الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 28 / مارس 13:02

هل لنا بتقويس الضّبع قبل أن يقضم عظامنا؟

بقلم: د. يوسف شحادة

د. يوسف شحادة
نُشر: 13/02/21 11:51,  حُتلن: 13:38

ولمّا كان الضبع في الذاكرةِ الشعبيّة حيوانًا غدّارًا، بارعا في اصطياد فريسته من الإنس وله قدرات خرافيّة، لا يزال الناس يتناقلون في متخيَلهم الشعبيّ حكايات "ولائم الضباع" بطُهاتِها وآكليها. ويقال إنّ الضبع "يضبع" الإنسان برائحته فيُخدّره وإذا بوّل على ذيله ورشق به طريدتَه من بني البشر يسلبها إرادتها وقواها العقليّة فيتبعه المسلوبُ مستسلمًا ومناديًا: "يا أخوي...وقفْ لي". ويبقى يكرّر هذه العبارة مرّات ومرّات وهو يركض خلف الضبع حتى يبلغ المغارة فيفترسه، ولأنّ الضبع كما تروي الخرافةُ لا يفترس بني البشرِ إلّا نيامًا أو أمواتًا، فإنّه يدغدغُ الإنسان حتّى "يموت من شدّة الضحك" ثمّ يلتهمه. ولمّا كان الضبع ذا قدرات خرافية خارقة، لا يمكن لشخصٍ سَحَبَه الضبع أن يؤوبَ إلى رشده إلّا إذا سال منه الدمُ لضربة تلقّاها من شخص أو حجر أو شجر. وعليه يروى أن من يلمح شخصًا قد سحبه الضبع فليضربه بحجرٍ أو يجرحه بخنجرٍ كي يسيل دمه ويستفيق. وتتّفق الروايات على أن من يصرعُ ضبعًا يعدّ بطلًا أسطوريًّا تروى عنه الروايات لأنّه كفّ شرّ الضبع عن أهل البلد جميعًا.
إنّ توظيف الخرافة لفهم حالنا ينطوي على مفارقة صارخة، بين كوننا أقليّة لم تلتئم جراحها من الضباع بعد وتستدعي التضامن واللحمة لدرء المخاطر المُحدِقة بنا وبين التماهي مع جلّادينا من الضباع، ومن نافلة القول أنّ حالنا الراهنَ، نحن أبناءَ الأقليّةِ الفلسطينيّة هو مبعث للقلق لفلتان الضباع بيننا في هذه الفترة الحرجةِ وخشيتنا على انتشار عدوى "التضبّع" ومضاعفاتها دون أن نطلق حملة التلقيح ضدّها. تطُل الضباع علينا في وضح النهار بعد أن كانت تنشطُ ليلًا في أوجارها، تذهلنا بفصاحتها وقدرتها على تأليف العبارات المنمّقة وإخفاء النظرات الماكرةِ لمحو ذاتنا الإنسانيّة في حضرتها ثمّ تُغذّي وتؤجّج الذواتِ المغتربةَ منّا لقهر اغترابها ومحو هويّتها وكأنّها تتعامل مع كائنات تجريبيّة لا تاريخَ ولا هُويةَ ولا إرادةَ مستقلّة لها، ظنًّا منها أنّها لا تتقن سوى الجري وراء الضباع لفقدان ضالّتها. هذا تمامًا هو حالنا في حضرة مجموعة لا بأس بها من بيننا، تسير على غير هدى خلف أشخاص "يضبعونهم"، يُمَرغهم كبير الضباع بمعسول الكلام ويسيطر على عقولهم لغايةٍ في نفس يعقوب، ثمّ يسلب إراداتهم ويرميهم على قارعة الطريق بعد استنفاذِ الفائدة المرجوّة منهم، بلا رحمة ولا شفقة ولا إنسانيّة ويُرمّقهم بشحنة بُغضٍ وازدراء لا تخطئها العين، لأنّه يعلم إذا ما حاولوا الاستفاقةَ يومًا، قامت ضباعه من القطيع برشقهم ليعودوا مضبوعين.
يتناقل أهالي بلدنا بأن خَفخَفةَ الضباع تكثر هذه الأيام، تُطلق أصواتًا تشبه الضحك الغريب، تشي باستعدادها للانقضاض على فرائسها من أجل تقاسمها وجعلها لقمة سائغة لالتهامها على مائدة اللئام.

منها من يرقد للناس بقرب الوادي ويستفرد بمن ضلّت خطاه، يرشّ بعضهم بالبول، فيهيّأ لهم بعد أن يُحلّقوا في أوهامهم ويَلحَقوا بها ظانّين أنّ "المهديّ المنتظر" يحمل شعلة خلاصهم ويسير أمامهم دون أن يعلموا بأنّ "الموت نحوهم يهوي فاغرًا فاه"، كما قال "أبو العتاهية" مرّة، ومنها من يتردّدُ خلسة هو ورهطه إلى عيون الماءِ في قرانا لينهل من ينبوع كرمنا ما تيسّر من "أصوات الرحمة" ليفلت بجلده. تحيك الحبائل لتستفرد بأعدائها فردانًا، والبعض لا زال يلعق من جرعة علقمها متحمّلين مرارتها على أمل بأن يتحسّن طعمها وتحلو. يقول المثل الشعبيّ "اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب" دون التقليل من الجانب المعرفيّ ولكل ما هو حكيم ومع تغليب جانب المجرّب إشادة بلا ريب لجشع الضباع التي تبدّل جلدها وتأكل بعضها ولا يسلم منها حتّى بنو جلدتها، لها طبيعتها الخاصّة في التضبيع والتطبيع. ولا تتردّد الضباع في مزاولة التخويف وتضليل النفوس تارة وطورًا تُظْهر ما أتاها من اللطافة والحنيّة والوعود الزائفة لسحب أهلنا والاستفراد بمن طاله البول منهم.
يركض من انضبع من أهلنا وراء الضباع ويردّدون "يا أخوي وقف...نحن معكم". هذا تمامًا حال البعض منّا والذي ما زال مضبوعًا منذ عقود، من زمانٍ يسير على غير هدى نحو المغارة، مغارة مرتع الضباع التي تفرك مخالبها من شدّة الفرح، وكلّما حاول أحدهم الاستفاقة رشقه ضبعٌ فعاد مضبوعًا ومن حالفهم الحظّ واصطدمت رؤوسهم بباب المغارة قد ينجون ورغم نجاتهم، ما زال هؤلاء المضبوعين مصفّقين ومهلّلين كلّما أطلّ عليهم ضبع بحلّة جديدة، والضباع أنواع وألوان. ولتيسير حوائجها الآنيّة انتجت الضباع السياسيّةُ ضباعًا من بيننا تحمّلت بدورها مسؤوليّة ضبع الإنسان البسيط وأحلامه أو أغفته فأصبح حاله كحال "الصايع" الذي يمشي ضالًّا كمن يترّنح مضطربًا متفرّقًا، ولم تقف المسألة عند هذه الآفة، بل تجاوزتها إلى مسألة استدراج الفريسةِ درب الاحتيال عليها بضحكة ناعمة أو الرفع من شأنها حتّى يخيّل إليها أنّها وجدت ضالّتها، ثمّ إشعارها بالأمان حتّى تتمكّن من تَمَلُّكها، فتضبعها لتمشي خلفها حيث شاءت، وبعد تعريتها من إنسانيّتها تغدو جاهزة "مقشّرة" للالتهام، فتأكلها ثمّ تبوّل عليها على غير عادتها الضبعيّة في حالتنا.
وقد استخدمت وتستخدم في الحاضر في ضبع بعض أبناء شعبنا وغفلته أساليب مستحدثة كثيره، ذات نقلة نوعيّة للعامل مع الضحايا، أكثر تطورًا وتأثيرًا من الرشق بالبول الضبعيّ، فتلك طريقة شفّافة وممجوجة تستخدمها الضباع لافتراس طريدتها أو مجموعة صغيرة على الأكثر منهم، بينما ضبعُ أو غفلة فئات بأكملها يحتاج إلى أساليب وألاعيب وحيلٍ ذكيّة متطوّرة لتسحر الإنسان وتسلب عقله. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، لعبة "التنعّج"، أو خطاب جيّاش عاطفيّ يزخر بعبارات المدح ودغدغة مشاعر "المصالحة" ووحدة الحال أو دهاء الاهتمام الزائد والمفاجئ ببلاء العنف والجريمة بعد فنّ التجاهل الفظّ وعدم الاكتراث لحال الناس، أو مكرمة بين الحين والآخر لِمَن انضبع، أو التكرم بلقاء المسؤولين من مجتمعنا رغم زحمة الانشغال بالحال التطبيعيّ والأمنيّ أو زيارة هنا للناصرة، وتفقّد هناك للنقب، مفاجآت وأعطيات، مكالمة هاتفيّة تروي ظمأ المضبوعِ أو مقابلة مع محطّة إذاعيّة أو قناة تلفزيونيّة، أو اختلاق أماكن مضمونة متخيّلة في القائمة، كلّها أساليب أكثر فعاليّة في ضبع المجموعة وإلهائها، وأحيانًا فبركة عمليّة نوعيّة لاستعراض القوّة إذا ما شعرت الضباع أن أناسًا استعصوا على الطوع بالتي هي أحسن.
فالشواهد على أن هذه الفئة مضبوعة كثيرة، والأبرز منها أنّ الضباع المتعاقبة، تحاول دائمًا أن تغذّي المضبوعين بوهم عدم صلاحيّة ممثلي "المشتركة" في خدمة الضباع لنيل نصيبنا ممّا تبقى من فُتات على موائدهم وأنّ ممثّلينا لا يأبهون ولا يكترثون سوى لمصالحهم الشخصيّة ولا يهمّهم سوى العزف على أوتار القضيّة الفلسطينيّة، وذلك كلّه لأنّهم يبغون الاستحواذ ببشر مضبوعين، دون أيّ اعتبار لإرادتنا الجمعيّة. سطت الضباع على ضعاف النفوس من الذين يركضون وراء من يحتقرهم وينبذون من يحبّهم، فباعوا كلّ ما هو وطنيّ بأبخس الأثمان، وجيّروه لحساباتهم، وأجندتهم الوهميّة، حتّى ظنّوا بأنّ مسألة انتشار التنمّر والعنف هي من فعلنا في حضرة سلطة تتباهى بأنّها تعلم ما يحدث في أصقاع الأرض، كما أنّ ما يسمّى السلام المتخيّل مع سلاطين الخليج هو الغفلة الأكثر حضورًا، حيث سمحت سلطة الضباع "كرّمها الله" لكلّ مشتهٍ من بيننا أن "يتنغنغ" في فنادق "دبي"، ثمذ جاءت الضربة القاتلة لتفكيكنا لتكون أحدث الأدلّة على أنّ البعض من شعبنا غافله الضبع، ويكابر أو يستكبر في تبرئة الضبع منها، ما دامت ثلّة منّا مضبوعةً وغافلةً، تأبى الاستفاقة للحفاظ على ما تبقّى وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قد تأتينا ضبعة قويّة لا تنفع بعدها الاستفاقةُ أو لات حين مندم.
الضبع يخلق المشكلة ويترصّد لحلّها على طريقته الخاصّة وهو الضليع بصناعة ثقافة الإلهاء وسياسات التلهية. في هذا السياق يحضرني توصيف "نوعم تشومسكي" لحالة استراتيجيّة التحكّم في الشعب ويقول: "إنّ عنصرًا أساسيًا في التحكّم الاجتماعيّ هو إلهاء انتباه العامّة عن القضايا والتغييرات الاجتماعيّة الهامّة التي تحدّدها النخب السياسيّة والاقتصاديّة، من خلال تصدير كمّ كبير من الإلهاءات والمعلومات التافهة". فاختلاق موقف أو مشكلة يستدعي ردّ فعل جماهيريّ، فعلى سبيل المثال: دعِ العنف ينتشر في المناطق العربيّة أو قم بالتحضير لهجمات بوليسيّة، لتجعل الجمهور هو الذي يطالب سيادة الضباع باتّخاذ إجراءات وسياسات أمنيّة تَحُدّ من حرّيّة تفكيره، أو اختلقْ أزمةً اقتصاديّة خانقة لبلداتنا للقبول بالحلّ الذي يرضيه، وهذه وصفة جاهزة تجعل الناس يغضّون الطرفَ عن حقوقهم القوميّة والسياسيّة باعتبار ذلك الحل “شرّ” لا بدّ منه. إنّ الوعي الجماعيّ لجوهر قضيّتنا وهمومنا يُكْتسب عَبْر التصدّي بجرأةٍ لتلقين الضباع درسًا وهزمهم، وليس التزاحم على "وليمة" الضباع البشريّة والسياسيّة. ضباع اليوم على ألوانها المختلفة تبغي افتراسنا، ضحاياها تمتدّ من النكبة حتّى ضحايا العنف التي نشهدها كلّ يوم، الضحايا كُثُر ونحن نتفرّج لنرى ما يمكن للضبع أن يفعل. تتلذّذ الضباع برؤية أعدائها من البشر المظلومين يموتون ونحن نتفرّج، ماذا ننتظر قبل أن "نقوّس" الضبع؟ هل ننتظر أن يستفردوا بنا جميعًا ليخرّبوا بيوتنا؟ لقد سلّطوا علينا في كلّ قرية ومدينة ضباعًا من بيننا، ضباعًا سفيهة طامعة حتّى صارت الضباع تتكاثر وتتقاتل ونحن وقودُ صراعها. هل نحن في موقع ترك المضبوعين منّا لتفترسهم الضباع وتسحق عظامهم وعندها نَتخلّص منهم، أم "نقوّس" الضبع ونخلّصهم من براثنه؟ ربّما لم يعد هناك أمل من مَنْ ضُبِع في الاستفاقة من غفوة أو من تضبيع، لقد حان الوقت لنُنقذ من "الطرائد" ما أمكن، ربما إذا أسْعفَنا الحظّ ووضعنا مُغُرًا سقوفها منخفضة تصطدم بها جبهاتهم بمداخِلها فيسيح دمهم، لِيُفيقوا من "الضبعة".
"نحن لسنا في جيب أحد" ولكن لا يصحّ أن نمشي ونترك الآخرين يمشون وراء الضبع ونقول: "وقف لي ... يا أخوي".

كابول

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com 


مقالات متعلقة