الأخبار العاجلة

Loading...

مفتاح الكنز الجزء 3/ بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 05/02/20 09:33,  حُتلن: 00:22

شعر بهزيمة قاسية ونكراء. ربما لأن خصمه كان واحداً من عمال تل أبيب الذين لم يقبل أن يكون واحداً منهم. لم يحتمل الصدمة فوجد نفسه طريح الفراش. ظن أن النكبة لن تصل الجبل. لكنها اقتحمته على يدي أبناء جلدته. كان جسمه يتصبب عرقاً وحرارته مرتفعة جداً. لم يعرف المرض من قبل. لذلك ظنت زوجته أنه أصيب بضربة عين. إلا أنها سرعان ما سمعت همسات ولغط نساء القرية. سمعت اسم زهرة يتردد على ألسنتهن. وفهمت أنها تحب زوجها. لم تصدق. لكن فاطمة المعروفة بجديتها وأمانتها أكدت لها ذلك. قالت لها أن زهرة تصاب بالدوخة عندما ترى زوجها. طار صوابها وعزت مرضه إلى حبه لزهرة. أرادت أن تتقدم منه وتسأله إن كان ما تسمعه صحيحاً. لكنها تراجعت وأصابتها رغبة عنيفة بالهجوم عليه وخنقه حتى الموت. فهي لم تقصر معه. دائماً وقفت إلى جانبه وساعدته في أعماله الزراعية والتجارية. وساعدته في رعاية وتربية مواشيه. وعندما احتاج لنقل مواد البناء على الدواب تطوعت هي لحمل أكياس الرمل وأكياس الاسمنت على رأسها إلى جانب الدواب. لم تعش معه يوماً سعيداً.انتبهت أن زوجها ربما يبني بيتاً لزهرة وليس لها. لا شك أنها كانت غبية وساذجة عندما أهملت منظرها الخارجي ولم تتزين له كما ينبغي. بينما زهرة كانت متفرغة لهذه الأشياء. معظم نساء القرية تفرغن للتزيّن والتبرج بعد أن باع أزواجهن قطعانهم وتركوا العمل في الأرض. فازداد تعلقهم بهن وأصبحن الآمرات الناهيات.
الرجال لا أمان لهم. يحبون المرأة التي تدوسهم. سمعت ذلك كثيراً ولم تصدقه إلا الآن. كانت غبية عندما عملت إلى جانبه في الفلاحة. وكانت غبية عندما وقفت إلى جانبه في رعاية الماشية وكانت ساذجة بل فاقدة لعقلها عندما حملت الرمل والاسمنت على رأسها جنباً إلى جنب مع الدواب. هكذا شعرتْ ففار دمها وراودتها الفكرة مرة ثانية أن تهجم عليه وتخنقه. خنقه حتى الموت هو العقاب المناسب. فجأة شعرت أن الغولة هي التي مسته بهذا المرض وسيموت كما مات جد جده ولن تحتاج لارتكاب الجريمة. كان يرتجف ويتفوه بكلمات غامضة، ظنتها متعلقة بعشقه لزهرة. إلا أنه كان يخاطب الشام وأهلها وقد تذكر ما كانوا يغدقونه عليه من حب ومن كرم الضيافة. شعر مع نوبة البرد أنه يتسلق جبال اليمن جندياً في جيش جمال عبد الناصر قابضاً على بندقيته. جبال اليمن تشبه كثيراً جبال فلسطين بصخورها أشجارها وكنوزها. كهوفها مسكونة بالجن وغاباتها تغص بالذئاب والثعالب. مر أمامه ما آلت إليه الأمور وما حل بوطنه. ناس تترك بيوتها وأرضها وتهرب. جموع تهيم كالقطعان. قرى بكاملها تختفي. من كان جائعاً يصبح ثرياً. ومن كان ثرياً يصبح جائعاً.شريط متواصل من المتناقضات يمر أمامه. شريط مخيف ومرعب كان يمكن أن يكون أكثر رعباً لولا الأمل أن جمال عبد الناصر سيحرر هذه الأرض من اليهود. سينتصر في اليمن. وعندما ينتصر في اليمن سيتوجه إلى فلسطين. ما هي إلا قضية وقت.
أهو المرض أم القهر؟ أهو التعب نتيجة عمله المتواصل للتغلب على الظروف التي فرضت عليه؟ هل للمرض علاقة بالتعب؟ لم يفكر يوماً بجسده. حتى لم ينتبه يوماً أن له جسد يجب عليه مراعاته وتلبية حاجاته. جسده أطاعه ولبى طموحاته. لم يخذله يوماً من الأيام. هذه أول مرة يخذله. أما هو فلم ينتبه لهذا الجسد. دائماً شرب ليُشفي ظمأه، وأكل ليسدَّ جوعه. لكنه دائماً اهتم بلباسه وعرف كيف يضع عقاله بشكل مائل فوق كوفيته الموسيليني. وعرف كيف يفصّل قمبازه ومعطفه عند أفضل الخياطين في عكا أو الناصرة. مرّت صورة زهرة أمامه فشعر بتوبيخ الضمير. متزوج وله ثلاث بنات. زوجته لم تقصر معه. دائماً وقفت إلى جانبه. مرت عليهما ظروف قاسية لا تحتمل فلم تتذمر. صبرت وكابرت وتحدت كل تلك السنين العجاف فما باله يفكر بغيرها. هل تأثر بحكي الناس. هل صار من غير أن يدري يفكر بزوجة ثانية تنجب له ابناً كما توقع أهل القرية؟ وهل زهرة ستكون هذه الزوجة؟ ماذا سيقول له والدها إذا تقدم لطلب يدها؟ هل سيغير رأيه فيه ويرى أن صداقتهما كانت نفعية ولغاية في نفس يعقوب؟ ربما سيرفض طلبه فيخسر زهرة ويخسر صداقته. من المؤكد أنه سيرفض طلبه فهو اكبر من زهرة بواحد وعشرين عاماً. وله زوجة وبنات. لكن ما العيب في ذلك؟ فهو ليس أول من تزوج على زوجته. في القرية الكثيرون فعلوا ذلك ولم يلمهم أحد. كما أن الله حلل الزواج مع أكثر من امرأة ولم يحرمه.
هبت ريح قوية كادت تقتلع الخيمة. شعر بالبرد الشديد يتسرب من تحت غطائه. طارت عصافير كثيرة مع الزوبعة ففقدت توازنها. ارتفعت وانخفضت كأوراق الخريف. رأى من فتحة الخيمة غراباً يحوم على ارتفاع منخفض تحاشياً للعاصفة. حط على قمة شجيرة مجاورة للخيمة. الغراب الوحيد نذير شؤم. تذكر ما كانت تردده أمه، على شكل نواح، في حالات اليأس أو المرض: "تعس من شاف غراب وحيد، سعد من شاف غرابين سوا" شعر بانقباض شديد في صدره. هل هو مقبل على تعاسة؟ هل هي النهاية؟ هل سيصيبه مكروه؟ هل سيحتل اليهود الجبل ويطردونه منه؟ هل سيخسر جمال عبد الناصر الحرب في اليمن؟ لا، جمال انتصر على فرنسا وبريطانيا وإسرائيل معاً وسينتصر في اليمن. كاد ينادي زوجته. إلا انه تراجع وكأنه أشفق عليها لما يجتاحها من غضب. ديك سمّن ينط أمام الخيمة، نشوةً وفرحاً وابتهاجاً بالمطر القادم، أعاد إليه الأمل. عندما حرث حقوله في سفح الجبل اصطاد كل يوم عدداً من هذه الطيور السمينة فوفر في المساء وجبة شهية للعائلة. ما أطيب لحم الطيور في البرد الشديد. شعر بجوع مفاجئ. لكن القشعريرة عادت لتجتاح جسده. غريب أمر زوجته. اليوم لم تحضر له العسل الطبيعي مع خبز الصاج وزيت الزيتون. ادعت أنه نفذ ولم يبق منه شيئاً. كاد ينهض على قدميه وينزل إلى تلك الصخرة العملاقة في سفح الجبل الجنوبي حيث اتخذت خلية نحل من أحد تجاويفها بيتاً لها. كل سنة اقتطع منها ما يحتاجه من عسل لسنة كاملة وأبقي لها مئونتها. كيف نفذ العسل وهو ما زال في بداية الشتاء؟. لا شك أن شيئاً غير عادي قد حدث. لم يتخيل أن زوجته تنتقم منه. لقد خبأت العسل خارج الخيمة لتحرمه من أكثر شيء يحبه. لم تستطع أن تطعمه العسل وقلبه مع غيرها. لو استطاعت لأطعمته السم. لا، لن تستطيع فعل ذلك حتى لو توفر لها. فمن سيعيلها ويعيل البنات؟ من سيحميها ويوفر لها الأمان في هذا المكان البعيد عن القرية؟
طال مرض صاحب الجبل فبدأ سكان القرية بالمجيء لزيارته. على مدى فصل الشتاء جاء معظمهم لزيارته والاطمئنان عليه. جاءوا ليتشفوا بعمارته التي لم تكتمل، وبقطعانه التي نُهبت. هكذا قالت له زوجته بعد كل زيارة. فانتهرها وطلب منها أن توحد الله. قال لها إن الدنيا لم تزل بألف خير. أرادت أن تغيظه وربما آمنت بشيء مما قالته. لأنها فقدت ثقتها بسكان القرية. لم تنتبه لتعليقاتهم التي وصفتها بأم البنات التي لا تنجب الذكور إلا هذه الأيام وربما بعد فوات الأوان. في الماضي فهمت تلك التعليقات كما هي ولم تر ما وراءها من تشفي. لم تنتبه للتحريض الكامن وراء "أم البنات". تحريض زوجها على الزواج من غيرها لتنجب له ابناً. كانت مقتنعة كغيرها من نساء القرية أن الزوجة هي التي تحدد نوع المولود: ذكراً أم أنثى. لذلك لامت نفسها كيف أنجبت ثلاث بنات ولم تنجب ابناً. ظل يراودها الأمل ولم تتخيل أن يتزوج زوجها من امرأة ثانية. دائما قالت: "يفرجها الله".
طال مرض صاحب الجبل وطال مكوثه في الفراش. انتشرت إشاعة في القبيلة أن الغولة نقضت اتفاقيتها معه لذلك أصابه المرض وسيموت بسبب تواجده في الجبل. استغل راعي قطيع الأبقار الفرصة لينتقم منه. هذا الراعي لم يذهب للعمل في تل أبيب مع الذاهبين، لأنه أراد الزواج من زهرة وخاف إذا ابتعد عنها أن يجيء من يختطفها منه. لم يحبها وإنما طمع بثروة أبيها فهي ابنته الوحيدة. استأجره صاحب الجبل عندما بدأ ببناء بيته ليساعده على رعاية القطيع. كان يكره صاحب الجبل كرهاً لا يعرف له سبباً. هذا الكره تحول إلى نار مشتعلة عندما عرف أنه يحب زهرة. لكنه لم يستطع الإفصاح عن هذا الكره وحفظه في بطنه إلى أن حان أوان الانتقام. فما إن رأى صاحب الجبل يلزم الفراش وما إن سمع أن الغولة ستقضي عليه خلال فترة وجيزة حتى بدأ بحرمان القطيع من الماء خلال ساعات النهار الحارة. كان يورده الماء لكنه يمنعه من الشرب ويعيده إلى المرعى. كان يعرف جيداً أن العطش في الأيام الحارة وخصوصاً في أيام الخريف سيؤدي إلى موت القطيع بشكل بطيء وتدريجي في فصل الشتاء. كان يسمع من الرعاة أن "غب اللوايا يقطع الشلايا" أي أن العطش في فصول الجفاف يقتل القطعان.
ما إن بدأ الشتاء حتى بدأت بقرات صاحب الجبل بالموت واحدة تلو الأخرى والراعي يرقص فرحاً. قال أمام أصدقائه: والله لن أبقي له بقرة واحدة. عرف صاحب الجبل أن قطيع أبقاره يتلاشى بسرعة فصاح واستراح وليس من مجيب. فبناته صغيرات بالكاد يقمن بهمّ قطيعي الماعز والنعاج وزوجته غاضبة متوترة لا يكاد يراها إلا قليلاً. قرر أن ينهض من فراشه رغم نوبات المرض القاسية. لن يموت في الفراش سيموت واقفاً. مشى بصعوبة بالغة. شعر أن جسمه لا يطاوعه. جلس أمام الخيمة في انتظار قدوم زوجته أو واحدة من بناته. لم يجلس طويلاً حتى رأى الثعلب يغتنم فرصة وجود كلبي الحراسة في المرعى مع القطيع لينقض على دجاجاته ويختطف واحدة منها. اختطف الدجاجة السوداء، أفضل دجاجاته، فهي الوحيدة التي تعطي البيض على مدار السنة. بيضة كل يوم. صرخ عليه بأعلى صوته إلا أنه لم يكترث وواصل سحبه للدجاجة التي استغاثت بأعلى صوتها وبشكل متواصل طالبة النجدة. رغم مرضه شعر بهمة لم يدر من أين جاءته فقرر ملاحقته حتى وكره القريب. كان الثعلب قد غاب مع فريسته إلا أنه لم يفقد الأمل فربما استطاعت الدجاجة الإفلات في الطريق وهي بحاجة إلى من يعيدها إلى القن. ذهل صاحب الجبل عندما وصل إلى الوكر وشاهد أكوام الريش المنتشرة حوله. من ألوان الريش عرف أن الثعلب قد تمكن في فترة مرضه من سحب أفضل دجاجاته وافتراسها في هذا الوكر اللعين. فارت دماؤه وقرر الانتقام. تذكر سم الفئران الذي أحضره السنة الماضية للقضاء على الفئران التي غزت حقله في سفح الجبل. قرر أن يضع ما تبقى لديه من هذا السم على قطعة لحم ويضعها عند مدخل الوكر للقضاء على هذا الثعلب المجرم والتخلص منه.
عاد إلى البيت منتظراً حلول المساء ليأخذ قطعة اللحم المغمورة جيداً بالسم ويضعها عند فتحة الوكر. لم يفعل ذلك من قبل لأنه اعتقد أن الثعالب والذئاب كائنات حية وحرام قتلها ما دام أذاها محتملاً. فكر قليلاً بما سيقوم به فانتبه أنه بعمله هذا سيقتل صغار الثعلب التي لا ذنب لها أو يقتل ثعلباً آخر لم يقترب من دجاجاته ولم يؤذه. عدل عن الفكرة وغير رأيه. ولكي لا يؤذي من لا ذنب له، فيشعر بالندم وتأنيب الضمير، قرر وضع قطعة اللحم المسممة قرب قن الدجاجات ليأتي الثعلب إياه ويلتهمها فيموت وحده. ويكون بذلك هو الذي جنا على نفسه.
في اليوم التالي وفي ساعات الظهيرة عندما كان كلباه برفقة القطيع في المرعى اخذ قطعة اللحم المسممة جيداً ووضعها قرب قن الدجاجات وجلس أمام الخيمة ينتظر مجيء الثعلب ليلتهمها ويموت. لم يتوقع أن تهجم القطة على هذه القطعة فهو يعرف أن القطط لديها حاسة قوية ولا تأكل الأشياء المسممة. يعرف ذلك جيداً ومتأكد منه. لكن القطة هجمت على قطعة اللحم شمتها، دارت حولها ولم تلتهمها. حمد الله وشكره أن معلوماته صحيحة وأن القطة أم الأربعة قطط التي أنجبتها قبل أسبوع لم تأكل قطعة اللحم. لم يأت الثعلب اللعين فواصل صاحب الجبل مراقبته لقطعة اللحم خوفاً من أن يعود أحد كلبيه من المرعى ويلتهمها.
لم تمر إلا دقائق قليلة وإذا بالقطة تدور حول نفسها بشكل جنوني. تموء وتتلوى ثم تلقي بنفسها على الأرض. ذهل مما رأى. حركتها ازدادت شراسة وحدة بشكل مفاجئ ولم تمر إلا لحظات قليلة حتى كانت قد فارقت الحياة. يبدو أنها لم تشم السم فقط بل لعقته. هذا ما حصل. كانت جائعة فهي تُرضع أربعة صغار ولدتها قبل أسبوع. ماتت القطة التي أحبها كثيراً والتي حمت البيت من الفئران سنين طويلة. احتضنها وهي تتلوى. حاول إنقاذها لكنه لم يستطع. ماتت في حضنه وبين يديه. شعر بالعجز الذي شعر به يوم نهبوا قطيعه. ما أصعب عجز الرجال. لأنه تآمر بل مقايضة. المقايضة هي بداية العجز. ندم ندماً شديداً. لماذا وضع السم. الثعلب كائن حي ويجوع فمن أين يأكل؟ إن الله قد عاقبه على فعلته وجعل القطة تموت بدل الثعلب. نسي مرضه وأوجاعه وشعر بحاجة لمن يسمعه. أصابته رغبة شديدة لإفراغ ما يعتمل في صدره. حاول إشراك زوجته فيما أصابه فلم ينجح. على العكس شاهدها تكاد تبتسم عندما عبر عن ندمه أمامها. كادت تقول له إن الله يعاقبك بسبب نواياك السيئة. شعر أنها قالت له ذلك بعينيها. فازداد توتره وضاقت الدنيا في وجهه. أما بناته فنظرن بحسرة ولوعة إلى جثة القطة الملقاة قرب البيت. قالت إحداهن: من سيرضع الصغار؟ وردت عليها الثانية: ستموت من الجوع. أما الثالثة فقد هربت لكي لا يراها أحد وهي تبكي القطة التي تركت وراءها أربعة أيتام. نكبة جديدة تصيبه. نكبة أشد من نكبة اغتصاب اليهود لبلاده وأصعب من نكبة نهب قطيعه. لأنها من صنع يديه.
قام صاحب الجبل وحمل جثمان القطة وابتعد قليلاً عن البيت. حفر له حفرة وواراه الثرى. شعر أنه ارتكب إثماً كبيراً سيلاحقه مدى الحياة. لم يقتل القطة فقط بل يتم صغارها. وإن مات الصغار سيكون هو قاتلها. وسيكون بذلك قد قتل خمسة أرواح. ارتعدت مفاصله وشعر بضيق في صدره. خاف أن يكون موت القطة نذير شؤم. هل سيخسر عبد الناصر حرب اليمن ويتخلى عن فلسطين؟. صمم أن ينقذ حياة القطط الأربعة ولن يتركها تواجه الموت. عاد إلى البيت وبحث عن القطط فوجدها في حفرة بجانب رواق البيت. تكومت الواحد فوق الآخر وأصدرت أصواتاً رفيعة وحادة هي خليط من البكاء والولولة. لم يكن الطقس بارداً ولكن رأى كيف كان كل واحد منها يجاهد ليندس تحت الآخرين. أهو الشعور بالبرد أم الحاجة للحنان والحماية؟ ماذا سيفعل بهذه الكتل المتحركة من اللحم؟ كيف سيطعمها والواحد منها بحجم بيضة الدجاجة؟ اقترب منها فالتصقت الواحد بالآخر وزاد موائها. كانت تبحث عن أمها. أخذ صاحب الجبل وعاءاً مسطحاً وملأه بحليب الماعز ووضعه بقربها. هل حليب الماعز سيعوضها عن حليب أمها؟ لم يكن أمامه خيار آخر. راقب من بعيد منتظراً أن تقترب من الصحن. لكنها ازدادت التصاقاً. شعر أنها خائفة منه فابتعد ليوفر لها الشعور بالأمان. عاد بعد قليل فوجد أنها لم تقترب من الصحن. أمسك بواحد منها وغمس فمه في صحن الحليب. أراد أن يجبره على تذوقه. حاول القط بكل قوته الإفلات ولكنه لعق شفتيه ليزيل ما علق عليهما. اطمأن صاحب الجبل أن القط تذوق الطعام الجديد. أخذ كل واحد من الثلاثة الآخرين وغمس فمه بالصحن وتركه وابتعد. كرر هذه العملية عدة مرات في اليوم. وكم كان سروره عظيماً عندما رأى أحدها بعد ثلاثة أيام من الصراخ والعويل يقترب من الصحن ويرتشف الحليب بلسانه. اطمأن انه سيدرب إخوته على تناول الحليب ولن تموت من الجوع. واظب على تقديم الحليب للقطط وراقب نموها ليطمئن أنها لن تموت ويكون هو السبب في موتها.
الأم لا يمكن تعويضها. استطاع صاحب الجبل أن يوفر الحليب للقطط وبكمية لا تستطيع الأم أن توفرها. لكن القطط لم تكن سعيدة. كان كل واحد منها يجاهد للدخول تحت الآخر باحثاً عن ثدي الدفء والحنان. معركة طاحنة في البحث عن الحنان الذي لا يوفره إلا ثدي الأم.
كان الشتاء قارصاً ذلك العام وكان المرض شديداً. إلا أن وفاة القطة أنست صاحب الجبل كل ذلك. نهض على قدميه لينقذ الأيتام الأربعة وليكتشف أن قطيع أبقاره قد نفق عن بكرة أبيه إلا واحدة ظلت على قيد الحياة ولكنها ضعيفة وهزيلة لا تستطيع الوقوف على قدميها. لم يصدق ما حدث. سأل عن الراعي ليعطيه أجره الشهري فأخبروه انه اختفى ولا أحد يعرف عنه شيئاً.
بدأت القطط بالتحسن وبدأت عافيته تعود إليه بسرعة. لماذا نفق قطيع الأبقار؟ لماذا ماتت القطة وتركت له أربعة أيتام؟ لماذا صادروا نصف أملاكه؟ لماذا انتظروه عند بئر الخشب ونهبوا قطيعه؟ لماذا ضاعت فلسطين؟ هل الله يعاقبه؟ ماذا فعل حتى يعاقبه بهذا الشكل؟ فقد نصف ثروته وارتكب جريمة قتل بشعة ومرض مرضاً شديداً. وفوق كل ذلك ترك البَنّاء بيته ولم يصب له السقف. تركه وذهب للعمل عند إنسان قَبْل العمل في تل أبيب لم يملك قوت يومه، فصار اليوم ينافسه على بناء بيت أكبر من بيته. لا لن يستطيع منافسته لأنه حتى لو بنا بيتاً أكبر من بيته فلن يستطيع أن يجد قمة هي أعلى القمم في العالم. يكفي أن بيت هذا الحقير في الوادي ولن ينتبه له أحد. هل يصيبه كل ذلك لأن قلبه مال إلى زهرة ونسي رفيقة الدرب؟ ثلاث بنات سيتزوجن ويتركن البيت ليجد نفسه وزوجته ولا وريث لهما. لا لم يقترف ذنباً عندما فكر بزهرة. كل ما أراده هو أن تنجب له ذكراً يرثه ويحافظ على الجبل من بعده. نعم يحافظ على هذا الجبل فعين اليهود عليه منذ وطئوا هذه البلاد. واصلوا قصفه بالقذائف كما فعل الانجليز قبلهم. هذا القصف ليس عبثياً ولا لتدريب سلاح مدفعيتهم على إصابة الهدف كما يدعون. أطلقوا مدافعهم، وقبلهم الانجليز، على الصخور الزرقاء لتحطيمها وقتل الغولة وأفراد عائلتها. نجحت قذائفهم في إحداث فجوات صغيرة مستديرة تتشعب منها شقوق مستقية كأنها أشعة الشمس. هذه الفجوات المستديرة تشبه عيني زهرة والشقوق الدقيقة المستقيمة المتشعبة منها هي رموشها. هذا ما رآه. لكن هذه الرؤيا ليست رؤيا رجل يفتش عن امرأة لتنجب له ذكراً. هذا خيال عاشق متيم. لا، هو ليس عاشقاً. حتى في شبابه لم يكن لديه الوقت ليعشق النساء. عشق الجبال والكهوف منذ سمع حكاية الغولة مع جد جده. ظل ينزل إلى قاع تلك الفوهة التي يقال أنها دخلتها ويصغي للأعماق حتى نجح في الاتصال معها. اليهود وقبلهم الانجليز يعرفون بقصة هذه الغولة التي تسكن الجبل هي وأفراد أسرتها. وهم يحاولون إخراجهم منه بقصفهم بالمدافع. حرك إبريق السادة قرب النار. قدمه وأخره ثم صب لنفسه فنجان سادة. زوجته أصيلة ولم تقصر معه وتحبه وتحترمه. فماذا أصابه؟ ألأنه لم يعش قصة غرام معها؟ أم لأن والده هو الذي اختارها له لسمعة أهلها الطيبة وخصوصاً والدتها المعروفة بكرمها وشجاعتها وحسن أخلاقها؟ في الحقيقة هنالك فرق بين الزواج في سبيل الزواج وبين الزواج في سبيل العشق.
 

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com   


تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة