للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
(في ذكرى رحيل القائد والشاعر توفيق زياد أُعيد نشر ما كتبته بُعيْد رحيله وبعد رؤيتي المباشرة له والأخيرة في أريحا ، تموز 1994)
دوما أتجدد!
(رحيل توفيق زياد.. بين الحلم والواقع)
في لحظة امتزج فيها الحلم بالواقع، أهازيج الشهداء والثكالى وأطفال الحجارة والعائدين والباقين والذين ينتظرون، تصدح في السماء في الأعالي.. بل تقترب لتمس تراب الوطن.
أنين الاحتلال اسمعه.. أميّزه يتراجع وسط هذا الضجيج.. هذا الفرح الفلسطيني وفي لحظة لا أقدرها بزمن، تلاشت الحدود الفاصلة بين الحلم والواقع وحلّقتُ بجسدي مع الأشياء المحلّقة والمتصادمة.. رأيتني اصطدم والأوراق المتناثرة، اقرأها وغيري وتقرأنا شعرا، ماضيا وحاضرا ومستقبلا.. قصائد تأتي من بعيد تبشر بالحلم الحالي، بالواقع الحالي، أسمعها.. ذبذبات نغم حبلى "يعلو بها صوت النشيد كأنه قصف الرعود" ونور الشمس الوهاج يلاحق العتمة ويكشف صدق الكلمات "ما ضاع حق.. خلفه عيناك.. يا شعب الأضاحي"، "سيعود شعبي في ضياء الشمس من خلف الحدود.. سيعود للطلل المهدم يبتنيه من جديد.. سيعود"، "يا شعبي يا عود الند.. يا أغلى من روحي عندي.. إنا باقون على العهد"، "أحبكم جميعا.. أحب شعبي الذي أرهقه التجوال". لمحته شابا فرحا راقصا منشدا يغذي وبسرعة مذهلة جموع المنشدين من حوله والسائرين في ركبه أغانيه الجديدة.. قصائده الجديدة.. أحلامه القديمة.. رأيته يكتب في وجه الريح أغنيته.. نبوءته العتيقة.. "سأغني في كل مكان ومكان. في القدس العربية في غزة والجولان؛ وطني محتلا كان، وطني أصبح حرا والمحتل الغاصب كان. واليوم تحول ذكرى".
واغتنى الجو غناء.. وطني محتلا كان.. وطني أصبح حرا "واعتلى صوت النشيد كأنه صوت الرعود" المحتل الغاصب كان واليوم تحول ذكرى.. واندمجنا مزيجا ونغما واحدا في أغنية واحدة في نبوءة بدأت تتحقق.. وفجأة وكأننا على ميعاد تهبط من الأعالي قصيدة وتنبعث من أناشيده أنشودة لا يسمعها إلا هو وحده.. تتبعت هبوطا مسرعا نحوه فكانت أسرع من البرق وكدت أسمع صداها قبل الالتصاق به.. "أحبائي برمش العين أفرش درب عودتكم برمش العين.. واحضن جرحكم وألمّ شوك الدرب بالكفين".. ثم استقرت بحضنه الجريح.. ثم صمت رهيب ساد الأرض والسماء.. وصمت كثيب جثم على الصدور الحانية.. وارتسمت على طول الطريق.. على عرض هذا الوطن بقعة من دمه الزكي لتخط بقية نبوءته العتيقة.. بقية أغنيته الأخيرة التي اسمعها لنفسه في هذه الطريق الأخيرة.. قرأت نفسها تودعه.. "ومن لحمي سأبني جسر عودتكم على الشطين".. وساد صمت رهيب،صمت كثيب.
يا لهول الحادثة.. لهول الفادحة.. لهول هذا الميعاد غير المرتقب.. سارت في خلايا جسدي قشعريرة تدغدغ أعصابي الواهنة.. تأمر عضلات الشفتين بالابتسام.. لا تجزع، انه حلم.. مجرد حلم.. أضغاث حلم.. أي مشهد من هذين هو الحلم.. أبداية العودة أم رحيل الفارس، أي مشهد هو واقع الحقيقة.. الوداع الأخير أم بداية العودة..
لماذا هذا الالتحام بين النقيضين في آن واحد.. حلم واحد كيف أفضل الجزء الواقعي عنه.. واقع حقيقي واحد كيف أميّز وأفضل ما هو حلم عنه.. انه كل واحد.. إما أن تنكره أو تقبله كما هو.. هل قُدّر لنا أن نستمر في دفع الثمن المدمّى... وأن لا يكتمل الفرح..... وهل "علينا أن نشربه كأسنا المر المحنى"، وعلينا "أن نستمر في دفن أمواتنا والنهوض من جديد".
ناداني حلمي فعدت إليه وأنا فيه.. وعدت بيت الشهيد في الناصرة.. رأيت جميع الأحبة يبكونه.. المدينة حزينة.. تدافعت بقوة لرؤية جثمانه.. سرت في جنازته الكبرى.. بل ضعت فيها، ذهبت إلى بيته وعاودت الذهاب والأحبة جالسون.. والأحبة يتدفقون والأحبة يؤبنون.. أذهب حيث يذهبون إلى دار البلدية، إلى بيت حزبه وأعود حيث يعودون إلى بيته.. ثم أعود وحيدا إلى بيتي أخاطب الليل في الطريق.. إنه حلم أو كابوس إنه مجرد حلم طويل.. حاولت التخلص من هذا الكابوس.. حاولت عبثا حتى كدت أصدق بأنني أعيش لحظة واقعية حقيقية تعيسة.. إنه الواقع، لا حلم ولا يحزنون.. وانطلقت في لحظتها هذه دمعة حبيسة دافئة دفء هذا الحب القاتل فأنامتني بهدوء، وبهدوء غفوت وعاودت الحلم من جديد.. أم عاودت الواقع من جديد لا أدري.. فقد أحسست بيد تشدني برقّة إلى مشاريع مخيمات العمل التطوعي، إلى مظاهرات أول أيار وساحات صبرا وشاتيلا، إلى يوم الأرض، إلى هذه المدينة، إلى حواريها الحزينة، إلى أمه وأبيه ومهده.. ولحده الذي سيكون.. حلم.. إنه مجرد حلم.. شدني أكثر بيده وصوته إلى المهرجانات الافتتاحية والإختتامية لانتخابات البلدية.. إلى ساحات الفجر الأولى حيث إعلان نتائج الانتصارات المتعاقبة، فابتسمت، إنه حلم غني رائع، قلت.. فأجابني بحدته المعهودة إنه الواقع نحن صنعناه بالكد والكفاح والعمل والتفاؤل الكبير، ثم شدني إلى الحفل الأخير لتخريج طالبات وطلاب مدرسته الثانوية البلدية وهنا كدت أنفجر بكاء.. يا أبا الأمين إن ما تشدني إليه قد رأيته ورأيتك فيه سابقا وسيبقى حلما جميلا، فشدني أكثر بيده وصوته وصورته إلى ما لم أره من قبل، إلى المستقبل.. وسرت واجلا مترددا.. أفي علم أنا أم في حلم؟! تقدمني بخطواته الثابتة الرصينة في شوارع هذه المدينة، انحبست في صدري صرخة.. إلى أين أنت ذاهب.. الناس سوف لا يصدقون.. وإذ بصوت يدوي في أذني يقول.. دعه يسير.. إلى أين تريده أن يعود؟.. إنه حي يرزق كما ترى.. فأخذتني رجفة ولازمته وأخذت أرقب عيون الناس التي بكته بالأمس.. أرقبها بحذر وخوف شديدين.. رأيته يطرح السلام كعادته على المارة من أهل المدينة وخارجها.. وهم كعادتهم يردون التحية بأحسن منها ويستمرون في حركاتهم العادية، ثم شاهدته ينحني أمام طفل يهديه وردة وقبلة ومزحة ويتركه يضحك.. تملكني الذهول وخاطبت نفسي مَن منّا يحلم؟ أنا أم الناس؟ مَن منا يعيش الواقع.. الحلم.. الواقع الحقيقي.. مَن؟
أين حدود هذا التداخل؟ غرقت في ذهولي وارتباكي وتساؤلاتي.. ثم تنبهت ونظرت أمامي فوجدت بيني وبينه "مواكب الأحرار كالطوفان.. أنشودة التحرير في حلوقهم وهتافهم للنصر كالبركان" يسيرون وقصائده وجميع محبيه في دروب الناصرة، يزيلون الأشواك بالأكف ثم إلى شوارع تل أبيب وغزة وأريحا.. وفي دروب القدس الآتية من أريحا.. توقف الموكب برهة.. برهة تتسع لنداءات زوجته التي هرعت مندفعة لإيقاف الزمن هناك كي لا تتكرر المأساة، فكفا موتا واحدا لهذا الفارس.. لهذا الزوج.. والتصقت به وسمعت وشوشته لها "تقبلي الثمن الكبير رضية.. فدم الضحايا عزة وفخار" ثم علا صداحه ونشيده وأسمع الدنيا "من شدة حبي لبلادي لا أفنى وأموت.. لكن أتجدد.. دوما أتجدد.. سأعيش وأحيى أتجدد.. سأظل إلى أبد الآباد أتجدد.. أتجدد في وطن الأجداد.. بكم أتجدد"... انطلق الموكب يردد النشيد.. وسرنا معه وفي دربه نحو القدس.
فيصل طه
تموز 1994
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان.