للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
سماح سلايمة اغبارية:
هكذا عرفتَ نفسكَ أيها الفلسطينيّ أسطورةً متخيّلةً وهكذا زرعوا في رأسك مذ كنت طفلًا
في السنتين الأوليتين حافظت المخيمات الفلسطينية على الحياد، ثورة سورية ونحن لسنا طرفا فيها، بل تحوّل المخيم لمكان آمن للثّوار نسبة لباقي المناطق وفي نفس الحفر التي كان الشباب الفلسطينيّين يختبئون فيها من شبحية الأسد عشرات السنوات اختبأ شباب سوريين ملاحقين.
والديَ ولدا على أطلال النكبة أبي من السجرة وأمي من كفر سبت، بنيا لنا بيتا في قرية جليلية صغيرة نشأت في بيت يعرف قصة النزوح والنكبة من بعيد نعرف أنّ قريتنا الآن مجرد أطلال وآثار وان العائلة الممتدة تعيش في مكان ما بعيدا في سوريا.
لمن لا يوجد له أقرباء في مخيمات اللاجئين في سوريا، هناك فرصه لمشاهدة أخبار المخيم كأنّها فيلم رعب هوليودي تحتل لقطاته الدامية شاشة التلفاز المنزلية للحظات، وتنتهي آثاره النفسية خلال ساعات قصيرة، يعود بعدها لممارسة حياة طبيعيه، ولكن من يعرف سكان شارع حيفا الرئيسي في المخيم او من تُرسل له صور الأقارب وجنازتهم متعددة الجثث، يعيش هذه الأيام أزمة نفسيه حقيقية، الم لا يحتمل وعجز يضرب بالنخاع ويبقيك مشلولا.
لم أجد أقوى من وصف الكاتب رامي العاشق للموقف مع اني كنت من رافضات تصوير فلسطين بجسد امرأة واحتلالها بالاغتصاب ولكن ما يحدث في سوريا هذه الأيام إجرام من عالم آخر، شعور العجز هذا يشبه تمامًا متابعتك لفيديو اغتصاب جماعي لشقيقتك في بلدٍ آخر، وأنتَ مصرّ على متابعة الفيديو للنهاية، علّك ترى نتيجة غير متوقّعة أو معجزةً ما.. كظهور أجنحة لشقيقتك وتحوّلها إلى تنّين يقتل كل مغتصبيها، هكذا عرفتَ نفسكَ أيها الفلسطينيّ أسطورةً متخيّلةً وهكذا زرعوا في رأسك مذ كنت طفلًا، وهكذا ستظلّ تراهن على فكّ الرصَد عنك لتنطلق وحشًا بطلًا منتصرًا. وفي هذه الحالة لن يكون هناك مجال في عقلك للتدقيق في وجوه المغتصبين أو في لباسهم أو في تفاصيل المكان وشكله لتتعرف عليهم، انسف هذا الخيار من تفكيرك تمامًا.
والديَ ولدا على أطلال النكبة أبي من السجرة، وأمي من كفر سبت، بنيا لنا بيتا في قرية جليلية صغيره، نشأت في بيت يعرف قصة النزوح والنكبة من بعيد، نعرف أنّ قريتنا الآن مجرد أطلال وآثار وان العائلة الممتدة تعيش في مكان ما بعيدا في سوريا. بلا صور وأسماء او أصوات، إنهم اللاجئين هناك، نسمع أحيانا أنّ ابو عرب من قريتنا، ونفتخر بناجي العلي ابن قريتنا المهجرة. ولكن ثورة الشبكات الاجتماعية طرقت أبوابنا وأصبحنا نبحث عنهم، عن أولائك الأقرباء الذين يحملون أسماء تشبهنا، صرنا نتخيل سويةً اننا كبرنا معا في فضاء هذا العالم، عرفت من أين ورثت ذك الأنف، ومن أين جاء عمي رحمه الله بذاك الشعر الناعم والكثيف. انفعلنا أمام شاشة الحاسوب من الأشخاص والقصص والروايات عن أبناء البلد من تزوج بمن، ومن المحظوظ الذي وجد عروسا سورية ترضى بلاجئ فلسطيني زوجا، من درس الطب ومن تكون تلك الذكية الي تفوقت بدراسة الهندسة؟.
اكتشفنا أنّ قريتنا حيّةً ترزق في مكان ما هناك في سوريا البعيدة القريبة، لكلّ قرية فلسطينية مهجّرة هناك مجموعة على شبكة التّواصل الاجتماعي فيسبوك، أسماء شوارع المخيم في اليرموك والعائدين تحمل أسماء القرى والمدن طبرية، حيفا، عكا، لوبية، حطين وغيرها. ولنا هناك مجموعة نساء خاصّة من قريتنا.
تماماً عندما بدأنا عمليّة بناد لبلدتنا الافتراضيّة وأطلقنا العنان لأحلام العودة، رأيت مجسّما حديثاً صمّمه وبناه أبناء القرية من المخيم لقرية السّجرة يرجع حسبه المهجرين من بقاع الأرض، ليعيشوا معنا في "البلد". في تلك الأيام اندلعت ثورة السوريين لإسقاط نظام الأسد. أربع سنوات من حرب ضروس التهمت الأخضر واليابس، قتل وتعذيب، دم، خطف واغتصاب. ما الذي لم يحدث هناك؟
في السنتين الأوليتين حافظت المخيمات الفلسطينية على الحياد، ثورة سورية ونحن لسنا طرفا فيها، بل تحوّل المخيم لمكان آمن للثّوار نسبة لباقي المناطق، وفي نفس الحفر التي كان الشباب الفلسطينيّين يختبئون فيها من شبحية الأسد عشرات السنوات اختبأ شباب سوريون ملاحقون.
ولكن السواد اعتلى صفحات الفيسبوك رويدًا رويدًا، واختفت النّقطة الخضراء عند الأصدقاء. تعقّبنا بفارغ الصّبر أخبارهم، البعض قتل وآخرون اعتقلوا وعذّبوا وعادوا جثثا مقطّعة لذويهم، والقليل هرب من سوريا بعد أن باع أهله كل ممتلكاتهم لينقذوا الابن الشاب من الموت المحتّم.
وانتظرنا طويلًا إشارة حياة من مكان ما في العالم، أحيانا تأتي وأحيانا لا.
في إحدى قصص الهروب من الجحيم السوري عبر تركيا ومنها إلى سفن الموت التي كان من المفروض أن تصل إحداها إلى اليونان، وجد نفسه شاب بالعشرينات من عمره يسبح إلى بلاد مجهولة، ويتمّ اختطافه من قبل عصابة سارقين في غابة صربيّة مثلّجة، "سرقوا منّي ملابسي وجواز سفري وحتى حذائي يا خالتي" بكى هذا الشاب لأمّي عبر الهاتف بعد أن اضطر لتسليم نفسه للشرطة. عرفت هذه القصّة نهاية سعيدة على الأقل، وهناك مئات الرّوايات عن جثث فلسطينية انتشلت من البحر في الطريق إلى لجوء آخر وهذه المرة أوروبي الملامح.
بعد نكبة فلسطين في عام 48 واحتلال أراضيها بيد جيوش وعصابات مجرمة، تبعثر معظم الفلسطينيين لكل حدب وصوب، صمد الفلسطينيون في مجازر ومعارك كثيرة، من أيلول الأسود في الأردن، صبرا وشاتيلا ومخيم النّهر البارد ومخيم جنين وبلاطة وغزة كلّها محاصرة من عشر سنوات، جاء دور اليرموك ليصمد أمام القصف والهجوم الجماعي ولست اهتمّ حاليًّا من المعتدي هذه المرة ومن المغتصب، مع النّظام او ضده، علماني أو يدّعي الدفاع عن الدولة الإسلامية، ما لون بزته العسكرية ومن المموّل، إسرائيل أم أميركا، قطر أم إيران، لا اكترث وأرفض أن أخوض النقاش من بدا أوّلًا ومن أشعل هذه النيران. فلا جواب يفي بالغرض ولا عقل إنساني يمكنه استيعاب ايّ نظريّة منطقية الآن.
في هذه الأيام العصيبة عدت بذاكرتي لأتذكر محادثة كتابيه مع احد فناني "البلد" ينحت بالخشب والحجر، أرسل إليّ صورة تمثال امرأة جميله ولكن جسدها خال من الداخل، تخيلتها فلسطين الحزينة، تنهش لحمها الضباع البشرية ولكنها باقية ولو بقيت خالية. قلت له أريد هذا التمثال الجميل، فأجاب: " من عيوني تكرمي"، لكن هذا التمثال تحديدًا دفن تحت أنقاض المخيم ولكنّي سأصنع لك واحدًا عندما نعود إلى أرضنا ونحررها، وهذا وعد. مرّ عامان ولم اسمع من ذك الشاب أيّ خبر، بحثت عنه في العالم الافتراضي ولم أجده ولا اعلم مصيره. ولا زلت انتظر..
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net