الأخبار العاجلة

Loading...

مفتاح الكنز الجزء 5/ بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 26/02/20 17:13,  حُتلن: 21:17

نام في ساعة متأخرة وأفاق متأخراً. ما إن فتح عينيه حتى كانت زوجته تناوله ورقة تحمل شعار الدولة. كتلك الورقة التي جرته إلى المحكمة في حيفا قبل أكثر من سنة. لا مجال أمامه إلا الذهاب إلى سالم ابن أخيه ليفك له طلاسمها. لكنه لم يتمالك نفسه وأراد أن يعرف فحواها فسأل زوجته: من أعطاك هذه الورقة؟ الم يقل ما بها؟. فأجابته بجفاء واقتضاب: أحضرها شاب من القرية. لم يقل.
ذهب صاحب الجبل إلى ابن أخيه، رئيس المجلس المحلي، وطلب منه أن يفك له طلاسم هذه الورقة التي تحمل شعار الدولة. أطال سالم النظر إلى الورقة وكأنه يتعمد حرق أعصاب عمه ثم قال له بتشفي واضح: "هذه ورقة من ضريبة الدخل تطالبك بتسديد دَينك البالغ خمس مائة ليرة عن سنة 1963". دَين خمس مائة ليرة؟ لم يصدق صاحب الجبل ما سمعه فصاح بابن أخيه: "دَين؟ دَين على ماذا؟ خمس مائة ليرة؟ أنا لست مديناً لأحد". فرد عليه سالم بجفاء: " وأنا ما لي؟". كان بيت الرئيس مملوءاً بالضيوف من أبناء القرية الذين جاءوا ليثبتوا ولاءهم ودعمهم. سمعوا ما دار بين سالم وعمه فلم يعلقوا لأن الأمر لا يعنيهم. كانت سهام تستمع أيضاً لما يدور بينهما. فرحت بما سمعت وخرجت لتتمتع بمنظر صاحب الجبل المتجهم. خمس مائة ليرة؟ لا شك أنه لن يستطيع تجميعها. دعته للجلوس لشرب القهوة. أرادت أن تسمع شكواه وتألمه الذي يُفرح قلبها ويشرح صدرها. تظاهرت بالتضامن معه فشتمت الدولة واستنكرت أفعالها لتكسب ثقته. قالت لسالم: "ساعده فهو مسكين وأنت رئيس المجلس. ساعد عمك!" فأجابها سالم: "ضريبة الدخل قانون سنته الدولة ويجب تنفيذه." كان صاحب الجبل شارداً مشتتاً فلم يصغ لأقوالهما. شرب قهوته وعاد إلى بيته في قمة الجبل.
شعر بضربات سريعة في صدره وبوهن شديد في ساقيه. أهل القرية تغيروا كثيراً. فقدوا الألفة وأصبح من الصعب فهم أو تفسير ما حدث لهم. كان بحاجة لدخول فراشه وإخفاء رأسه تحت الغطاء ليغمض عينيه ولا يرى هذا العالم البشع. ليت زهرة إلى جانبه. كم هو بحاجة لها.

كانت أشجار الغابة وصخور الجبل تعطيه ظهرها. تجافيه ولا تبتسم له. ديوك السمن تقفز حوله وكأنها تتحداه. كاد يبتسم إلا أن غصة حادة غلبت الابتسامة. شعر فجأة انه وحيد. ما أصعب أن تكون وحيداً وغريباً بين من يحتاجون عطفك ودعمك. بناته وزوجته وقططه بحاجة له. عليه أن يوفر لهن الأمن والأمان. يجب أن يسند قامته ويرفع رأسه. الانحناء لا يليق في مثل هذه المواقف. يجب أن يتمرد. يجب أن يعلن العصيان. لا يريد أي علاقة مع اليهود. لا يريد منهم شيئاً فلماذا لا يتركونه وشأنه؟ جاءوا من بعيد وهم لا يشبهون الأرض، لكنهم يلتصقون بها. يطاردونها ليمتزجوا معها ويزينوها. أهل القرية يهربون من الأرض. يبتعدون عنها ويذهبون إلى البعيد للعمل وجني الأرباح. عطاء الأرض لم يعد يعجبهم. أصبح في شك من أمره. ربما يكونون على حق. ربما يكون هو المخطئ بتمسكه بالجبل الذي تحول إلى عبء يثقل كاهله.

انتبه أن الطعام الذي يقدمه لقططه ليس كافياً. نموها بطيء والضعف يبدو عليها. لم يظلم بناته وزوجته فقط. ظلم قططه أيضاً. سيصطاد لها ديوك السمن. يجب أن يغذيها فهو السبب في موت أمها. فتش عن فخ العصافير. نصبه واصطاد ديكي سمن. عاهد نفسه أن يفعل ذلك كل يوم. سيعوضها عما فقدته. بناته فرحن كثيراً وعرضن عليه المساعدة في نصب الفخ ودمله بالتراب لخداع العصافير. ذهب إلى قططه الثلاث. داعب كل واحدة منها فشعر بالطمأنينة وعادت إليه طاقته. الحياة ما زالت جميلة لم تتغير. والجبل ما زال كريماً معطاءً. من نباتاته يمكن صنع الطعام والدواء على مدار فصول السنة. من يعيش فيه لا يجوع ولا يمرض وتكون حياته يسيرة. لولا أن اليهود يتدخلون ويحرفونها عن مسارها. ماذا يريدون وقد احتلوا البلاد واستولوا على كل شيء؟
سيذهب إلى صديقه التاجر ويستلف منه مبلغاً من المال. سيسدد غرامة المحكمة من السنة الماضية وسيسدد دين ضريبة الدخل. لن يسمح لهم بحجز ماشيته. لأنهم إن فعلوا ذلك فلن تقوم له قائمة بعدها. ليتهم ينسونه. ليتهم يكفون عن مراقبته. ماذا يريدون منه؟ ألا تكفيهم كل هذه البلاد التي احتلوها؟ لماذا لا يتركونه وشأنه؟ هل هم مقتنعون أنه غني؟ لو أثبت لهم أنه فقير هل سيعطفون عليه؟ لا، لن يستجدي عطفهم. أهون عليه أن يموت من أن يستجدي عطفهم. ما أجمل أن يجوع الإنسان وهو متهم بالغنى وما أبشع أن يشبع وهو متهم بالفقر. الضعف بؤس يذل صاحبه والقوة تمجده وتعزه. ليتهم يقبلون نصف ما يملك على أن يتركوه وشأنه. بإرادته سيعطيهم نصف ما يملك، أما أن يأخذوه بالقوة فهو الذل والهوان.
في صبيحة اليوم التالي زار شريكه التاجر. طمأنه أن القطيع المشترك بينهما يَعُد اليوم أكثر من ثلاث مائة رأس. فرح التاجر وأثنى على شريكه. سمع حكايته مع ضريبة الدخل فاستغرب واستشاط غضباً. إلا أنه قرر مساعدته فجمع كل ما في بيته من نقود وناولها لشريكه.

عاد صاحب الجبل بمبلغ مائتي ليرة. كيف سيقسّم هذا المبلغ؟ ماذا سيسدد أولاً: الغرامة التي فرضتها المحكمة أم المبلغ الذي تطلبه ضريبة الدخل؟ لو سافر للعمل في تل أبيب أو في كرميئيل لما احتاج أن يستدين من الناس. ولكان لديه ما يمكنه من شراء الملابس والحلويات لزوجته وبناته. لو كان واحداً من كثيرين لما انتبهوا له ولكفوا عن مطاردته. لو ذهب للعمل عندهم لما حاسبوه وراقبوه. لا، لن يعمل عند اليهود. بعد قليل سيبيع الفطمة من الخراف والجديان وسيكون لديه المال ليسدد الضريبة، وليشتري لأسرته الملابس والأطعمة اللذيذة كما يفعل العاملون في تل أبيب. وإذا فتحها الله في وجهه وباع كمية التبغ التي يحتفظ بها فسيتقدم لوالد زهرة ويطلب يدها. سيشتري لها الذهب وفستان العرس. لن يحتاج لبيت آخر. سيعطيها غرفة من بيته الجديد ويبقي غرفة لزوجته وبناته وسيواصل هو السكن في الخيمة ويشتري عباءة جديدة وكوفية وعقالاً.

سيسدد غرامة المحكمة مائة وسبعون ليرة. وسيبقى معه ثلاثين ليرة سيدخرها حتى يجمع بقية المبلغ لضريبة الدخل. هل يشتري هدية لزهرة؟ لم يقدم لها هدية حتى الآن وستفرح كثيراً لو فعلها. لكن كيف سيعطيها الهدية. وماذا لو عرف والدها؟ هل ستخرب الصداقة بينهما؟ من الأفضل أن يشتري ثياباً لبناته وزوجته. هذا العام لم يشتر لهن الثياب على العيد. كل نقوده دفعها لبناء البيت. مائة وسبعون ليرة مبلغ كبير لم يدفع في حياته مبلغاً كهذا ومرة واحدة حتى عندما بنا بيته. لو أنكر التهمة. لو قال للقاضي انه لم يفلح الأرض بتاتاً. لم يقل ذلك خوفاً من أ ن تضيع الأرض. ولكنها ضاعت ودفع ثمن فلاحتها. ضاع أكثر من نصفها. كم مر على هذا الجبل غزاة ولكنهم رحلوا وبقي شامخاً. لو يستطيع حشوه في قلبه والفرار من هذا العالم. أو اللجوء إلى عائلة الجن. لو يستطيع فصله عما حوله والذهاب معه بعيداً. بقي أعلى جبل في العالم بفضل عائلة الجن التي تسكنه وتعطيه هذا الوقار والشموخ. لولا الخوف من الغولة لعاش الكثيرون فيه، وأصبح جبلاً عادياً كباقي الجبال. لم يفكر بالأمر من قبل.
كيف غاب عن باله الاستنجاد بها وطلب مساعدتها. كيف سيقوم بذلك؟ سمع من جده أنها تخرج من تلك الحفرة في سفوح الجبل الشمالية في ساعات المساء. تتربع قرب الفوهة أو في قاعها أو تكون قريبة منها لتمشط شعرها. لم يعتد زيارة الفوهة في ساعات المساء. تعوّد زيارتها في ساعات النهار ليستمد الطاقة ويعود. أصغى لهمس الأعماق لكنه لم يحاول التواصل منذ نجاحه في توقيع المعاهدة. حرص أن يبدو قوياً في عيني الغولة وجماعتها. لا، لن يطلب المساعدة. يكفيه الطاقة التي يزودونه بها. الجن يغدر بالضعفاء ولا يخضع إلا للأقوياء. الضعفاء لا مكان لهم. لو لم يكن قوياً لما فاوضوه ولما توصل لاتفاق معهم. القوة تجلب السلام. اليهود سيطروا على أموال العالم بالقوة. قوة العلم وقوة المعرفة. كانوا أقوياء لذلك سخروا الجن في خدمتهم. لم يتوسلوا له ولم يطلبوا مساعدته. سخّروه لخدمتهم وتحكموا به منذ أيام الملك سليمان. هذا بالضبط ما يريده صاحب الجبل. يريد أن يسخّره في خدمته. وقد قطع شوطاً بعيداً لتحقيق هذا الهدف. سيطر على الجبل بمساعدته واستفرد باستعماله وحده. لم يجرؤ أحد غيره على الاقتراب منه. سنوات طويلة ومنذ مطاردة الغولة لجد جده لم يجرؤ أحد غيره على المبيت فيه.

ما ينقصه هو المال. اليهود كما يبدو يعرفون ذلك. هم وحدهم من يدرك أن حصوله على المال سيمكنه من تسخير الجن لخدمته. وعندها لن يقدروا عليه. لذلك نهبوا قطيعه وحرموه من فلاحة الجبل وطاردوه لمنعه من بيع التبغ وورق السجائر. وها هم يفرضون عليه الضرائب الباهظة والغرامات التي لا يستطيع تسديدها. اليهود سيمنعونه من الوصول إلى المال ليحولوا بينه وبين تسخير الجن لخدمته. المال وحده لا يكفي. لأنه بحاجة للحماية. وحماية المال لا تكون بحفظه فقط. المال الذي يُخزن يموت. المال بحاجة للحركة وللتشغيل في مجالات مختلفة ليربو ويتضاعف. هذا التشغيل بحاجة للخبرة. انتبه أن ما ينقصه ليس المال. ما ينقصه هو الخبرة. شعر كم هو بحاجة للقراءة والكتابة.

ذهب ليسدد غرامة المحكمة ففوجئ أنها مائتي ليرة ولم تعد مائة وسبعين لأنه لم يسددها في الوقت المحدد. دفعها ولم يبق معه ليرة واحدة. خابت كل مشاريعه. عاد إلى خيمته فانتبه أن الدخان يتصاعد منها. دخان ذكّره كيف في احد مشاويره إلى دمشق وفي طريقه إليها جاع وعطش، فدخل إلى قرية صغيرة بحثاً عن طعام وماء. في طرف القرية رأى بناية صغيرة يتصاعد الدخان من منافذها فظن أنه دخان طابون وتخيل الخبز الساخن في داخله. كان الباب مغلقاً. دقه فلم يجبه أحد. نظر من إحدى الفتحات إلى الداخل فرأى حماراً أبيضاً مكللاً بالحرير والجوخ والمخمل المطرز وقربه وعاء يتصاعد منه دخان البخور. وقف يراقب المشهد الغريب وإذا بفتى يمسكه من كتفه ويهزه بقوة قائلاً: " ماذا تفعل ومن أنت" فأجابه: "أنا عابر سبيل أبحث عن ماء وطعام". ولماذا تتجسس على إلاهنا؟" قال له بغضب شديد وأضاف: "هذا إلاهنا ولو رآك أحد غيري تنظر إليه لقتلك". جره من يده وطلب منه مغادرة القرية.
في دمشق سأل صديقه صاحب المتجر الذي يبيعه البضاعة عن هذه القرية التي يعبد أهلها الحمار لأنه لم يصدق عينيه وأذنيه. إلا أن صديقه الدمشقي أكد له أن ما رآه وسمعه صحيحاً. أخبره أن هذه القرية أسسها علمانيون جاءوا من أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى. الحرب جعلتهم يكفرون بجميع الأديان السماوية ويؤسسون ديناً جديداً يعبد أتباعه الحمار الأبيض. سكان هذه القرية لا يعملون ويتلقون الأموال من الغرب. هذا ما قرأه التاجر الدمشقي في بعض الكتب. قص عليه أيضاً أن هؤلاء هم من أشعلوا الحرب العالمية الأولى والثانية وهم يخططون لإشعال الحرب العالمية الثالثة التي ستكون بين المسلمين واليهود وذلك للقضاء على هاتين الديانتين بعد أن قضوا على المسيحية في الغرب. هذا الصديق الدمشقي بقصصه هذه التي قرأها في الكتب شوّق صاحب الجبل للقراءة وجعله يتحسر كيف لم يدخل المدرسة ويتعلم. في كل مرة زار صديقه الدمشقي لجلب البضائع كان يبيت عنده ليلة وليلتين يستمع لقصصه وقصائده التي يقرأها له من بعض الكتب الملقاة على طاولة دكانه، فيحفظها عن ظهر قلب.
وعندما يعود إلى القبيلة يرويها لأصدقائه فيسكتهم ويشد انتباههم ساعات طويلة لأنهم لم يسمعوا هذه القصص والأشعار من قبل. روى لهم أشعار عنترة العبسي وامرؤ القيس التي أحبها فحفظها بسرعة. وروى لهم أشعار ماجد العدوان الذي أحب شجاعته وكرمه. كما روى لهم الحكايات التي ألفها هو بنفسه ليتهكم عليهم وعلى تحكم نسائهم بهم. هذه الحكايات شاعت وانتشرت في القرية والمنطقة لخفة دمها.
من هذه الحكايات حكاية فقير مغلوب عمل أجيراً عند احد الأثرياء فاستغله أبشع استغلال ليعود إلى بيته في نهاية اليوم منهكاً. كان لهذا الفقير المعدم زوجة متخلفة لا تحافظ على نظافة البيت ولا تهتم بزوجها وقد يأس منها لكثرة ما نبهها دون أن يجدي ذلك نفعاً. ذات يوم عاد الفقير إلى بيته جائعاً متعباً فوجد أن زوجته قد أعدت له طبقاً من البحتة المحلاة بالسكر ووضعته على الرف دون أن تغطيه. تناول الفقير الطبق فوجد أن أعداداً لا تحصى ولا تعد من الذباب قد سقطت فيه واختلطت بالحليب والرز فغرق ومات منها ما مات وظل الكثير يسبح محاولاً الخروج والنجاة. كان جائعاً جداً ومتعباً ولا وجود للمطاعم في قريته. فكر وفكر فلم يجد حلاً، فخلط الذباب بالرز والحليب وأكل كل ما في الطبق. كان غاضباً جداً ولم يعد يحتمل الحياة مع هذه الزوجة البليدة فقرر تركها والضرب في بلاد الله الواسعة. حمل عصاه وسار شرقاً. وبعد أيام من السير المتواصل وصل إلى مدينة كبيرة.
بعد أن دخل المدينة وأثناء سيره في شوارعها رأى حانوتاً يبيع الأحزمة فتذكر أنه بحاجة لحزام يشد بطنه الخاوي. اختار الحزام الذي يناسبه فأخبره البائع أن ثمن الحزام يشمل الكتابة عليه ما يشاء المشتري من العبارات، كاسمه أو اسم بلده أو بيت من الشعر يحبه. فكر الفقير قليلاً وقال للبائع: أكتب هذه العبارة "أكل مئات الآلاف ويبحث عن مئات الآلاف". طوق الفقير بطنه بالحزام الجلدي وواصل سيره في شوارع المدينة حتى تعب وكان قرب قصر شامخ فقرر الاستلقاء في ظله ليرتاح قليلاً. كان متعباً فنام نوماً عميقاً.

أثناء نومه أطلت ابنة الملك من الشباك فرأت رجلاً غريباً ينام على ظهره ويأتزر حزاماً يشهد له بالفروسية المفرطة. ركضت الفتاة إلى والدها وأخبرته بما رأت وأضافت أن الله أرسل هذا الفارس ليعينهم على حسم الحرب بينهم وبين المملكة المجاورة والتي مضى على نشوبها سنين طويلة دون أن يستطيع طرف حسمها. فرح الملك بالبشرى وأرسل حراسه لجلب الرجل. قرأ الملك ما كُتب على حزام الرجل وسأله: من أين أنت؟ وماذا تفعل هنا؟.


أخبره الفقير بما حدث له بالتفصيل وان هذه العبارة تعني أنه أكل الكثير من الذباب ويفتش عن المزيد وهي تعبير عن الأسى واليأس الذي يصيبه. تدخلت ابنة الملك وقالت لوالدها: لا تصدقه يا أبي. انظر إليه إنه فارس عملاق لكنه يحاول التهرب من القتال لأنه مله كما يبدو ونحن بحاجة له فلا تصدقه ولا تتركه. اقتنع الملك برأي ابنته فأمر بجلب أشرس حصان في المملكة. أعطاه للفارس وأمره باعتلاء صهوته. ابنة الملك اقترحت على والدها أن يأمر بربطه إلى السرج بسلاسل حديدية حتى لا يقفز عن الحصان ويهرب. أخذوا الفارس إلى الجبهة وهو مربّط إلى الحصان الشرس بالسلاسل الحديدية. انطلق الحصان الهائج والفقير يصرخ: أتركوني... أتركوني! لقد جن جنونه لمنظر الجيوش المجتمعة فازداد صراخه وحاول التشبث بأي شيء من حوله. وبينما الحصان ينطلق بسرعة علقت يداه وملابسه بشجرة فاقتلعها وظل لخوفه يحتضنها بين يديه ويصرخ. رأى المقاتلون في جبهة العدو المنظر فأصابهم رعب شديد وتقهقرت صفوفهم أمام هذا الفارس الذي لن يضربهم بالسيف بل بالشجرة كأنهم ذباب أو حشرات. تبعه فرسان الملك الذين ارتفعت معنوياتهم. دارت معركة حاسمة تكللت بالنصر. عاد الفارس المنتصر إلى العاصمة محاطاً بالأهازيج والهتافات فعينه الملك وزيراً للدفاع وبعد حين زوجه من ابنته الوحيدة ليرث العرش بعد وفاته.
كل أبناء القبيلة أصغوا لهذه الحكاية وحفظوها. لم يسأل واحد منهم هل هي حقيقية أم محض خيال. والمثير للدهشة أن كل واحد منهم أيقن أنه هو ذلك الفقير، وتمنى لو يفعل ما فعله إلا أنهم لم يحركوا ساكناً واستمروا بالتحرك وفق أهواء زوجاتهم ولم يجرؤ واحد منهم على التمرد.
دفع صاحب الجبل غرامة المحكمة لكنه لم يستطع دفع ضريبة الدخل. من أين له بخمس مائة ليرة؟ حتى لو باع كل قطعانه فلن يستطيع جمع هذا المبلغ.
عاد إلى بيته وقد ضاقت الدنيا في وجهه. فاليوم دفع أكبر مبلغ عرفه جيبه. مبلغ اقترضه ولا يدري كيف سيسدده. كان متجهماً منقبض الصدر فإذا بالقطط الثلاث بانتظاره. أحاطته وبدأت تلامس ساقية بأجسادها حتى كادت تمنعه من السير. لامست ساقيه ودارت حوله فتوقف عن الحركة كي لا يتعثر بأجسادها أو يدوسها. انحنى ولاطف ظهورها ورقابها بيده فنفشت أجسادها ورفعت ذيولها ودارت حول نفسها. شعر بارتياح شديد. أراد احتضان كل واحدة منها.
دخل خيمته فجاءت زوجته من الدار لتخبره أن رجال الشرطة ومندوبي ضريبة الدخل جاءوا ليحذروه انه إن لم يسدد المبلغ المطلوب قبل نهاية الشهر فسيتم الحجز على قطعانه وبيعها بالمزاد. يسدد المبلغ قبل آخر الشهر؟ من أين له بخمس مائة ليرة؟ هذه معجزة. توتر زوجته وتجهمها زاد من توتره. كان بحاجة ماسة لابتسامة. إلا أنها قصدت ألا توفر له ذلك. هذا ما استنتجه من حركتها. قرر ألا يدفع ليرة واحدة. قال ذلك بصوت مرتفع ربما ليري زوجته انه ما زال قوياً ولم يضعف. لقد اقترض من صديقة مائتي ليرة لا يدري كيف سيرجعها، فمن أين يقترض خمس مائة ليرة؟ من سيعطيه مبلغاً بهذا القدر؟.
قرر أن يبقي قطعانه منذ اليوم في السفوح وبين الغابات ولن يعيدها إلى البيت في المساء. سيخبئها أو سيبيعها ولن يمكنهم من حجزها. مرت الأيام بسرعة ولم ينتبه صاحب الجبل أن سهام وسالم أوعزا لجماعتهما بمراقبة تحركات قطعانه في الجبل. جماعة سالم وسهام جعلوا من هذه المراقبة تسلية يمارسونها لقضاء يومهم فهم جميعاً يتلقون منحة شهرية من التأمين الوطني رتبها لهم سالم لكونه رئيساً للسلطة المحلية. هذه المنحة تغنيهم عن العمل وتوفر لهم الوقت لمساعدة سالم للقيام بواجبه في التنسيق مع اليهود. كانت سهام هي التي تحضهم على إحكام المراقبة. جعلت هي أيضاً من ذلك تسلية تمارسها لقضاء اليوم فليس لديها ما يشغلها بعد أن لم يمن الله عليها بالأطفال. في القرية قالوا أن سهام متعلمة ولا تريد الإنجاب بشكل عشوائي.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة