الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 15:01

لا مبرر لأي تطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي.../ بقلم: ابراهيم عبدالله صرصور

ابراهيم عبدالله صرصور
نُشر: 03/09/20 12:15,  حُتلن: 19:10

ان يُوَقِّعَ حكام الامارات والسعودية والبحرين اتفاقيات من المحتل الاسرائيلي، امرٌ لا استغربه، بل إني سأكون متفاجأ إن هم فعلوا غير ذلك، فهم قد مردوا على التآمر والعمالة لسبب بسيط وهو انهم لا علاقة بينهم وبين ثوابت الامة الدينية والوطنية، وانهم مجموعة من الحكام الذين فرضوا سلطانهم على شعوبهم بقوة المستعمر الذي تربوا على عينه، وان دويلاتهم ما اقامها المستعمر البريطاني الا لتؤدي وظيفة جوهرها ضرب النهضة العربية والاسلامية، ولتكون وكيلته في حماية مصالحه ومصالح اسرائيل..

بدأ التراجع في خطاب النظام العربي الرسمي عموما تجاه فلسطين وقضيتها خصوصا، والقضايا العربية عموما، مبكرا.. بدأ هذا الخطاب غير متهادن ولا مساوم، وكان شعاره "التحرير الكامل لفلسطين والأرض العربية المحتلة"، و "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد الا بالقوة"، ثم بدأ الانحدار في الخطاب ووصلنا مرحلة كان شعارها "إزالة آثار العدوان"، لينحدر بعدها الى مرحلة انسحاق جديدة حملت الشعار "إنقاذ ما يمكن إنقاذه "، ليصل بعدها الى مرحلة أخرى بلغت ذروة جديدة من الانحطاط حملت الشعار "الأرض مقابل السلام".. لم يتوقف الامر عند هذا الحد، بل استمر مسلسل التنازلات حتى وصلنا حقبة أصبح شعارها "خذ ثم فاوض"، فلما لم تُعط إسرائيل ما يمكن ان يُؤخذ، أصبح شعار العرب الجديد "المفاوضات هي الخيار الاستراتيجي"، فلما أصرت إسرائيل على "التفوق العسكري والحرب" كخيارها الاستراتيجي الوحيد، جاءت مرحلة الانسحاق "السلام مقابل السلام"، و "زهقنا من القضية الفلسطينية"، و "اليهود لهم كامل الحق في فلسطين، ولا حق للفلسطينيين فيها"، و "ليقبل الفلسطينيون بأي عرض إسرائيلي قبل أن تكون النهاية"، و "إسرائيل جزء طبيعي في المنطقة"، و "نحن بحاجة ماسة لإسرائيل لتطوير بلادنا العربية فهي متفوقة على العرب في كل المجالات"، و "إسرائيل مدخلنا الوحيد لقلب ساكن البيت الأبيض، ورضاه من رضاها".. الخ..

لضمان نجاح هذا التوجه الخطير وغير المسبوق ربما في التاريخ، فقد ترافق هذا الانهيار العربي بحملة وحشية ضد كل القوى الحية في امتنا العربية والإسلامية وعلى رأسها حركة (الاخوان المسلمون) الأكثر تنظيما وتأثيرا وقوة وقدرة على التغيير، ومنع أي تغيير في اتجاه دمقرطة المجتمعات العربية تمهيدا لتخلصها من كل صور الاستبداد والدكتاتورية، وشن الحرب على الإسلام ومبادئه وقيمه واخلاقه ومقاصده من خلال الطعن في كل ثوابته، والانتقاص البشع والبائس من رموزه العظيمة عبر التاريخ، والترويج لثقافة مسمومة جديدة مفادها ان أية نهضة الامة لا بد وان تكون على انقاض تراثها ودينها، تماما كما وقع في الغرب، وهو الخداع الذي لا يمكن ان ينطلي الا على الجهلة والمضللين والعابثين والحاقدين..

عرف الغرب الاستعماري انه لن يطمئن الى تحقيق أهدافه في الشرق على النحو الذي ذكرته آنفا إلا إذا:

أولا - أسقط السقف الجامع للامة العربية والإسلامية وهي الخلافة الإسلامية، وقد نجح في ذلك مع الأسف بالتعاون مع عملائه العرب..

ثانيا - فَتَّتَ الامة وقَسَّمَها جغرافيا تمهيدا لتقسيمها سياسيا وفكريا وثقافة، وقد نجح - مع الأسف - ايضا في هذه بعد اتفاقية (سايكس – بيكو)..

ثالثا - أقصى الإسلام وأصحاب مشروعه الوحدوي والنهضوي عن منصة الحكم، واستبدل كل ذلك بأنظمة هي اشبه ب "ملوك الطوائف" التي لا صلة لها بشعوبها من جهة، ولا بثوابتها الدينية والوطنية من جهة أخرى، والمستعدة دائما للتضحية بأعظم مقدساتها من اجل بقائها في السلطة، واستمرارها في الحكم.. وقد نجح الغرب في ذلك أيضا من خلال تآمره على ثورات الربيع العربي التي ما تزال تتفاعل حتى اللحظة.

رابعا – إقامة الدولة الحاجزة (Buffer state) في منطقة الشرق الأوسط والتي وظيفتها ان تتحول مع الزمن الى شرطي المنطقة التي لا تطمئن انظمته الا لها، وقد أصبحت إسرائيل عدوة الامس - بناء على هذه الاستراتيجية - حليفة اليوم لكثير من أنظمة " ملوك الطوائف" العربية ضد اشقائها في المنطقة كتركيا وإيران كمثل..

(1)

إِلا أَنَّ الذي يثير الاشمئزاز والتقزز ان تجد أنظمة "ملوك الطوائف" هذه من مشايخ البلاط والسلطان من يدافعون عن سياساتها المهرولة تجاه اسرائيل، ويُفتون بصواب حملاتها الاجرامية ضد الاسلام واهله.. مثال ذلك، ظهور "كومبارسات" من هؤلاء العكاكيز المسماة ب "رجال دين!!!) زورا وبهتانا، ليبرروا الاتفاق الاماراتي - الاسرائيلي - الصهيوني.. المهم ان هؤلاء يتلقون التعليمات من صغار رجال المخابرات الذي يُلقون إليهم بالأوامر، حول ما يُراد منهم في القضية المطروحة.. فهم لا يوقعون عن الشرع الحنيف توقيعا مجردا عن كل غرض وهوى، بل يوقعون عن حكامهم واولياء امرهم من المفرطين.. (الحق) في نظر هؤلاء الذين يُسمون "شيوخا" ما يأمر به سادتهم، وإن كان مخالفا لقول الله ورسوله.. و (الباطل) في نظر هؤلاء ما يرفضه اولياء امرهم من المستبدين والفسدة وإن كان موافقا لما أمر الله به ورسوله..

فوق انه لا مبرر لهذا الاتفاق بين الامارات والمحتل الاسرائيلي من اي وجه سياسيا كان او اخلاقيا او اجتماعيا او اقتصاديا أو حتى امنيا وعسكريا، فمن باب اولى الا يكون له مبرر ديني! مع ذلك، نرى "مشايخ البلاط" يتطوعون لتوليد الفتاوى دعما لهذه المواقف المستهجنة، فيلوون اعناق الادلة النقلية والعقلية والحوادث التاريخية، من اجل اضفاء الشرعية على قرارات اقل ما يُقال فيها انها خارجة عن كل منطق عقلي مقبول..

(2)

نموذج ذلك سوقهم ل - (صلح الحديبية) وتفاصيله، واتفاق الرسول عليه الصلاة والسلام مع اليهود في المدينة، ليُضفوا شرعية مزيفة على سياسات حكامهم التي لا علاقة لها بالإسلام ومبادئه وقواعده واخلاقه اصلا..

(الحديبية) لم تكن تطبيعا مع كفار مكة، ولا اعترافا بحكمهم وشرعيته في مكة، ولا صلحا ابديا، بالرغم من انهم لم يكونوا (محتلين) لمكة، وإنما طغاة اجبروا اهلها من المسلمين على الهجرة من وطنهم إجبارا.. لذلك، عند اول نقض لقريش وحلفائها بنود الاتفاقية، انتهى مفعولها، وكان نقض الصلح سببا في فتح مكة وانهاء الكفر، وسيادة الاسلام في الجزيرة العربية..

أما (وثيقة المدينة) فتعتبر الوثيقة الدستورية المدنية الاولى من نوعها في تاريخ البشرية، والتي أسست لعلاقة واضحة بين الدولة الاسلامية في المدينة المنورة بعد ان استقر الرسول عليه الصلاة والسلام فيها بناء على اتفاق بينه وبين اهل المدينة من الاوس والخزرج (الانصار)، وبين مواطنيها من كل مِلَّةٍ ونِحْلَة...

كانت القبائل اليهودية (بنو قينقاع، بنو النضير، وبن قريظة) جزءا من مواطني المدينة المنورة عند وصول الرسول عليه السلام اليها.. لم يكونوا فيها محتلين ولا مغتصبين، وكانت لهم كياناتهم فيها، كل قبيلة في آطامها واحيائها.. كان لهم دور مؤثر وحضور واضح بغض النظر إن كان سلبا او ايجابا، قبل وصول الرسول عليه السلام اليها، وما كانوا راضين من وصوله، بل وكانوا رافضين له، الا ان الرسول عليه الصلاة والسلام وضع الوثيقة الدستورية للدولة التي شكلت الإطار القانوني لعلاقة الدولة برعاياها، وعلاقة رعاياها بعضهم ببعض، وهكذا..

لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم أكثر الأوس والخزرج، تقبّل اليهود فكرة المهادنة بينهم وبين المسلمين، والتعاون المشترك لمصلحة الطرفين. ولكن أهداف الإسلام، وقيمه، التي تقوم على التآخي، والعدالة، والمساواة، وتحريم الربا والغش والاستغلال، واحترام جميع الأديان السماوية والمعتقدات، لا يتفق مع أماني اليهود ورغباتهم ونيَّاتهم. وقد ازدادوا حذراً وحسداً عندما وجدوا أن محمداً لا يُخدع، ولا يستسلم لضغط، وأن الإسلام يغزو النفوس، ويسيطر على العقول، ويسير في شبه الجزيرة العربية بسرعة غير عادية، فوقفوا موقف الحذِر الذي يستغل الفرصة للوقيعة بخصمه

لفت انتباهي الاسس التي شكلت الوثيقة التي حددت علاقة الدولة مع رعاياها اليهود وهي: أولا - التعايش السلمي.. ثانيا - الدفاع المشترك.. وثالثا - عدم الاعتداء، هذا بالإضافة الى بنود دستورية واضحة ضمنت لليهود حقوقهم المدنية الكاملة، وحفظت لهم كياناتهم وديانتهم ودور عبادتهم، وما كانوا يحوزونه من قلاع وأسواق (الذهب والسلاح) وتجارة وارض هي الاخصب في المدينة بما في ذلك مصادر المياه، في وقت كان الرسول فيه قادرا على وضع اليد على المناطق الحيوية امنيا واقتصاديا، إلا انه لم يفعل، وجعل الثقة بين الدولة ورعاياها هي اساس المواطنة..

تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع اليهود بكل أمانة وعهد بناء على الوثيقة الموقعة معهم، والتي فيها من العهود والأمانات الكثير ومن أهم بنودها: أنهم مع المؤمنين أمة واحدة، ولكل فئة دينها، وحقها في إقامة شعائرها، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وبينهم النصح والإرشاد، والنصر للمظلوم، واليهود متفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وبينهم النصر على كل من يداهم يثرب، وعدم حماية الظالم والآثم من الجانبين..

ظل هذا الوضع على هذا النحو حتى ظهر من يهود المدينة ما ظهر من خيانات بدأت بإظهار العداوة للرسول ودينه، وسخريتهم منه ومن المسلمين، وتوتيرهم المستمر للأجواء في المدينة ومحاولات الوقيعة الدائمة بين الأوس الخزرج، ودعمهم لكفار قريش في كل ساحة وميدان، وتخطيطهم لاغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام وهو بينهم، وصولا إلى تحالفهم العسكري مع جيوش الكفر التي حاصرت المدينة في معركة الخندق، تريد استئصال شأفة المسلمين، بالرغم من اتفاقيات الدفاع المشترك الموقعة بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، وما يربط بينهم وبين الدولة المسلمة من عهود ومواثيق لم يحصل ان نقضها الرسول او قصر في تنفيذها نصا وروحا ولو مرة واحدة!

كان لا بد عندها من اللجوء إلى الكيّ لعلاج هذا الانحراف الخطير الذي بدأ يهدد امن واستقرار دولة الإسلام.. كان لا بد عندها من إعادة النظر في التعامل معهم على أساس الحزم والقوة بدلاً من العفو والتسامح والرفق الذي لم يجد نفعاً، فليس من المصلحة أن يُتركوا يعيثون في الأرض فساداً، وينقضون العهود والمواثيق، ويسدِّدون ضرباتهم للمسلمين كيف وأنى شاءوا، بل لا بد من الرد الحاسم والحازم والعادل على كل اعتداء ومواجهة، وعلى كل تحدٍّ وتآمر وكيد وخيانة، فواجههم النبي الكريم بما يتناسب مع حجم جرائمهم.

(3)

لكل ما ذكرت آنفا، لا مكان لأية مقارنة من اي وجه بين سياسات الرسول مع كفار قريش في (الحديبية) ولا مع اليهود في المدينة (الوثيقة)، وبين الهرولة للتطبيع مع اسرائيل التي ما زالت تحتل فلسطين والقدس والمسجد الاقصى، وتشرد الشعب الفلسطيني في كل ارجاء الأرض منذ نكبة عام 1948م، وترفض تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وتتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني في اقامة الدولة المستقلة على حدود العام 1967وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين وغيرها، وتعمل ليل نهار على ابتلاع فلسطين من البحر الى النهر استيطانا ومصادرة للأرض وانتهاكا للحريات، وتهويدا للمقدسات وفي قلبها القدس والاقصى المبارك، وقتل الابرياء وسجن الاحرار، والسيطرة على المصادر الطبيعية بما فيها مصادر المياه والاراضي الزراعية... الخ...

هذا بالإضافة الى ان اسرائيل داست بحذائها الثقيل على مبادرة السلام العربية التي تعتبر الاكثر انبطاحا على مدار تاريخ الصراع، الا انها اشترطت على الاقل ان تكون اية علاقة محتملة مستقبلا بين الدول العربية واسرائيل كنتيجة لإقامة الدولة الفلسطينية وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة...

تسابُقُ الدول العربية للتطبيع مع اسرائيل (الامارات كنموذج)، بالرغم من تنكر الأخيرة لكل حق عربي وفلسطيني، وبالرغم من اصرار رئيس وزرائها نتنياهو على ان اي اتفاق سلام بين اسرائيل واية دولة عربية هو (سلام مقابل سلام)، لا علاقة له باي تنازل اسرائيلي من اي نوع سواء تجاه الفلسطينيين او غيرهم، امر لا يدع لنا مجالا للشك ان التطبيع هو (خيانة) للثوابت الدينية والوطنية وليس اقل من ذلك!

* الكاتب - الرئيس السابق للحركة الاسلامية في الداخل الفلسطيني.

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com 


مقالات متعلقة