للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
رزان بشارات في مقالها:
نحن نعاني من التمييز المبرمج منذ الصغر وفق عادات ومسار وسيرورة اكل عليها الدهر وشرب
كانت الساعة تقارب الثانية ظهرًا عندما حدثت نقطة التحول التي جعلتها تحطم حاجز الآراء المسبقة الذي يوضعه لها مجتمعها الفاني من الحقيقة والواقع ويبرمجها وفق أفكار خاطئة وقامعة للذات والآخر، دَخلتْ من البوابة الكبيرة ونظرتْ من حولها الى الحدائق المزهرة والأشجار النضرة واكملت سيرها نحو الباب الخشبي الكبير عابرة من مدخل البوابة، وبينما كانت أنظارها تلتفت بحثا عن الجرس يداها كانت تطرق مندهشة على الباب وقبل ملاحظة الجرس على اليمين فُتح الباب وإذ بعجوز هيئته تشير الى عمر يناهز الثمانون على الأقل، اندهشت عندما رأته، لان تجاعيده كانت شاقة تدل على التعب والقلق والارهاق ولكن في صوته شبابية مفعمة بالحياة والطاقة والامل، كان العجوز في فكرها "مختلف" من طبقة مرموقة ومن ذوي الأشخاص مع إعاقة.
دخلت الى بيته غير قاصدة رؤيته للقيام بمقابلة صحافية مع زوجته التي تتمتع بسمعة حسنة ومركز اجتماعي راقٍ، فقضت مراحل طفولتها تقطن بمنزل بجانبهم وكان فضولها الذي تجسد مؤخرا في الصحافة والكتابة يدفعها في الماضي الا مراقبتهم لحظة الخروج في السيارة الفخمة السوداء، حيث كانت تردد الافكار في سرها "يا لها من حياة تعيسة لزوجين مختلفين"، وها هي تعود بعد خمسة وعشرين عامًا حيث تم ارسالها لإجراء مقابلة صحافية في العمل وكسرت آراءها المسبقة المتجمدة منذ سنوات، فعندما دخلت البيت رأت مكتب "العجوز" مليء بالكتابات المزخرفة والموسوعات والعلم والثقافة، نظرتْ حولها والتقطت عيونها الصور من كل الثقافات والحضارات، في أحضان الطبيعة وعلى البحار، وعند البنايات الضخمة الواسعة، كان يسكب لها القهوة ويسألها عن احوالها وحياتها وعملها، شعرت انه انسان يتغدى على الطاقة المنبعثة منه مع تحدي وإصرار وعزيمة لذاته ومجتمعه الذي قام بتهميشه لأنه مع إعاقة بصرية وحركية، وقال لها: انت مندهشة كالعديد من الشابات والشباب وغيرهم من الاشخاص الذين يتوافدون هنا لرؤية زوجتي والحديث معها عن اعمالها ودراستها وابحاثها، انت مندهشة لرؤية انسان مع إعاقة بصرية لا يرى وحركته محدودة جدًا يتصرف "كالطبيعي"، الدهشة هي التي جعلتني اعزز ارادتي اكثر واكثر لأدهش نفسي كل مرة من جديد، سأقول لك سرًا فعندما كنت في الحادية عشر من عمري سمعت امي وابي في حجرتهم يتحدثون عني ولم انسى اللحظة التي بها اجهشت امي في البكاء وقال لها ابي: "هذا الواقع ابننا لا يرى ابننا لا يستطيع التقدم في الحياة، يا له من حظ سيء ويجب علينا التعامل مع الحقيقة انه اعمى وغير طبيعي"، هذه اللحظة كانت نقطة التحول في حياتي، عندما كنت في جيل الحادية عشر كان علي ان اختار بين امكانيتين، او ان اموت قهرًا واخضع للواقع من حولي او ان أؤمن بذاتي واتحدى وارسم لي عالمي الخاص. هذا العالم الخاص استطاع انتشالي من أصعب اللحظات وبدأت في كل مرة اسمع جملة قامعة من أبناء مجتمعي أتحدى ذاتي أكثر الى ان ارتبطت اعاقتي بدرجة التحدي والابداع وزخرفة واقع جديد انا البطل فيه، ومجتمعي تألق (بسخرية) في القيام بتحفيزي على هذا النحو في كل مرة أحاول الخروج من القوقعة وحتى اليوم في نظرتك المندهشة.
بينما هي مصغية، عيونها متجمدة لامعة ومحدقة، يداها مرتعشة، تقطعت الكلمات ولكنها حاولت جاهدة ان تنظمها وتقولها دون رجفة وقالت: " انا .. اليوم .. خرجت من القوقعة ..."
نحن نعاني من التمييز المبرمج منذ الصغر وفق عادات ومسار وسيرورة اكل عليها الدهر وشرب، هذه الامور والآراء المسبقة تغيّرت، وما زلنا نؤمن بها ونخول لها الصلاحية ونحني لها رؤوسنا بشرعية للقيام بالقضاء علينا وعلى رفاهيتنا الشخصية، فنسعى جاهدين لتشديد أفكار وانماط معينة تتمحور جوفنا عميقا دون جدوى الى ان نهلك بالمقارنة مع غيرنا، وبعدم معرفة ذاتنا الحقيقة.
للحياة الكثير من المفاجآت والمطبات والتحديات ودائمًا نحن على موجة عناصر جديدة تتداخل في طريقنا، احيانًا تقدم لنا محفز للانطلاقة الى الامام واحيانًا أخرى تقودنا الى الوراء، في هذه الحالات التي تصادفنا دايمًا المفتاح هو الصمود والمقاومة والإصرار والعزيمة للانطلاقة نحو الهدف وتحقيق الأمان الذاتي والاستمرار في طريقنا المختارة.
الاختيارات هي الحاسمة، نحن نختار على حق عندما نكون منفتحين على تغيير المعتقدات والانماط السلوكية المزيفة التي اعتدنا عليها، عندما نبدأ بالتفكير بأمور غير اعتيادية عندما نؤمن ان احتياجاتنا الحالية مختلفة عن الاحتياجات ونحن أطفال وبمقدورنا التقدم ولخروج من القوقعة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com