للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
درويش عاشق من فلسطين التي كانوا يحاولون إخفاء جثتها العنيدة
بيروت كانت حبيبة ظالمة ومظلومة. احتضنتنا حتى صار بحرها طلقتنا الأخيرة. ربما أكلنا من تفاحها فلم تتأخر العقوبة. ولكني ظللت أشاهدك، لأنك تجاوزت حدود العواصم
عندما ضمنا حضن حيفا معا لأول مرة كانت النكبة قد غرست سكينها في جسدنا الجماعي منذ ما يزيد على عقد. كانت تلك أول مرة أقابل فيها إنسانا شابا لا يخشى الحاكم العسكري ولا يخاف من سجانيه، فيعلن بصوت صاف كصباح صيف جليلي أن اسم فلسطين يستحق الحياة على هذه الأرض. كنت قد أعلنت للدنيا أنك عاشق من فلسطين التي كانوا يحاولون إخفاء جثتها العنيدة، ورسمت بأزهى الألوان الأصيلة خارطة التواصل العضوي بين الأرض والجسد الفلسطيني وبين العيون الكرملية وأوراق الزيتون. كنت قد أطلقت صيحتك المدوية، التي ما زالت تنمو في حناجر أطفال لم تلدهم أمهاتهم بعد: سجل أنا عربي!
كانت تلك السنوات القليلة، التي عشناها يوما على صدر يوم في ظلال الكرمل، حافلة بالأصدقاء من حيفا والمثلث والجليل. وكانت حافلة بالفرح الممزوج بالحزن والألم الممزوج بالأمل. وكان أكثر الأيام إثارة، عندما كنت تهمس في أذن أحدنا أن قصيدة جديدة قد ولدت. كان الخبر ينتشر بيننا كالنار في الهشيم المجفف بأشعة الشمس، وكرائحة الخبز قرب فرن في زقاق المدينة. وما هي إلا ساعات حتى نجد أنفسنا في بيت أحدنا، أو في المقهى، لتقرأ علينا القصيدة الجديدة. وفي كل مرة، كنا نكتشف أنك لم تكن تقرأ، بل كنت في غيبوبة القراءة، وأننا لم نكن نستمع، بل كنا في غيبوبة الاستماع. ولم يكن وقت القراءة كافيا لاستيعاب كل ما في عالم القصيدة الحافل بأبهى الصور، والزاخر بأسمى المشاعر والمعاني، وبتلك الموسيقى الشعرية الفريدة في روعتها. كنا نصمت بعد ذلك، وكنت تقرأ على وجوهنا أن القصيدة يجب أن تنشر، وأن تنشر سريعا في "الاتحاد" اليومية لأننا لن نقوى على انتظار "الجديد" الشهرية، إلا إذا كان موعد صدورها قد حان. كانت الكلمات تظل تتردد في أذهاننا وتسري في عروقنا حتى تنشر بعد يوم أو يومين، ونقرأها ونعيد قراءتها ونلمس نبض كلماتها بأصابعنا. كنا نذهب بعيدا في دمك. ونكتشف أن البلاد تقمصتك، وأنك تقمصتنا، فصرت ناطقا لقطرات الدم في عروقنا.
قرار الدولة بطردنا من مهنة التدريس
في كل مرة، كنت تهدينا أجمل وأغلى هدية يهديها إنسان لإنسان. كنا نشعر بالكرامة. كنا نمشي في الشوارع مرفوعي الهامات، ونعمل بكرامة، ونمرح بكرامة، ونستمع إلى أم كلثوم يوم الخميس بكرامة. وكانت الكرامة تعطينا القوة للصعود على سلالم المدينة من الميناء، حيث يغسل الكرمل أقدامه، إلى بيتك المحمول على خاصرة الكرمل. لم نتعب أبدا، فلا يتعب من يصعد السلالم وهو يردد: والفاتحون على سطوح منازلي/ لم يفتحوا إلا وعود زلازلي!
أذكر عندما سألتك مرة، وكنا وحيدين في بيتك، لماذا تكتب سرا ولا ندري عن القصيدة إلا عندما تكون جاهزة للنشر؟ فهمت من إجابتك لماذا تحتاج إلى الوحدة أحيانا مع أنك أحببت أن تكون في حضرة الأصدقاء. فهمت المخاض العسير لولادة القصيدة. قلت أنك لا تستطيع أن تكون بصحبة الأخرين عندما تكتب، لأنك تبكي وأنت تكتب، وأن الألم يستبد بك لدرجة أن ما يقع على الورق هو مزيج من الحبر والدموع. كنت تترك مكانا للعصافير التي تبحث عن القمح في يديك، والفراشات التي يمتصها النور في عينيك. تأكدت يومها، أنك تكتب بماء القلب والعينين. وفهمت بعد ذلك أن هذا ما جعلك تملأ القلوب والعيون على هذه الأرض، وعلى كل أرض.
كما هي عادة هذه الأرض المروية بدموع الفراق، كان لا بد لحبل الوصل أن ينقطع. أذكر آخر مرة التقينا في حيفا. كان ذلك في بيتك في شارع عباس، حيث حضرنا، صديقنا الشاعر سميح القاسم وأنا، وكنت في استقبال الصديق الشاعر راشد حسين، الذي جاء من المثلث مودعا بعد أن ناداه جرس عبر المحيط. قلنا لكما جئنا نحتفل بمناسبة استلام قرار الدولة بطردنا من مهنة التدريس لدواع "تربوية". كما تذكر،كنا، سميح وأنا، قد عملنا في نفس المدرسة الكرملية، ولكنهم اكتشفوا بعد سنوات أننا لم نكن مؤهلين للوظيفة، لا لشيء سوى مصلحة التربية لأولادنا وبناتنا! واحتفلت معنا حقا، لأنك طالما سخرت من بدلاتنا وربطات العنق وكل قيود الوظيفة الأخرى. لقد فرحت معنا بحريتنا الجديدة وبكرامة التحدي.
حلمنا أن نصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين
لم يمض وقت طويل حتى اكتشفت أن تلك العقوبة كانت لها عواقب أخرى. كان لا بد من الرحيل عن حيفا. وكان لا بد من فراق الأصدقاء. ثم امتصك جرس في صوفيا، وامتصني جرس في نيويورك. ومر عام على أكتاف عام، إلى أن تراكمت الأعوام في عقد من الزمان، والتقينا مرة أخرى، هذه المرة في حضن بيروت. ذلك الحضن الحنون كخدود الورد، والقاسي كشوك الصبار. وجدتك كما أنت دائما، حساسا إلى حد التفاعل مع هموم الفراشة، رقيقا إلى حد الاحتماء بقشرة شفافة من الصلابة، وقارئا دؤوبا تسعى إلى تلمس كل بعد من أبعاد التجربة الإنسانية العالمية. كان بعض الشرود والصمت ما زال يتخلل المناقشات. ففي غياب الوطن البسيط، وفي ظل انفجار البنفسج في القذيفة، لا بد من الهرب لحظة إلى مرج السنابل أو لإلقاء نظرة على النجم المحمول على برتقالة.
في بيروت شاهدت كيف تطورت رحلتك الشعرية إلى أن تجاوزت حدود المكان والزمان واللغة. شاهدت كيف أصبحت عنوانا مضيئا لقضية الإنسان، فتحولت فلسطين من خلالك إلى قضية عالمية. كنت ما زلت تنتمي لسمائك الأولى وللفقراء في كل الأزقة، وما زلت تمر فوق أفئدة الملايين الأسيرة، وما زال جلدك عباءة كل فلاح سيأتي من حقول التبغ كي يلغي العواصم. كنت تشكو ممن يريدونك أن تكتب لحدث ما، أو أن تقرأ ما كتبت قديما وكأنهم لم يلاحظوا المسافة التي قطعها النهر بعيدا عن المنابع، ومدى العمق الذي امتدت إليه الجذور. ولكن حيفا ظلت معك وظلت رائحة الزعتر الفلسطيني تلاحقك حتى تل الزعتر.
وفي بيروت، بينما حلمت وحلمنا معك بالوطن البسيط، وبين أزيز الرصاص ودوي المدافع، جلسنا أحيانا لنلعب النرد ولنستمع إلى آخر الأخبار عن آخر وقف لإطلاق النار. شاهدت معك كيف مشت الخيول على العصافير الصغيرة. وخلال ذلك كله، حلمنا أن نصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين. وكنت أحلم بالوطن البسيط عندما رماني بحر بيروت بالحقيبة وأعادني إلى شواطئ نيويورك الصاخبة. وكلما التفت إلى الوراء وجدت بيروت، ورأيتك تصعد من شظايا أدمنت جسدك. رأيتك تصعد من هواء البحر كي ترى حيفا. بقيت في بيروت العشيقة المعذبة. بقيت تحلم وتنتظر ما بات أمرا مألوفا: كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة. وبقيت في بيروت حتى جاء التتار من جديد.
لم ترحل وستبقى معنا
كانت بيروت حبيبة ظالمة ومظلومة. احتضنتنا حتى صار بحرها طلقتنا الأخيرة. ربما أكلنا من تفاحها فلم تتأخر العقوبة. ولكني ظللت أشاهدك، لأنك تجاوزت حدود العواصم فسكنت في كل العواصم. ظللت أراك كما رأيتك دائما تصعد نحو السماء، ليس لأنها غايتك، بل لكي تصعد منها إلى أعلى. كنت أراك تحاصر الموت حتى صرت عصيا عليه. إنك لم ترحل وستبقى معنا وللأجيال القادمة التي ستجدك في الأزقة والمزارع، وفي المدارس والمصانع، وستجدك على كل صخرة صلى عليها والد لتصون ثائرا.
في حيفا، بعد غياب طويل، عدت إلى شارع عباس حيث يلتقي بالجادة العريضة الممتدة إلى أسفل من بوابة حديقة البهائيين، وكأنها ذراع يمدها الكرمل ليصافح البحر. وفي جانبي الجادة مطاعم ومقاهي عربية تعج بالرواد من كل مكان، وقد أطلقوا عليها إسم: بيروت حيفا. سألت أحد الرواد على المائدة المجاورة: هل ذلك الشارع هو شارع عباس؟ قال نعم. سألته: وهل تعرف بيت محمود درويش؟ قال: في كل بيت.
قلت لي مرة في بيروت، أنك إذا وجدت اسمي في قائمة قتلى الرصاص الطائش في جريدة الصباح، فإنك لا تعدني برثائي، ولكنك قد تذرف دمعة أو دمعتين. وأنا اليوم لا أرثيك ولا أبكيك، لأنك ما زلت سلم الكرمل، وما زلت حيا في جروح التين والزيتون. لكنني لا أخفي عليك أنني لا زلت أبكي كلما تصورتك تبكي وحيدا وتخفي عنا دموعك السرية في كل مخاض لكل قصيدة جديدة.
أخي محمود، لن يسرقوك من الأبد. فأنت البلاد، وقد أتت إليك، وتقمصتك. وأنت الذهاب المستمر إلى البلاد. قصيدتك لا تنتهي. فستظل تتجدد كما تتجدد أزهار اللوز ومثلما تتجدد مواسم القمح والزيتون والبرتقال. سيقرأها الأحفاد جيلا بعد جيل، وسيعثروا في رحمها على قصائدك الجديدة. ألم يقل كنفوشيوس قبل الفين وخمسمائة عام أن الكلمات تبقى على مدار العصور المتغيرة ولكن معانيها وأبعادها تتجدد مع تجدد العصور؟