الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 22 / نوفمبر 08:02

تلال الموت والعشب الوافر

بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 02/03/21 11:28,  حُتلن: 14:26

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

في أيام العطل المدرسية نقوم نحن الصبية برعاية الماشية. نأخذ القطعان إلى تلك التلال شمالي سخنين طمعا في العشب الوافر لأن معظم الرعاة لا يجرؤون على الوصول إليها إلا يوم السبت، اليوم الذي تتوقف فيه المناورات، فينمو العشب ويرتفع. بعد أن تهدأ القطعان ننصرف إلى اللعب بالبراميل التي لم تمزقها قذائف المناورات. نختبئ في داخلها وندحرجها وهو عمل فيه المثير من المتعة والمغامرة. وعندما نسأم منها نأخذها إلى احد المنحدرات القاسية وندحرجها إلى الوادي محدثة الكثير من الجلبة والضجيج .
التقينا بالرعاة أبناء جيلنا من قريتي عرابة وسخنين. لعبنا معا وأحيانا اختلفنا واشتبكنا في عراك بمختلف أنواع " الأسلحة". أغلب معاركنا كانت عن بعد وبواسطة إلقاء الحجارة كل طرف على الآخر إلى أن نتعب أو نمل. كان أشجعهم ابن راعي عجال* سخنين وهو طفل شعره أشقر وعيناه تميلان الى الزرقة. كان يجيد رمي الحجارة ويوصلها إلى مسافات ابعد بكثير مما نستطيع نحن البدو رغم شهرتنا في هذا المجال .
في أواخر فصل الربيع تكون قطعان البقر قد سمنت وأصبحت لا تطيق الحر ولا تتحمل لسعات تلك الذبابة التي تظهر في هذه الفترة فتلجأ الأبقار إلى الفرار منها في كل اتجاه ويصبح من الصعب جدا على الراعي السيطرة عليها فتدخل إلى الكروم وتسبب الأضرار للمزروعات. لذلك يقوم أصحاب هذه القطعان بإخراجها في ساعات الليل الأخيرة وقبل طلوع الشمس وارتفاع درجات الحرارة يعيدونها إلى حظائرها.
في الليل يتحول كل شيء في هذه المنطقة إلى شبح، الشجيرات الصغيرة، نتوءات الأرض، الحجارة المنتصبة، جذوع أشجار المل المحترقة والبراميل التي وضعها الجنود من اجل التدرب على إصابة الهدف، كلها تتحول إلى أشباح متحركة .
أما إذا كانت الرياح قوية فان كل شيء يتحول إلى معادلة من الصعب فك طلاسمها اذ تبدأ الأشياء بالتطاير في كل الاتجاهات: أشياء مخيفة، غامضة، منها الصغير ومنها الكبير، كلها سوداء، تلتصق بالأرض إذا حاولت التدقيق فيها، وتطير مع الهواء على وجه الأرض إذا غضضت النظر عنها. تحس أن شيئا يطاردك، يهاجمك من الخلف فتلتفت لتجد أن الأشياء تفرعنك. وما أن تسير خطوة أو خطوتين خلف القطيع ووسط الظلام حتى يعاودك الإحساس نفسه فتنتابك قشعريرة تسري في جسدك فتنتفض في وجه خوف شديد يهاجمك من كل الجهات ويدفعك إلى الفرار. لكن إلى أين تفر وأنت المحاصر من كل الجهات بالعادات والتقاليد وأهمها أن الرجل لا يخاف.
وبما أنني كبرت وتجاوزت سن العاشرة فقد أصبحت رجلا وأصبح من واجبي أن أبدل والدي في هذه المهمة التي لا يقوم بها إلا الرجال بسبب الخوف من الوحوش في ساعات الظلام.
كنت مع قطيع الأبقار وقد سقته إلى إحدى التلال البعيدة ليشبع بسرعة من عشبها الوافر. وبينما القطيع مستغرق في التهام العشب سمعت صوت حركة مريبة قربي لكن الظلام حال بيني وبين رؤية الجسم المتحرك الذي أحدث الصوت. حاولت الإصغاء جيدا فكان الصوت يقترب مني. فجأة هجم القطيع على شيء ما وطوقه. كان البقر يجعر ويعارك شيئاً ما. شعرت أن هذا الشيء يحاول مهاجمتي إلا أن القطيع أحاط بي وشكل حولي دائرة يصعب اختراقها. أصبت بالذعر الشديد وبدأ كل جسدي يرتعد ويتصبب عرقاً. تأكدت أن الشبح يهاجمني وسيخترق طوق الأبقار ويصل إلي. لا مجال للهروب ولا مجال للانتظار لأنه سيكسر الطوق ويصلني. كان رعبي الشديد يزداد مع مرور الوقت ولم أعد أقوى على مواصلة الوقوف على قدمي. مرت لحظات مخيفة وطويلة كأنها سنوات والمعركة محتدمة بين القطيع وذلك الشبح. بدأ ضوء الفجر يشق الظلام ببطء شديد. دققت النظر وإذا بالمهاجم حيوان ضخم الجثة. لم أميز أنه ضبع إلا بعد أن انقشع الظلام. كان يقعي على مؤخرته فاتحاً فمه ليأخذ الهواء ويخرجه بشكل سريع وكأنه يرقص، فبدت أنيابه الطويلة الحادة. كان متعباً جدا من المعركة وعندما انبلج الفجر وزال الظلام نهض وقرر الانسحاب باتجاه الوادي القريب. لا أدري هل كان يحاول افتراسي أم كان يحاول افتراس إحدى البقرات. في رأي والدي ورأي أخواتي وأمي عندما قصصت عليهم ما حدث أنه كان يحاول الوصول إلي لأن الضباع تحب افتراس الإنسان. وأذكر أن والدتي طلبت من والدي وتوسلت إليه ألا اذهب مع القطيع ليلاُ فعدت إلى رعاية قطيع الماعز والأغنام في ساعات النهار.
في يوم ربيعي جميل كان عجال سخنين في السفح الجنوبي. وكنت أنا وبعض أبناء القبيلة مع قطعاننا في السفح الشمالي ننتظر اللقاء في الوادي. خططنا أن يكون اللقاء حامي الوطيس قي ذلك اليوم. كنا نستغل أيام السبت للدخول إلى المنطقة دون خوف. ففي هذا اليوم تتوقف المناورات ويكون المعسكر في سبات وهدوء. فجأة دوى انفجار شديد بالقرب من العجال. ارتفعت كتلة صغيرة من الدخان الأزرق مخلفة وراءها خيطاً رفيعاً من الدخان يربطها بالأرض. خفنا كثيرا وارتبكنا.
وبدأنا بتوجيه القطعان ناحية الشمال للهروب من المنطقة ظانين أن شيئا طارئا قد حدث وجعل الجيش يكسر السبت ويطلق هذه القذيفة. لم نتخيل أن أخت الفتى الأشقر هي من قام بالتفجير بعد أن لعبت بقذيفة من مخلفات الجيش. هرع الرعاة من السفوح المقابلة والفلاحون من الحقول قرب المكان إلى مكان الانفجار. كانت الفتاة قد فارقت الحياة بعد الانفجار مباشرة وبعد أن فقدت ساقها ويدها التي كانت تلقي الحجارة لمسافات بعيدة. ماتت قبل أن يصل إليها أحد. سمعنا صراخ الرعاة والفلاحين وفهمنا ما حدث. فهمنا أن ابنة راعي العجال قد
أصابنا هلع شديد: هل داست على القذيفة أم لعبت بها؟ ماذا حدث لها؟ هل ماتت فعلا؟ كيف ماتت؟ هل الموت ممكن بهذه السهولة؟ هل الإنسان يموت بهذه السرعة؟ هل بكت قبل أن تموت؟ هل تألمت؟ ماذا ستفعل أمها؟ هل هي وحيدتها مثلي؟ هل ستبكي والجميع ينظر إليها؟ ليتهم يتركونها وحدها في هذه اللحظات. ليتهم لا ينظرون إليها، ويكفون عن قول العبارات التي لا تجدي في إعادة من ذهب. اتركوها! اذهبوا أنتم والعادات إلى الجحيم! دعوها تمارس إنسانيتها! اتركوها أيها الشيوخ تلحقها إلى القبر لتتأكد أنها أمها، وأنها حملتها في بطنها تسعة أشهر وأرضعتها من ثدييها عامين كاملين. لماذا يمنع الشيوخ الأمهات من اللحاق بأبنائهن إلى القبور؟ فعند القبر ستعرف أنها أمها وأنها أبنتها التي ماتت أو استشهدت فهي لم تنتبه لها من قبل وربما نسيت أنها ابنتها.
صار كل شيء مخيف، الحجارة، الأشجار، نسيمات الهواء الآتية من الغرب الأعشاب والجبال المحيطة بالمكان ... كل شيء كان يبدو على وشك الانفجار.
هنا في هذه التلال يموتون بسرعة. قبل عدة أشهر مات أحمد. والده ابن عمتي. عندما خرجت الجنازة صرخت أمه: هييي يا احمد! لوين رايح؟
بكى كل شيء من حولي. ظننت أن أحمد سيستجيب لها ويرجع لكنه لم يرجع فزعلتُ عليه كثيرا! كيف لا يستجيب لنداء أمه؟ أمه تنادي عليه ولا يرجع؟ الأم عندما تنادي تحرك الجبال من مكانها وتستجيب لها السهول والوديان. لكن احمد لم يستجب لنداء أمه ... ذهب على الأكتاف وكأنه لا يسمع وظلت هي تنادي. لا أدري إن بكت أم لا. لكنها ظلت تنادي. احمد احتضن القذيفة، جلس على الأرض ووضعها بين ساقيه وبدأ يداعبها هو وأخوه الأكبر منه سناً. وعندما ابتعد القطيع ترك الأخ الأكبر اللعب بالقذيفة وذهب لإرجاعه. تنازل عن اللعب بالقذيفة لأخيه. كانت عبارة عن اسطوانة رمادية اللون في طرفها رأس نحاسي في داخله مسمار اسود هكذا وصفها لنا الأخ الذي بقي على قيد الحياة بفضل القطيع. هل وصفها لامه؟ هل تكلما في الموضوع؟ ليته فعل لتعترف هي أيضا أن احمد قد مات أو استشهد. لعلها تبكي وترتاح.
أهلنا لم يحضروا لنا الألعاب لأنهم لم يعرفوها فلجأنا إلى أي شيء لنلعب به. لعبنا حتى بالقذائف. لم يعترفوا لنا بهذا الحق، حق اللعب. كباقي الأمة لم يعيروه أي انتباه وتأكدوا أننا تجاوزناه مع ما تجاوزنا من سنوات أعمارنا .
قبل أحمد مات ابن المختار وهو طفل ذكي جدا ومن الأوائل في صفه. كان يرعى بقرات والده في سفح الجبل فوجد قذيفة جميلة جلدها يشبه قوقعة السلحفاة فأخذها وانتحى بها جانبا. أراد أن يفصل الحلقة المعدنية الجميلة المعلقة بطرفها بسلك معدني. كان يعرف أنها قنبلة ولكنه كان يجهل وظيفة هذه الحلقة. أراد أن يأخذها ليزين بها طرف حقيبته المدرسية ويباهي بها زملاءه. ارتفعت درجة حرارة السلك الذي يربط الحلقة بالقنبلة نتيجة عملية اللي التي تعرض لها فظن الطفل أن السلك سينقطع فواصل عمله لكن السلك لم ينقطع وإنما انفجرت القنبلة. انفجرت بين يديه محدثة عددا لا حصر له من الحفر في ذراعيه وساقية ووجهه. عندما وصلنا إليه. كان لا يزال حيا ووصف لنا ما حدث. تكلم وكأنه لا يتألم. سمعتهم يقولون "لا تزال جراحه حامية" اعترف أنه أخطأ عندما أساء فهم ارتفاع حرارة السلك المعدني !!
جسد زميلنا لم يتطاير عندما انفجرت تلك القنبلة الصغيرة والجميلة ذات الجلد الذي يشبه جلد السلحفاة. الانفجار أحدث جروحا كثيرة في الأصابع وبعض الحفر في الساقين وظهر القدمين بدت من خلالها ألياف كثيرة ومتشابكة. كانت ثيابه ممزقة أيضاً.
الصبي بدأ يتلوى ويتقلب في حركات تشبه مضغ الحجارة، وقد ارتمى عليه أبوه وكأنه يحميه من المطر. كان الدم ينزف من أصابعه وربما من شرايين يده، أما الحفر التي حدثت في ساقيه وظهر قدميه ووجهه فقد بدت جافه لا دماء عليها. الجميع كانوا يصرخون ...هذا يبكي بصوت عال... وهذا يحاول الاقتراب وتفريق الكتل البشرية التي التفت حول الصبي وذاك يصيح بأعلى صوته أوقفوا الدماء. ورأينا احد الصبية يطير في اتجاه البيت المجاور ويحضر إبريقا من الماء. فالصبي المصاب قد طلب الماء كما يبدو، فالماء ضروري في مثل هذه اللحظات.
مات ذلك الصبي في احد المستشفيات ولم يمت أمامنا ولا نذكر أي شيء من مراسيم الجنازة فالحفر في ظهر قدميه وساقيه وساعديه ووجهه غطت كل معالم الذاكرة ولم تبق مساحة لأي شيء آخر. لا نذكر جنازاتنا، لم يعلق في الذاكرة منها أي شيء. وظل الانطباع لدينا أن الموت يحدث فقط عندما يتطاير الجسد ويلتصق بالأشياء المحاذية ولا يمكن أن يحدث عندما يجتمع الأقرباء والأصدقاء حوله .
هل كنا ندفن موتانا بدون جنازات؟ هل كان موتنا يشبه الموت هذه الأيام؟ هل كنا نحمل قبورنا على ظهورنا ؟ لا ادري .
في تلك ألمنطقه وبقرب ذلك المكان كان احد أفراد القبيلة الساكنين في طرف المنطقة الشمالي يملك قطعة من الأرض زرعها بأشجار الزيتون الصغيرة. ولكي يستغل الأرض أكثر زرعها بالقمح بين أشجار الزيتون .كما يبدو فان إحدى بقرات الجيران دخلت الأرض مسببة الكثير من الضرر فجاءت زوجة صاحب الأرض وبدأت تتفقد القمح والأشجار وتعاين ما لحقها من ضرر. استغلت المناسبة وبدأت بقلع البقل لتحضر منه عشاء للعائلة لكن الجيش بدأ بإطلاق القذائف. انفجرت القذيفة الأولى قربها .... فركضت محاولة ألابتعاد، فانفجرت قذيفة أمامها فعادت إلى الوراء، فانفجرت أخرى أمامها فعادت ...وهكذا ظلت تلك المرأة تركض كالطير المذبوح، إلى أن أصابتها إحدى القذائف، فمالت، ترنحت، طارت، أو تناثرت في منظر لا يمكن وصفه بدقة .
اختبأنا تحت شجرة خروب كبيرة لا تبعد إلا عشرات الأمتار عن ساحة المعركة، التصقنا الواحد بالآخر. كنا كالأفراخ الصغيرة التي تحتمي تحت جناحي الأم وكانت قذيفة واحدة تكفي لتقطيعنا جميعا .
شعرنا نحن الأطفال أن شيئا قد حدث. المرأة التي كانت تركض سقطت على الأرض، التصقت بالتراب وتوقفت عن الحركة. تحولت إلى بقعة سوداء وسط السهل الأخضر. توقف القصف وهجم سكان البيوت المنتشرة في المنطقة ولملموا جسد تلك المرأة ثم أخذوه. بعد عصر ذلك اليوم اجتمع الكثيرون حول بيت الرجل الذي فقد زوجته. الجميع كان يصمت مطأطئاً رأسه. وفجأة أخرج الرجال شيئا ملفوفا بالقماش الأبيض موضوعا على خشبتين موصولتين بقطعة من القماش. رفعوه على الأكتاف وانطلقوا به بسرعة فعلا صراخ شديد. كان لها خمسة أولاد أكبرهم لم يتجاوز العاشرة وأصغرهم لم يستغن بعد عن حليبها . لم يشاركوا في الصراخ لأنهم لم يستوعبوا ما حدث. لم تكن لهم تجربة من قبل مع الموت وماذا يعني. كل شيء كان يحدث بسرعة فائقة وبتشابك جعل عقولهم الصغيرة تتوقف عن العمل. نظروا بأعينهم، رأوا كل شيء لكنهم لم يبكوا.

*(العجّال هو قطيع من مختلف أنواع الحيوانات يتفق أهل القرى على توكيل أحد الفقراء برعايته مقابل أجر شهري بسيط)
.***
 

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com 


مقالات متعلقة