للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
هكذا قضى سكان القرى الواقعة في حوض نهر العوجا (اليركون) قديماً حياتهم وأعمالهم اليومية: بين عمل ببيّارات البرتقال، وتربية المواشي، وفِلاحة المروج والسهول، أو التجارة على امتداد نهر العوجا وقلعة "البينار"، المُطلةِ على محور الحركة التجارية والحياتية، من كفر قاسم شرقاً وحتى يافا غرباً.
فماذا تعني كلمة "البينار"؟ إنَّها تعني بالعثمانية "رأس المنبع". في ذات المكان أقام الكنعانيون بلدة فيجيه، واليونانيون من بعدهم أقاموا بلدة "أفيك". ثم بنى هيرودوس بلدة أسماها على اسم أبيه "انتيبتروس" بالفترة الرومانية. ثم أقام الأمويون بالمكان قصراً ضخماً وفخماً، وأطلقوا على المنطقة اسم "أبا فطرس", في حين قام الصليبيون بتسمية المكان "ميربل". وبالفترة المملوكية برز وَسادَ اسمُ "العوجا"، بينما بالعهد العثماني أطلقت الدوائر السلطانية اسم "بينار باشي" أي رأس المنبع.
حوض نهر "العوجا" المتعرج تياره المائي بين التلال والوهاد والسهول، يهدر ماؤه مزمجراً صوبَ مصبه بالبحر الأبيض المتوسط. فهذا النهر الضارب في عمق الزمن، يروي الكثير من الحكايات والأسرار والقصص، لم تُسطرها الكتابات الأدبية ولا الروايات الملحمية، ولا حتى سيناريوهات الدراما الفلسفية. وقد توثق تاريخ حوض النهر لأول مرة، في نصوص "اللعنات الفرعونية الكهنوتية" المصرية القديمة، منذ القرن ال-18 ق.م. والتي كانت تشتمل على قوائم أعداء الفرعون، كرمز للحماية من أعداء بلاد النيل، للسيطرة والهيمنة على موارد التجارة والاقتصاد.
شكَّلَ حوض نهر العوجا بالزمن الغابر، حاجزًا غير قابل لعبور البلاد من الشمال إلى الجنوب. فقد قطع التيار الهادر البلاد الى جزئين. حتى أن الجيش البريطاني بالحرب العالمية الأولى، تعثر باجتياز النهر من جهة الجنوب حتى اضطر مرارا وتكرارا بناء الجسور للعبور.
قوافل الإبل التجارية، التي وصلت قديما لحوض منبع النهر من الشمال أو الجنوب، اضطرت لتجاوزه عبر الممر الضيق القائم ما بين المنابع المتدفقة وبين جبال السامرة، حيث كفر برا، وكفر قاسم التاريخية، ومجدل يابا وغيرها باتجاه الشرق. حتى أن السهل الفسيح الملامس لسفوح كفر قاسم، كانت تغمره مياه الروافد المتدفقة من أعالي جبال بديا في الحِقَبِ الغابرة. ما فتئت الأرشيفات تصف ذاك السهل، بمثابة بحيرة طولية الشكل، لطالما داعبتها أشعة الشمس المشرقة، من أعالي رأس الخَرّوبَةِ بكفر قاسم الغابرة. تلك البحيرة، جلبت وجذبت الكثير من أسراب الطيور، وبالذات الطائر الأبيض ذي السيقان الطويلة "أبي عصب"، مما جعل المنطقة تكتسب اسم الطائر لمدة تجاوزت ثلاثة قرون. بثلاثينات القرن الماضي، تمت زراعة المنطقة ببيارات البرتقال. فما انفكت روائحها الفوّاحة، تستقدمُ المُقدم قاسم من بلاد الرافدين، ليحفظ كرامة المكان، وينفض عنه جائحة النزوح وعالم النسيان.
منطقة خلابة، بل تحفة فنية، تحبس الأنفاس وتحمل الناظر على بساط سليمان، ليُبحر في تفكيره مشدوهاً مُتجولاً بين العصور والأزمان. كأنها قطعة من جنان مَلكوت السماء، قد تجلّتْ ووُهِبَتْ بكل فضائل الطبيعةِ التي تضمنت وجود وازدهار أمجاد الأمم: مصادر مياه متدفقة الانسياب، وأرض زراعية خصبة، ازدانت وتزينت برساتيق أشجار ونباتات طبيعية عطرية، من أجمل جنان الأرض السحرية. تِلكُم الأصنافُ من الزيتون، والتين، واللوز، والخروب، والبلوط، والسدر، والتوت، والصبر، والسريس، والزعتر، والميرمية، والعكوب، واللوف، والخبيزة، والاقحوان والبابونج وغيرها. علاوة على أزهار النرجس، وصابون الراعي والزنبق، تحوم من حولها أسراب الفراش والعصافير. وتراتيل البلابل والحسون الموسيقية، في صلواتها الصباحية العذبة، تسيلُ ايقاعاتها السمفونية على الفلاح بالنشاط والهمم. ناهيكُم عن موقع الدفاع الطبيعي والدولي للبينار، الذي تشغله المنطقة وتهيمن على مسارات التجارة والاقتصاد. تلك المواصفات بِرُمَتها جعلت عُصبة التلال المتعانقة قممها، تُشكِلُ مصدر إلهامٍ وإيحاء للقاطنين الأوائل بكفرقاسم التاريخية. وبالذات، بالقرن الثاني للميلاد، وتحديداً عام 121 ميلادي، خمسين عاماً بعد الاجتياح الروماني للبلاد. وهذا ما يُستدلُ من التنقيب، والبحث، والوثائق، والاثارات، وروايات الرحالة، التي لم تطلها يد انسان منذ عهود طويلة.
كثيراً ما تتحدث الوثائق العثمانية بأرشيف إسطنبول، عن أهمية المنطقة على مستوى المصطلح "الجيو-سياسي"، بمفهوم الفكر المعاصر "Geopolitik" للمفكر فريدريك راتزل من جامعة هايدلبرغ الألمانية. حيث أن منطقة حوض "البينار"، كانت بمثابة عقدة مواصلات للقوافل التجارية المحملة بالبضائع، بين مصر ومراكز الحضارة ببلاد الرافدين، وسوريا والأناضول. وكانت نقطة الوصل ما بين دمشق والقاهرة، بسنوات حكم بيت عثمان.
وثيقة عثمانية مؤرخة منذ 4 حزيران 1571م، زمن السلطان سليم الثاني (1524- 1574)، ابن السلطان سليمان القانوني (1494 – 1566) باني أسوار القدس العظيمة. تضمنت تلك الوثيقة أمراً احترازياً لكل من أحمد بك، حاكم سنجق نابلس وريزون بك، حاكم سنجق غزة فيما يخص بناء قلعة "بينار" التابعة لسنجق نابلس، لامتيازات موقعها كعقدة مواصلات مفصلية بين دمشق والقاهرة.
وثيقة أخرى مؤرخة منذ 25 آب 1573م، موجهة لكبار المناصب في دمشق، البكلربك (بك البكوات) ودفتردار (مسؤول السجلات). تضمنت الوثيقة تفاصيل إقامة قلعة "بينار"، المتشكلة من 82 وحدة سكنية ثنائية الطوابق. بحيث يتم تخصيص الطابق الأرضي للخيول. وبمركز تلك الأبنية السكنية يتم تشييد مسجد مع مئذنة، وكل ذلك بتكلفة 2200 قطعة ذهبية عثمانية. وتتطرق الوثيقة لأمر ازالة مخلفات البناء والتراب من القلعة بعد إتمام المشروع. بحيث يتقاضى الجنود أجرتهم تلقاء ذلك من سنجقي نابلس وغزة. وتجدر الاشارة هنا، الى التحاق العديد من سكان كفر قاسم بالذات للجيش العثماني، ومنهم من وصل الى رتب عسكرية عليا. حيث كانت كفر قاسم تتبع للواء نابلس مئات السنين، حتى تم نقلها للواء طولكرم، قبيل انتهاء الانتداب البريطاني. ربما، حسب المصادر التي تمت حيازتها، باستثناء فترة قصيرة كانت القرية تتبع فيها لسنجق القدس، في خضم إقامة مشروع المنشأة الخيرية للفقراء والمحتاجين، تكية "خاصكي سلطان" على يد "روكسلانة"، زوجة السلطان سليمان القانوني، حينما زارت القدس عام 1552.
تانك الوثيقتان وغيرهما من أرشيف إسطنبول، تُسلط الضوء على الأحداث المرتبطة ببناء القلعة العثمانية "بينار باشي", المحاذية لكفر قاسم ومجدل يابا على منابع نهر العوجا، والتي زودت علماء الآثار فرصة نادرة للتحقق من الاكتشافات والأسوار البَكْماء، التي عاينت وعايشت النهر والدروب عبر الدهور بصمت ووجوم.
وتجدر الإشارة، الى أن العديد من الرحالين العرب والأجانب، قد جابوا البلاد من شمالها لجنوبها، مُروراً بقرى قاقون، وقلنسوة، والطيبة، والطيرة، وجلجولية، بالقرنين ال-18 وال-19. حتى أن الرحالة البريطاني جيمس ""James قام بكتابة الوصف التالي حينما وصل كفر قاسم: "وصلنا بئراً عميقة للغاية. فهمنا ذلك من خلال الحبل الطويل، والمربوطة بآخرهِ جِرار وأوعية جِلدية، تنتشله مجموعة نساء وهن مستمتعات بنشل المياه والغناء..." ومن ثم يتابع جيمس بوصف ما شاهده من معالم أثرية بكفر قاسم وبالذات بِرْكَة العامود وبمحاذاتها نواميس وتوابيت حجرية منقوشة بشكل هندسي دقيق وجميل. هذا وقدَّرَ الرحالة الفرنسي فيكتور"Victor" حينما زار كفر قاسم عام 1870م، أن عدد السكان أربعمائة نسمة.
إذَن هكذا كان حال الناس قديماً بقرى حوض "البينار" ببساطتهم الحياتية، يسرحون ويمرحون ببيّاراتهم وفلاحة أراضيهم يروونها من "البينار" الفيّاض. بل ويتحلق أبناء البيت الواحد يتبادلون أطراف الحديث بعد عناء يوم عمل شاق، وقد تفقد كل منهم راحلته ومواشيه. فقد كانت جرة المياه الكبيرة في زاوية بناء العَقدِ منتصبة، وفي الزاوية الأخرى فانوس مشتعل بالزيت. ولسور البيت بوابة خشبية عظيمة تُغلق بقطعة خشبية تسمى "العَنَك" لها نقر مخصص في الجدار. وفي ليالي رمضان، كان المسحراتي يطوف الأزقة والبيوت. وكانت الأم تقوم مُبكراً لإحماء الطابون التراثي الأصيل، منه تنبعث رائحة الخبز البلدي الساخن لِتُوِهِ. انها قصة حياة القرويين تتوسطها كفر قاسم في عمق الزمن أجيال تتوارثها أجيال.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com