الأخبار العاجلة
حِواريَّةُ الخَيرِ والشَّرِ الأَزَليِّةُ - اطلالة جديدة على كتاب "الشّيطان والانسة بريم"
هل الشّر هو سيّد الموقف؟ أم أن الخير في النّاس ما زال له وقع وتأثير على مجريات الامور الحياتية؟ في اليوم العادي قد لا نسأل هذا السؤال وقد لا نحاول أن نجد اجابة، انما نحاول ان نتعامل مع المواقف كما تأتينا بكلّ الخير الذي فيها إن كان وبكل الشّر الذي فيها إن كان. بالتالي نحن لا نعرف تماما من هو الحاضر اكثر او الاقوى من بين الاثنين بالذّات وان هذه المسألة صارت تتماهى مع الحالة الشخصيّة والمصلحة الذاتيّة للفرد من مكان تواجده وحضوره الفرديّ والمجتمعيّ، وتعريفه لما هو خير وما هو شرّ وفق وجهة نظر تعتمد اعتباراته ودوافعه الخاصّة. قد نجد الخير في مواطنَ قليلة، واحيانا قد لا نستطيع فهم أو تفسير هذا الخير في زمن نجد فيه الشَّر بكل صورهِ على صعيد مجتمع واقتصاد وسياسة وحرب واقتتال وعنف شخصيّ وفكريّ وحزبيّ ونفسيّ وجنسيّ ومجتمعيّ، ليصير هو الواقع المقبول والعادي واليومي المتداول الذي لا جدل فيه بسبب "المفهوم ضمنًا" الذي يتغطّى بمصطلح "هذا الموجود" "هذا هو حال الدنيا" "هيك الدنيا... الشاطر بشطارته" "العبها صح" وما الى ذلك من تبريرات وتشريعات لتداعيات الحالة وكأنها السّراط القويم وعليه تسير مجريات الامور ومن لا يتماهى معها او يتماشى معها فهو نشاز او ساذج او حالم ولا يعرف انتهاز الفرص او اقتناصها. في خضم هذا الحوار السّرمدي وتفاقم الشّر في محاور الحالة المجتمعيّة التي نمارس حضورها يوميًّا كجزء من صيرورة حتميّة مفروضة على الفرد والمجموعة والشّارع والمؤسّسة ايٍّ كانت، تستوقفني من جديد، في قراءة ثانية، رواية "الشّيطان والآنسة بريم" للكاتب البرازيلي باولو كويلو، من ثلاثيّة "اليوم السابع".
تشكل الرّواية محاولة أخرى للحوار بين الشّر والخير وللاجابة عن أسئلة حول النّزاع والصّراع الازليّ بينهما. ما هي الدّوافع التي تجعلني طيّبا أو شريرا؟ والسؤال هو "ما إذا كانت الطبيعة البشرية سيئة أم طيبة؟". مثل الكثير من المفكّرين من قبله، يناقش كويلو في روايته قضية الشّر في الطّباع البشريّة. وقد نجد طرحًا لافتًا في علم النفس حيث اعتبر زيغموند فرويد، في نظريته التحليلية، أن الانسان شرير في طبعه ويسعى الى سدّ حاجاته الغرائزيّة، بينما كارل روجرز في نظريته الانسانية اعتبر الانسان خيّر وطيب في طبعه ويسعى الى تحقيق الذات، أما وفق النظريات السلوكيّة فتضع على المحكّ اكتساب سلوك الفرد وفق التّدعيمات والمحفّزات التي يحصل عليها الفرد في مراحل تنشئته وتؤكد على دور المحيط والبيئة في خلق "الشّياطين" او "الملائكة".
تحاور الرّواية طبيعة الخير والشّر في الناس وتدور احداثها في قرية هادئة، تسير ضمن جدولة زمنيه محدّدة وروتين رتيب، إلى ان حضر الى القرية "الرجل الغريب" وفي جعبته سبائك ذهب وتحدّيات تحاكي الطّباع البشريّة. بيرثا، المرأة العجوز، كانت تقضي وقتها تتحدّث مع روح زوجها الذي رحل منذ مدة طويلة، وتنتظر مجيء الشّيطان، كما تنبّأ زوجها. تنتبه بيرثا الى "الشخص الغريب" الذي اتى ليقضي اسبوعا في القرية، موقنة تماماً بأنها رأت الشيطان. كان "الشخص الغريب" (كارلوس) غنيًّا لكن فقد ثقته في العدالة الإنسانية بعد أن قتل الإرهابيون زوجته وعائلته. للتحقّق ما إذا كان الشّر هو طبيعة الإنسان يقرر "الغريب" فرض معضلة شيطانيّة أمام أهل القرية، ويضع عشر سبائك ذهبية في حفرة في الغابة، إلّا سبيكة واحدة يدفنها بعيدًا عن تلك الحفرة بأمتار. في طريق عودته من الغابة نحو الفندق الذي ينزل فيه، يلتقي بالآنسة الجذّابة شانتال بريم التي ملّت وتيرة الحياة البطيئة في القرية النائية. يتعارفان ويتحدّثان ويقودها إلى الحفرة في الغابة ويطلعها على سبائك الذهب ويحكي لها عن سبب زيارته. اختار "الرجل الغريب" شانتال لتكون اداة الشيطان في تنفيذ ارادته، مقابل سبيكة من الذهب لتأخذها لها وحدها لتساعدها في تحقيق احلامها، ووعدها ألا يكشف سرّها لأحد، وأما السبائك الذهبيّة العشر الباقية في الحفرة الأولى ستكون لأهل القرية، وهي تضمن لهم مستقبلا مشرقا الى الابد، شرط أن يقوموا بقتل أحد أبناء القرية. ليتم ذلك عليها أن تخبر أهل القرية وبالتالي ينفذون رغبة "الرجل الغريب" وهي الاخلال بإحدى الوصايا العشر وهي (لا تقتل)! هذه الحالة تضع اهل القرية امام التّحدي لتغيير حياتهم مقابل اقتراف خطيئة مميتة، أهل القرية الذين يعيشون في ظل خوفهم من العقاب، ويرفضون كل ما لا يتماشى مع معتقداتهم. "ليست الرّغبة في الخضوع للقوانين هي التي تلزم الجميع بما يفرضه المجتمع، بل الخوف من العقاب... كل منّا يحمل مشنقة في أعماقه".
هذا الصراع بين الرغبة والغريزة وبين الفضيلة والمثاليات، الذي تجسده النّظرية التحليلية من خلال الصراع بين الـ id الذي يشمل الغرائز وبين الـ super ego الذي يشمل الضمير والمثاليات، صراع بين ملاكَيّ الخير والشّر. هذا الصراع يقع على كاهل الآنسة بريم وأيضا على أهل القرية الذين لكل منهم احلامه الخاصة، التي لم يكن تحسين مستقبل القرية واردا في اي بند منها، لكن تلك هي الذّريعة الشريفة التي سيرتكبون المعصيّة لأجلها، كآليّة دفاعيّة "التبرير" لتحمي "الايجو" الأنا من التعامل مع واقع صعب كما اقترحت نظريات علم النفس التحليلي. لحل هذه الازمة الاخلاقية كان لا بد من ايجاد مبررات ترفع اثقال الذنب عن كاهلهم وتبرير خيار التّحالف مع الشيطان، وهذا ما يفعله البشر لتشريع اللامقبول او المعصيّة بما يتماشى مع احتياجاتهم وواقعهم. اذا قمنا بمقارنة سلوك الانسان مع سلوك الحيوان الغريزيّ نرى بأن الحيوان يقتل أو يكون عدائيًّا اذا كان جائعًا أو خائفا من وضع يهدّده أو يهدّد أطفاله. بينما يقترف البشر الفظائع ضد الانسان وغير الانسان جسديّا وجنسيّا وفكريّا ونفسيّا ومجتمعيّا والدوافع لا يمكن تفسيرها من منطلق غريزة فقط أو صراع البقاء.
تضعنا الرّواية أمام مواجهة فكريّة بين الخير والشّر، حيث تدور معركة داخلية في تفكير شانتال، فهي ترى في الذّهب فرصة للهرب من القرية والانطلاق وتحقيق احلامها، لكن شيء ما يستوقفها. تطلع شانتال أهل القرية على خطط "الغريب" على أمل أنهم سيرفضون صفقته، فمشاركة الاخرين بالعبء تقلّل من حجم المسؤولية، كما يتصرف البشر غالبا. ومع ذلك، راودها القلق بأن يقبل أهل القرية الصّفقة ويتم اختيارها هي كضحيّة. في حالة يأس تقرّر شانتال أن تهرب الى المدينة ومعها سبيكة ذهبيّة، لكن يعترض طريقها ذئب متوحّش في الغابة، ولحسن حظّها يأتي "الرجل الغريب" ويتمكّنان من الهرب والنجاة.
لا يهم من تكون الضّحية ولا مواصفاتها، فهذه الجريمة، مقابل عشر سبائك من الذّهب، ستعيد الحياة بكل أشكالها إلى القرية، لذلك وقع الاختيار على العجوز بيرثا زاعمين أن حياتها تشرف على النهاية وهي تعاني الوحدة منذ وفاة زوجها، ويتّهمها البعض بأنها ساحرة. في البداية رفضت "بيرتا" التّضحية، لكن في النهاية استسلمت إلى ما أختاره الرّب لها، بعدما احتشد أهل القرية مُطالبين بالرضوخ للقرار الذي سينقذ القرية. وشربت كأس الماء الذي وضع فيه المنوّم وهي تقول "ماء عديم اللّون وعديم الطّعم ومع ذلك فهو اكثر الاشياء اهمية في العالم، مثلي تماما في هذه اللّحظة". الخير والشر في نهاية الأمر هما رهن الارادة، فالقديس معرّض لمغريات الخطيئة كما الخاطئ نفسه، وما يفصل بينهما هو ارادة كل منهما. ان التحدّيات التي نتعلم منها في الحياة هي تلك التي لا تتماشى مع طبيعتنا الخاصة، بل التي تضعنا أمام حريّة الاختيار. قبل تنفيذ الاعدام بحق "بيرتا" العجوز رميًا بالرّصاص، تصل شانتال وتنجح في اقناع اهل القرية بعدم تنفيذ الجريمة وبأن القتل غير مبرّر تحت أي ظرف كان.
هكذا، شانتال تقدم اجابة لسؤال "الرجل الغريب" ولنا أيضًا، بأن الخير والشّر موجودان في كل واحد منا، وأفعالنا هي نتيجة لاختياراتنا وقراراتنا ونتيجة لتلك الحوارية بين الخير والشّر وفق الحالة الكونية لكل واحد منا. في النهاية، رفض أهل القرية الانصياع الى صوت الشّر بسبب ايمانهم بمبدأ "آهاب" الذي هو بذاته كان في البداية ظالما قاتلا يتحكّم بكل أهل القرية، الى أن صارت معه حادثة مع الكاهن سافان القديس الذي غيّر مجرى حياته حين قضى ليلة عنده في البيت رغم معرفته بأنه سيجهز عليه، اذ كان معروفا بشرّه. تحول "آهاب" الى انسان طيب بسبب جرأة الكاهن وعدم خوفه وايمانه وبالتالي آمن هو أيضا واتّخذ الخير منحى له. يقدّم الكاتب حكمة لنا: "ينبغي للشّر أن يظهر ويلعب دوره، لكي يستطيع الخير، في النّهاية، أن ينتصر" "للخير والشّر وجهٌ واحدٌ، كلّ شيء يتعلق باللّحظة التي يلتقيان فيها بالكائن البشريّ أثناء طريقه".
نعود الى الطّرح في بداية هذه المقالة، من هو سيّد الموقف؟ الخير أم الشّر؟ أم أن الموقف هو سيّد الاحكام وسيّد القرار؟ هل صار الخير والشّر عرضة لتأويلات غير موضوعيّة لتشريع او عدم تشريع ايّ عمل او سلوك يقدم عليه الانسان؟ أسئلة تدور وتبقى في فُلك الحياة اليومية وفي مدارات الفرد والمجتمع وتبقى الى الأزل في حوار أو صراع سرمديّ او في معايشة وفق رؤية ذاتيّة ومنطق غير موضوعي وهو الذي يصنع الحالة المجتمعيّة والفكريّة والثّقافيّة والشّخصيّة، كجزء من دائريّة كونيّة، كما هي الطّبيعة والغريزة البشريّة، كما هي مجريات الامور في كل الحالات.
حيـفا
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency