الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 08 / مايو 20:01

ضاعت العلاقة واندثرت العواطف- بقلم: عودة بشارات

كل العرب
نُشر: 12/09/09 12:00,  حُتلن: 12:01

* هل من سيصرّ على ارتداء ثوب اللغة العربية الجميل، سيعتزل في كهف، ليمارس سرًا كتابة العربية، فتصبح لدينا لغتان، لغة العصر المكتسحة، السريعة والعملية، ولغة الأمس، اللغة البطيئة المتأملة، 

 كل يوم ينتج عن الإنترنت من الكلمات والمقالات كمٌ يفوق آلاف السنوات ضوئية عما أنتجته الإنسانية خلال القرن التاسع عشر. وكل فتى حتى السابعة عشرة من عمره مكشوف على مواد تعليمية، علمية وثقافية وفنية، أكثر بمئات الأضعاف مما كان مكشوفًا عليه ابن خلدون العظيم.
لا حاجة للعودة عشرة آلاف سنة للوراء حين كان القلم عبارة عن إزميل لا يتماثل للعمل بدون خبط شاكوش عظيم الوزن عليه، يكفي أن نرجع الوراء ثلاثين سنة، ونحن نشهد رفاقنا في مطبعة "الاتحاد" يرتبون الأحرف الرصاصية في ملازم حديدية متقنة الصنع، وتقوم آلة ألمانية عجيبة بتمرير الصفحات البيضاء عليها فتطل علينا صحيفة طازجة يسكرنا شذاها وهي خارجة مزهوة، بقامتها الشاهقة، من المطبعة.
وعلى هذا الدرب الطويل ماتت الرومانطيقيّة؛ تضع اليوم قصاصة جريدة لتراجعها في اليوم التالي، ولكن هيهات. في اليوم التالي بالكاد تجد متسعًا من الوقت لقراءة ما أنتجه هذا اليوم. "اللي فات مات". اندثرت العواطف وضاعت العلاقة.
وكان والدي، رحمه الله، يحمل في "جزدانه" مقطوعات صحفية قديمة، عمرها عشرات السنين، يحافظ عليها محافظته على أشياء ثمينة؛ قصيدة من هنا، مقولة من هناك، خبر هام أو مكتوب عرس. ومثله كان كبار السن يحفظون، في صناديقهم القديمة، أوراقًا عمرها عشرات السنين، فحتى رائحة الورق كانت تثير فيهم العواطف. وأكثر من علاقة عاطفية جمعت بين الناس وبين الورق المطبوع. وكان هنالك ممن لا يستطيعون الكتابة سوى بنوع حبر معين ذي شذا خاص به. ضاعت رومانطيقية الكتابة؛ لا توجد قصاصة ورق حميمة تراجعها من حين لآخر كما تقلب صورة عزيز عليك كلما عصف بك الحنين.
وإذا كان هنالك ما يعزينا، فهكذا الحال في كل شيء. في أول مناسبة يتوعك فيها جهاز التلفزيون، يطالب أهل البيت بتغييره، لإحضار جهاز أحدث. إذا كبوت "راحت عليك". ضاعت العلاقة بين المُنتج والمنتوج، بين البضاعة ومستهلكها، ضاعت العلاقة وغابت الإلفة وصرنا غرباء؛ أين هي سيارة زمان؟ كان صاحبها يعرف أحاسيس كل برغي فيها. كان يقضي مع سيارته، في تنظيفها وتحسس آلامها، أكثر مما يقضي مع زوجته. كان هنالك من يعشق صوت المحرك، وفي صندوق السيارة الخلفي قبع كراج متنقل، لأن السيارة قد تحرّن في كل لحظة. كل شوفير كان ميكانيكي خبير. اليوم، لا يعرف صاحب السيارة، كيف يفتح غطاءها. وقبل الخلل الأول يكون قد شرع بمخططاته التآمرية للتخلص منها بانتظار السيارة التالية.
وهكذا الكتابة، ففي خضم هذا البحر من الإنتاج، سقطت هيبتها. مخطوطات القدماء، وجدت مداها الحقيقي من التأثير، بعد عشرات السنين من تدوينها. اليوم، تكتب هذه اللحظة، بعد دقيقة تكون مقروءاً، هذا إذا كلف أحدهم خاطره وقرأ، بعد ثلاث دقائق تصبح نسياً منسيا.
على هذا الطريق ماتت الرومانطيقية.. كان المقال يحمل كامل الهيبة، وكان الرفاق يحدثونا، باعتزاز مشوب بالرهبة، عن كتابة افتتاحية "البرافدا"، الصحيفة الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفييتي، حين دأب العشرات على مراجعتها، وعشرات الأعين تقوم بفحصها لئلا تكون كلمة في المقال قد حادت مليمتر واحد عن السطر.
وفي هذا الخضم المرعب، ننظر إلى المرآة فلا نتعرف على وجوهنا.
هل وصلك في السنة الأخيرة رسالة نصية قصيرة عبر الخليوي- "إس. إم. إس". اقرأ، إذا كان بإمكانك القراءة. الأحرف إنجليزية والنص ليس بإنجليزي، وأما العربية فيها فمبتكرة، الأرقام حلت مكان الأحرف غير الموجودة بالأبجدية الانجليزية. وفيما بعد، ربما، سيتم وضع الختم الرسمي على هذا الإبداع، إدخال أحرف عربية إلى الأبجدية الانجليزية، لتستوعب لغتنا العربية الجميلة. ندخل بحماس وطواعية في محمية اللغات اللاتينية.. وعلى "النحو الواضح" السلام. أما الفاعل وظرف الزمان وأحكام إن، فستصبح من الأثريات التي سيتم التنقيب عنها في الكهوف.
وهنا بالضبط سيحدث هذا الانقطاع وستحدث هذه الغربة. فكيف لهذا الذي يكتب بسرعة الضوء أن يعبر عن لواعج قلبه، كيف سيقتبس بيت شعر لحبيبته؟ كيف سيكتب لها: "نقل فؤادك حيث شئت من الهوى، ما الحب إلا للحبيب الأول"، إذا كان من الصعب كتابتها بأحرف عربية، فكيف الحال مع أحرف انجليزية، حيث العين تتجسد برقم 3 وحرف الحاء برقم 7؟ كيف سيكتب للقوم وقد استبدت به الحمية: "الخيل والليل والبيداء تعرفني"؟ قد تكون اللغة الجديدة سريعة، وربما تلائم الحاسوب، ولكنها فقيرة وباهتة وقاسية، مثل مكابس آلة فولاذ ضخمة، لا مكان فيها للعواطف ولا للتاريخ ولا للحضارة.
وهل من سيصرّ على ارتداء ثوب اللغة العربية الجميل، سيعتزل في كهف، ليمارس سرًا كتابة العربية، فتصبح لدينا لغتان، لغة العصر المكتسحة، السريعة والعملية، ولغة الأمس، اللغة البطيئة المتأملة، لغة مجنون ليلى والمعلقات السبع.
ويتم كل ذلك بسرعة، بدون قرارات، بدون نقاش.. تذوب اللغة العربة بفعل أيدينا. وفي التاريخ هنالك أمثلة، حين تحولت أبجدية اللغة التركية، في بداية القرن الماضي، من العربية إلى اللاتينية، فهل سنسلم مفرداتنا وأبجديتنا الجميلة، على طبق من ياقوت للاتينية.
وهكذا، ونعود للمقدمة، فبالرغم من هذا الكم الهائل من المعلومات المتاحة لنا، لم يطلع عندنا، لا ابن رشد جديد ولا متنبي جديد ولا أبو علاء جديد. وما دمنا لا نعتز بلغتنا ولا نطورها لتواجه المتغيرات، فسنبقى نبكي على الأطلال المبتعدة رويدًا رويدًا عنا، وبالذات المبتعدة عن الأجيال الصاعدة.
فقط عندما سنزرع في نفوس أطفالنا، قبل كل شيء، الاعتزاز بتراثهم وبلغتهم، وبتشجيعهم على تطوير هذه اللغة، لتشمل متطلبات الحياة الجديدة، فسيعكس الأمر نفسه على كل مناحي الحياة، آنذاك سيخرج من بين صفوفنا، أكثر من ابن خلدون واحد، وأكثر من ابن رشد واحد، وتعم الإلفة بيننا وبين لغتنا.
 

مقالات متعلقة