّة أو المسرحيّة أو الفيلم لاستحضار مشهد أو مشاهد ماضية، تلقي الضّوء على موقف من المواقف أو تعلّقُ عليه. تتّكئ الرّواية ُعلى التّلاعب الزّمني بين الاسترجاع (الماضي) والحاضر (الآن) فهما تُثيران في نفس المتلقّي المتعة والأنس كما تخلقان رؤيةً جديدةً للحوادث زادَ منَ التّشويقِ ومن متعةِ القارئ (بحراوي، 2016، ص 122).
يعلن الراوي صراحة في البداية (ص 7) إنه سيسرد روايته بأسلوب الاسترجاع اعتمادًا على ذاكرته ويقول "هذا ما حدث إن لم تخنّي ذاكرتي، وأنا لا أظنّ ذلك، بل أستحيلُه، لأنّ شدّةَ الأهوالِ وقساوةَ الأحوالِ حتمًا ستنتصرُ على النسيان واحتيالِ الزّمان، وعليه لن تحاول ذاكرتي الانزياحَ عن دقّة مضامينها أو الانفلات عن أشيائها، والذّاكرة هويّة صاحبها فلا ماضٍ ولا حاضرٍ له دونها" (ص. 7). يسرد الأحداث مع والدته الأرملة وأخوته وأقاربه وأهل بلده وجنود الاحتلال، منذ طفولته حتّى كتابة الرواية. يسترجع تفاصيل الأحداث كراوٍ عليم ومشاهد ومشارك بكلّ تفاصيلها الفكريّة والحسيّة والسلوكيّة.
الوصف: هو طريقة وصف الأحداث بطريقة تُسهّل على المتلقّي الحصول على المعلومات من الرّاوي، لذلك على الرّاوي تقديمُ وصفٍ دقيقٍ بطريقة تُسَهّل فهمَ واستيعاب المعلومات، وانتقاء كلماتٍ وصورَ جاذبةٍ ومؤثّرة ٍتصل إليه، وهذا يتطلّب معرفةً كبيرةً في الًلغةِ وقدرة ًعاليةً على سرد المعلومات بطريقة دقيقة ومؤثّرة، وامتلاكه الثقافة الكافية التي تمكّنه من وصف الأشياء كما يجب، إذ قلّما نجد نصًّا بدون وصف، وصف منظر، وصف شخصيّ، وصف مشاعر:
وصف دقيق للبيت وساحته لدرجة يشعر المتلّقي بعد القراءة كأنه شاهدَه ُبشريط مُصَوَّر أو كأنّه زارَهُ مرّة ً(ص 9-11).
وصف دقيق لفلاحة الأرض وزراعتها، بدايةً بتعزيل التُّربة وحرثها وزراعة الاشتال المختلفة وساعات العمل والتّعاون بين الجميع (ص 69-73).
وصف للاحتلال وجنوده وتصرّفاتهم السيّئة واعتداءاتهم على السكّان وعلى الأرض والمزروعات (ص 75-80).
وصف مقتل جابر وتعدّي جنود الاحتلال على المتظاهرين ووصف جنازته والأهازيج الّتي أنشدها السكّانُ في الجنازة (ص 22-28).
ملخّص
قمنا في هذه الدّراسة بمحاولة الوصول إلى ما بعد النصّ في الرّواية. وجدناها غنيّةً بالتّفاصيل والراوي مُشاهد ويسردُ بضمير المتكلِّم وشريكٌ هامٌّ في سلسلة الأحداث فهو جزء منها.
توصّلنا إلى أنّها رواية سيرة ذاتيّة وغيريّة معًا. هي رواية مثيرة يسترجع فيها الرّاوي ذكرياتِه بالتّفصيل. لغتها سهلة للمتلقّي وتجذبه للاستمرار في قراءتها خاصّةً باستثمار اللّهجة المحكيّة والتّعابير اليوميّة السّائدة ممّا جعلها واقعيّةً وتشعرُه بأنّه يشاهد الأحداث وكأنّه كان حاضرًا ساعةَ حدوثها، وبأسلوب السّرد العاديّ والحوار الداخليّ (المونولوج) والخارجيّ.
في تحليل موتيف الخوف اعتمدنا على نظريّات في علم النّفس العامّ والاجتماعيّ ممّا ساعدنا في فهم أعمق للأحداث.
**
محمد بكرية مواليد 1968، مدينة عرابة البطوف، الجليل. خريج الجامعة العبرية سنة 1996 بتخصص لغة عربية وأدب المسرح. إعلامي وإذاعي منذ 26 سنة. له سبعة إصدارات لمجموعات شعريّة ورواية "ارملة من الجليل"؟ حاز على جائزة بستان للإبداع من قبل المكتبة الوطنيّة وجائزة وزارة الثقافة للشعر.
المصادر
بحراوي، حسن. (2016). بنية الشكل الروائي. المركز الثقافي العربي. بيروت.
بدارنة، علي. (2019). في الخوف من الحياة حياة. مكتبة كل شيء-حيفا.
بربارة، راوية. (22.8.2024). سُلطة الراوي الفاعلة على النصّ. قراءة في "أرملة من الجليل". موقع "همسة لتنمية المرأة والطفل". https://hamsaat.co/archives/218464
برزنتس، شلومو. (1970). علم النفس الاجتماعي. منشورات عام عوبيد. تل ابيب. بالعبريةّ.
بكرية، محمد. (2024). أرملة من الجليل. رواية. إصدار دار يافا للنشر والتوزيع. عمان.
بكرية، محمد. (2022). شتاء الغريب. قصائد وقصص ونثريات. إصدار دار الحديث. عسفيا.
بكرية، محمد. (2019). لا تسافر أيها الحلم. شعر إصدار دار يافا للنشر والتوزيع. عمان.
بكرية، محمد. (2018). على صِراطٍ من الوهمِ. شعر. إصدار دار الحديث. عسفيا.
بكرية، محمد. (2016). روحٌ محمولةٌ على الريح. شعر. إصدار مكتبة كل شيء. حيفا.
بكرية، محمد. (2015). على المَقْعَدِ المُهترئ. شعر. إصدار دار الهدى للنشر-كريم كفر قرع.
عبيد الله، محمد. (2020). رواية السيرة الغيريّة. قضايا الشكل، والتناص، وجدل التاريخي والتخييلي. دار كتارا للنشر، قطر. الدوحة.
طنوس نبيل وراوية بربارة. (2024). قصيدة يأس الّليلك لمحمود درويش. في "اقتفاء أثر الفراشة". دراسات في شعر محمود درويش-نبيل طنوس. الرعاة رام الله وجسور عمان.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency