الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 20 / سبتمبر 06:01

قصة:وأنا ابن شهيد..من أجمل حكايا موقع العرب

كل العرب
نُشر: 04/02/11 12:43,  حُتلن: 08:04

بعد أن ودَّعت عمي، عدتُ إلى باحة الدارِ. كان صديقي عيسى جالساً إلى مقعدٍ خشبي قديمٍ، يرسُم منظراً طبيعياً. راقبتُه طويلاًُ، حتَّى كَفَّ عن الرسمِ. نظرَ إليَّ كأنَّه يسألني عن رأيي باللوحة. وحين قرأ إعجابي بلوحته اطمأن. قال لي: (انظرْ ـ وأشارَ إلى اللوحة ـ إلى هذا المرجِ الأخضرِ الذي تحيطُهُ الأشجارُ. سأرسُمُ طفلين ـ أنا وأنتَ ـ يلعبانِ... فجأةً تخترقُ الدباباتُ الصهيونيةُ المرجَ، تحرقُ وتدمرُ ما حولها فماذا نَفْعلُ، أنا وأنت؟) قلتُ بحماسةٍ ودون تردُّدٍ: (سنقاتلُ). نظرْنا فإذا بالأستاذِ ماجد يقفُ إلى جانبنا منْ غيرِ أنْ نشعرَ. نهضنا احتراماً، لكنَّهُ سلَّمَ علينا كما يسلمُ الآباءُ على أبنائهم. جلسَ معنا ودَعانا إلى الجلوسِ. قالَ كمنْ يعتذِرُ: (لا تستغربا... فأنا أزورُ الدارَ كثيراً.. وأحياناً عندما تكونون نياماً) سألته: (وماذا تفعلُ يا أستاذُ؟) شعرتُ أنني أوجِّهُ سؤالاً خشناً قاسياً لرجلٍ نرى فيه أمَّاً وأباً وصديقاً.
 

صورة توضيحية

تمنيتُ أنْ لا يجيبَ عن هذا السؤالِ الذي يفتقرُ إلى الأدبِ واللَّباقَةِ... أخذَ الأستاذُ ماجد يحكُّ رأسَهُ بسبابته وينظرُ إلينا وعيناهُ تَنْضَحان ودّاً غزيراً وهو يبْحَثُ عنْ جوابٍ مناسبٍ مقنع، ثم قالَ ببساطةٍ: (هذا بيتي أيضاً. ألا تعرفون أنني أنا أيضاً ابن شهيدٍ؟؟ ونحنُ إخوةٌ.. لكنَّني الآنَ بمقامِ والدِكم)... ثم أشارَ الأستاذُ إلى ساقِهِ: (في هذه الساق أربعُ رصاصاتٍ وفي هذه الساق رصاصتان، وهنا ـ وأشارَ إلى خاصرته اليمنى ـ دخلتْ رصاصتان وخرجتا. أربع مرات كدتُ ألتحقُ بموكبِ الشهداءِ. لكنْ لمْ تُكْتَبُ لي الشهادةُ لأتعرَّفَ إليكم...) ثم صَمَتَ برهةً وهو ينظرُ إلينا وقال: (... في النهاية.. كلُّنا شهداءٌ حتَّى نحققَ النصرَ الكامِلَ...) ... صمتَ وهو يحدِّقُ إلينا ثم قالَ بفخرٍ: (أكرَمَنا اللهُ بالشهادة... وكلُّ منْ يقاتلُ في سبيلِ الحقِّ ـ هو شهيدٌ)... ثم تناولَ الأستاذُ ماجد اللوحةَ منْ يدِ عيسى وراحَ يتأملُها. شعرتُ أنَّهُ دخل َإلى عالم اللوحةِ التي رسمَها عيسى.. واختفى بين أشجارِها وظهرَ ثانيةً يتجوَّلُ من مكان إلى آخرَ. تنهَّدَ بعمْقٍ وقالَ: (كنّا نعيشُ في قريةٍ خضراءَ كأنَّها جنَّةٌ من جنان الله... أذكرُ أنِّي كنتُ مع جدي (لأمي) وأبي نقطِفُ الرمَّانَ من بستاننا. كان جدي وأبي يقطفانِ الرمانَ وأنا ألعبُ مع خروفٍ أبيضَ كان ينطحني ويرميني أرضاً... ثم يدورُ حولي كأنَّهُ يدعوني إلى منازلته.. فأحملُ عوداً وأطارده.. يبتعدُ عني وينظرُ إلي كأنَّهُ يتحداني أن ألحقَ به. وكانتْ أمُّه النعجةُ تثغو بين الفينةِ والأخرى كأنَّها كانتْ تُحَذِّرُهُ من إيذائي. وعندما كان يتعبُ، يستلقي في الظلِّ... فأقتربُ منه وأستلقي إلى جانبه وأضعُ رأسي على ظهرِه الصوفي الناعمِ... نغفو معاً... وكنَّا نحلمُ معاً... ونلعبُ في الأحلامِ معاً، ونمضي إلى أماكنَ بعيدة... كلَّ يوم نزورُ مكاناً جديداً. كنتُ أتصورُ أني سأعيشُ عمري كلَّهُ مع خروفي وأمِّهِ التي ستلدُ لنا خرفانا ًكثيرة، فيصبحُ لدينا قطيعٌ كبيرٌ من الخرفان.. أرعاها وأدورُ بها من مرجٍ إلى مرجٍ، ومن جدولٍ إلى جدول.

كان أبي دائمَ الاستماعِ للمذياع. وذاتَ يومٍ بينما كنَّا نستعدُ لتناولِ الغداء ونحنُ في البستان، التصَقَ والدي بالمذياع وطالَ استماعُه. كنتُ أراقبُ وجههُ وعينيهِ وكأنَّهما غيومٌ في وجهِ رياحٍ عاصفةٍ.. ثم نهضَ أبي وراحَ يرقصُ ويهتفُ: (الله أكبرُ! يا الله يا الله! النصر! يا الله.. النصر!) ثم اقتربَ منِّي وهزَّني بعنف: (الحربُ.... قامتْ الحربُ يا ماجدُ.... لقدْ هبَّ العربُ لاستعادة حقوقِهم من الصهاينةِ الأشرارِ....) استيقظتُ في الصباحِ ولمْ أجدْ والدي.... ومضيتُ إلى البستان مع جدِّي... لا أدري، لماذا لم أسألْ عن أبي. كنتُ أنظرُ إلى عيني جدِّي وأراقبُ حركاته وأنا أتساءل: أين هو والدي الآنَ؟؟. لمْ يعدْ جدي ينامُ باكراً كعادته بعدَ صلاة العشاء. كان يشربُ الشايَ ويستمعُ إلى المذياعِ مع والدتي... وكانت أشدَّنا فرحاً، رغم غيابِ أبي. عرفتُ بعد ذلك أن أبي يحاربُ الصهاينة... في الجبهةِ. وكانتْ أمي ترافقنا أحياناً إلى البستان وهي تحمل أخي الرضيع، تَضَعُهُ تحت ظلِّ شجرةٍ، لتساعدَ جدِّي في أعمالِ البستان. لم أعدْ ألعب مع خروفي إلا نادراً (وحتى الآن عندما أرى خروفاً صغيراً، أطيرُ فرحاً، لكنَّ قلبي يذوبُ حزناً وأسى) كان جدي يزدادُ حيويَةً ونشاطاً، يوماً بعد يومٍ وهو يستمعُ إلى المذياعِ ويحمدُ الله بصوتٍ عالٍ كمنْ كان يبشِّرِني بانتصاراتِ العربِ في الحربِ على الصهاينة الأشرار. لمْ يتجاوزْ عمري في تلك الأيامِ ست سنوات. لم يعدْ والدي من الحرب. ومع بداية العامِ الدراسي جاءَ بي جدي إلى هذه المدرسة. كنتُ أدرسُ في الشتاءِ وأسافرُ في الصيفِ أساعدُ جدي وأمي في أعمالِ البستان.... وعرفتُ بعد مدة أنَّ والدي كان من شهداء حرب تشرين التحريرية التي حقَّقَ فيها العرب انتصارات عظيمة على الصهاينة الأشرار. نظر الأستاذُ ماجد إلى ساعته.. ثم هبَّ واقفاً معتذراً:
ـ حان وقت عشائكم... سنلتقي غداً للحديثِ عن حربِ تشرين التحريرية التي هزَّتْ الكيانَ الصهيوني وكادتْ تُحَقِّقُ النصرَ الأكبَرَ للعربِ.. لولا.....
ثمَّ تَنَهَّدَ بألمٍ وأسى مودعاً دون أن يكمِلَ جملتَهُ الأخيرةَ.

مقالات متعلقة