الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 23 / نوفمبر 12:01

قصة مقهى الرحمة/بقلم: نعمان عبد القادر

كل العرب
نُشر: 24/03/13 18:09,  حُتلن: 07:40

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

نعمان عبد القادر يكتبر عبر صفحات منبر العرب قصة قصيرة بعنوان مقهى الرحمة

اليوم تجاوز الثامنة عشرة من عمره.. مرحلة الثانويّة أصبحت من خلفه. إحساسه كمن يخرج من سجنٍ لا يعرف إلى أين يتجه منه ولا يعرف أحدًا في الدّنيا العريضة، هو بمثابة تحدٍّ للصعاب التي سيواجهها في طريق يجهل تضاريسها. لكن حين يسأله أحدهم في مثل هذا الجيل سؤالاً منكرًا ، وفي استغرابٍ دراميٍّ، وكأنه لا يعرفه، يخمد بركانه ويتلاشى ثورانه، وهو مكان لإثارة النفس.. أبناء جيله من اليهود يستدعونهم للانخراط في الجيش مدّة ثلاث سنوات متتاليات، أمّا هو فيسأله الآن عن عمره ومكان سكنه وكأنه لا يدري.

من أين حضرتكم؟ قال له باشمئزاز: من بلدتكم.. صاح في دهشةٍ: أحقًا أنت من بلدتنا؟ لماذا لا نعرفك؟ ألا تجلس في المقهى؟ ألا ترتاد المقاهي؟.. قال له بصوتٍ مرتفعٍ: عن أي مقهى تتحدث يا سيدي؟ أنا لست من رواد المقاهي، وماذا يوجد في المقهى.
ساءه سؤاله وراح يتلمس سبلاً للبحث عن طريقةٍ ليكتشف فيها نفسه المجهولة في عالم المقاهي.


دخول مقهى مزدحمٍ أول مرّة ليس سهلاً إلى هذا الحدّ إذ يحسّ الإنسان ساعتها بالغربة وكأن كلّ عيون زبائنها مسلّطة أضواؤها عليه مرحّبةً بالزائر الجديد. مع زميل له دخل حالاً إلى المقهى مسائي يوم الأربعاء، لكنّه ظلّ يسبر أغواره وأغوار نفسه كلّما دخل زبون جديد وكأنه يريد أن يقول له: " أهلاً بك في المقهى يا عبد الله.. صرت الآن واحدًا منّا، أصبحتَ رجلاً وأي رجل".
 

إحساسه كأنه عضوٌ غريب في جسد مريضٍ لم يتوقع الأطباء أن يلفظه بعد عمليّةٍ جراحيّةٍ معقّدةٍ، ولا يصلح أن يلتئم مع جسم المقهى، لم يمنعه من البقاء مع زميله هناك. طلب له صاحبه كأسًا من القهوة التركيّة ثمّ شعر بالاطمئنان مع الألقاب التي تبادلها الزبائن المنهكة نفوسهم مع بعض الصراخ في ثنايا انشغالهم بلعبهم الورق. هذه أول مرّة يسمع مثل هذه الألقاب النّابية اللامتناهية: "يا أبا ندبة، يا أبا سلول، يا أجرب، يا صاحب الأنف الكبير، يا أعور..
تناول جريدة "يديعوت أحرونوت" العبرية التي كانت ملقاة على المنضدة القريبة والتي تجعّدت أطرافها ونُهشت زواياها كأن المئات من الأيادي قد لمستها منذ وصولها في ساعات الصباح، كي يشغل نفسه بتصفحها. قرأ العنوان التالي: الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" في إسرائيل لأول مرة". تذكّر خطابه ليلة أمس وحديثه الذي ينحو منحى أكثر انحيازًا كغيره ممن سبقوه، وكيف قاطعه أحد الطلاب الجامعيين العرب، واقتياده خارج القاعة بعد تقييده ومن ثمّ إطلاق سراحه. لازمه اضطراب غريب وحاول رسم صورة يقارن فيها بينه وبين "مارتن لوثر كينغ" لكنّه تذكّر البيان الذي أصدره مركز "عدالة" قبل أيّامٍ والذي يكشف فيه عن سنّ أكثر من ستين قانونًا عنصريًّا ضد فلسطينيي 48..
تحرّره من غفلته وأحساسه بانتعاشٍ في جسمه تزامن مع انضمام شابٍّ طويل يُدعى "عماد" يكبره بخمسة أعوام إلى جلستهم، تدلّ نوعيّة ملابسه على أنه ينتقي شراءها بدقّة من الماركات العالميّة الشهيرة، ويلتحي بلحيةٍ تشبه لحية تشي جيفارا إلى حد ما، راح يسرد تجربته مع فتاة أجنبيّة تدعى "ﭬيريد"، تعرّف عليها أثناء عمله في تشييد بيتٍ مجاورٍ لبيتها في مدينة "ريشون لتصيون"، وكيف استدعته إلى بيتها بعد خروج زوجها إلى العمل تطلب منه إصلاح حنفيّة في مطبخها يسيل منها الماء بالرغم من إحكام إغلاقها. كانت معها هذه البداية حيث استطاع مطارحتها أكثر من مائة مرة على أقلّ تقدير..
 

صوت المؤّذن من المسجد المجاور للمقهى، أعرب المستوطنون الجدد في مستوطنة مجاورة عن تذمّرهم الشديد وانزعاجهم منه وخصوصًا أثناء نومهم في وقت الفجر. قال لهم حين سمع صوت المؤذن:
-"هيّا بنا يا جماعة لنصلّي المغرب في المسجد ولا تفوتنا صلاة الجماعة"..
- "ولكنّنا لا نداوم على الصلاة!"
- "عجبًا من أمركم! كيف لا تصلّون؟ على كلّ حال سعدتُ بالجلوس معكم سأعود إليكم بعد انتهاء الصلاة..
نصف زبائن المقهى أفرغوا مقاعدهم مع صوت المؤذن. ونصفهم الآخرون بفرقهم المختلفة، الذين استقرّوا يفكرون في هزيمة أندادٍ لهم شرّ هزيمة وهم يتوعّدونهم بسداد خسارتهم يوم أمس، لم يستطع التغاضي عنهم. فالورق والدومينو والزهر هي ممارسات لم يتعلّمها لكثرة الوصايا الحادّة والتحذيرات الشديدة التي سمعها منذ أيام الطفولة من أبيه..
 

كان يتساءل عن أسهل السبل لتعلّمها، وإن تعلّمها فلا ضير في ذلك، فهي تستحقّ أن يتعلّمها ما دامتْ تحسّن التفكير والمنافسة فيها شريفة كما يراها. تملّكه إحساسٌ أشبه بالنكد من تلك المجموعة التي تقتصّ نساء البلدة ورجالها يترأسها رجلٌ لا ينقطع عن الحديث، يسرد حكايات لا تعرف الترابط السببي بينها، فكلّما خطر في فكره أحد، أنجز فيه أفلامًا ومسرحيّاتٍ قد يعجز عن الإتيان بمثلها الروائيون وكتّاب السيناريوهات: "فلانٌ زوجته تضربه على وجهه بحذائها دون أن ينبس بكلمةٍ. يبدو رجلاً أمام الناس، ويلبس بدلةً أنيقةً، وحذاءً لامعًا، ويدخّنُ سيجارًا، لكنّه يصبح أشبه بالحذاء في رجلها عندما يدخل بيته.. وفلانة الله يستر عليها، تتستّر باللباس الدينيّ، ولكن اللباس بريء منها، ماذا تفعل عندما تختلي مع الخواجا "يسرائيل" أثناء عملها في تنظيف بيته. وعلّان.. كيف اشترى سيّارة آخر موديل بسعر يزيد عن مائة ألف دولار، وبنى بيتًا أشبه بقصور ملوك العرب. بالله عليكم من أين جاء بكلّ هذا المال؟ أمره مشبوهٌ وماله حرامٌ . وذاك الذي ترك زوجته وأولاده بعد أن أصبحوا في عمر الزهور، ليتزوّج من فتاة روسيّة تعرّف عليها في تل أبيب ويسكن مع عائلتها".
شعر بأن أحدهم سينهض من مكانه ويقول له: "كفى يا رجل! كفى! تغتاب الناس وتنهش من لحومهم!". ولكنّ الأمر لم يحدث. تساءل في ذاته: "إلى أين نحن ذاهبون؟".
تذكّر المقهى الذي دخله ذات مرّة بصحبة والده خلال زيارته لـ"ﭭيينّا"، وأخذ يتفحّص الكتب في مكتبته، فوجد كتابًا باللغة العربيّة عنوانه "الرسالة الوجوديّة" لابن عربيّ، جلس في زاويةٍ وراح يقرأ فيه..

موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة