الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 25 / نوفمبر 08:02

معاودة إعدام آيخمان

بقلم: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 22/03/21 15:44,  حُتلن: 16:14

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

في ذلك اليوم ومنذ الصباح الباكر تعرض مضرب القبيلة للقصف العنيف وكأن الجيش يثأر لخسارة وكيل ضريبة الدخل في معركته مع الكلب والديك وأختي. أمي قالتها بكل جدية: "يبدو أنه حرض الجيش علينا!"! سقط الكثير من القذائف في كرم الزيتون وحول منزلنا. بعض الأشجار اقتلعت من جذورها والبعض الآخر تهشمت سيقانها وتطايرت أغصانها. لماذا لا تهرب الأشجار من القذائف وخصوصاً عندما تأتي مولولة أو مزغردة؟ تتمايل، لكنها لا تهرب. لا أدري لماذا لا تهرب. لماذا تظل واقفة تنتظر إصابة مباشرة أو شظية طائشة؟ أشجار الزيتون بعد تعرضها للقصف بالمدافع تصبح رمادية اللون شاحبة كالأموات. يغادرها الاخضرار وتنكمش أوراقها فتبدو وكأنها تبكي. تصبح حركة الأغصان قاسية. تفقد ليونتها وتموجها وتتكسر كشظايا الزجاج. الأشجار تحكي وتتكلم مع والدي كلما زارها. لكنها اليوم فقدت القدرة على النطق أصابها الخرس.

هذه الأشجار زرعها جدي بعد أن قام باقتلاعها من بين الغابات في منحدرات وادي الحلزون وهو يرعى القطيع. حملها على كتفه وزرعها في أرضه. وعندما مسكت جذورها وكبرت قليلاً قام بتركيبها بالنوع السوري والمليسي. والدي أحاطها بجدار من الصخور التي اقتلعها من الأرض التي حرثها ثلاث مرات قبل بداية الصيف مما جعل الأشجار تنمو وتكبر بسرعة وتحافظ على ينعها واخضرارها .كل واحدة منها كانت بالنسبة له كأحد أولاده. كان إذا جرحت سكة المحراث ساق واحدة منها يتوقف عن العمل ويقتطع قطعة من قميصه أو من كوفيته ليضمد جرحها. لذلك عندما رأى ما أصابها إغرورقت عيناه بالدموع وبكى في داخله نافثا الدموع مع دخان سيجارته المحترقة. لم يسكت هذه المرة . قرر السفر إلى حيفا، ليس إلى مكتب المحامي حنا نقارة فهذا الرجل ضحى بما فيه الكفاية في محاكم الدفاع عن مصادرة الأرض. دافع عن الكثير من المزارعين دون مقابل، مما جعل والدي يخجل من الذهاب إليه وطلب المساعدة. لذلك قرر الذهاب هذه المرة إلى مكتب المحامي موشي عمار وتقديم دعوى ضد الجيش، فهو محام يهودي ووراءه حزب مباي اليساري ويستطيع مواجهة الجيش دون أن يتهموه بالتطرف.
ليصل حيفا عليه أن يمشي مسافة سبعة كيلومترات ليصل إلى محطة التينة على الشارع الرئيسي قرب نحف، ومن هناك يأخذ الحافلة القادمة من صفد. لم يكن في جيبه أجرة الحافلة فاقترضها من زوج عمتي. قطع المسافة وهو غير مقتنع بما يقوم به. فقبل ثلاث سنوات منع الجيش قاضي محكمة الصلح في حيفا من دخول المنطقة عندما جاء بناء على طلب والدي ليعاين قطعة الأرض التي ادعت إدارة أراضي إسرائيل أنها صخرية في الوقت الذي كان والدي يزرعها منذ عشرات السنين. القاضي وصل الحاجز العسكري على الطريق المؤدية إلى مضرب القبيلة لكن الجيش منعه من الدخول فعاد إلى المحكمة وأصدر قرارا يؤيد ادعاء إدارة أراضي إسرائيل. إذن الجيش أقوى من القاضي فما الفائدة من اللجوء إليه؟ لكنه رغم كل هذه الوساوس واصل طريقه وقدم دعواه ضد الجيش. بعد عدة أسابيع حكمت له المحكمة بالتعويض الرمزي الذي لا يتناسب وحجم الأضرار التي لحقت بكرم الزيتون.
عندما كبرت وأصبحت أباً تعرفت على موشي عمار أطال الله في عمره. لم أعرفه من قبل لكنني سمعت اسمه كثيرا على لسان والدي. فتشت عن مكتبه حتى وجدته وما إن جلست في غرفة الانتظار أنتظر اللقاء به حتى رأيت انه يحتفظ في مكتبه في حيفا حتى اليوم بهيكل إحدى هذه القذائف التي انفجرت في كرمنا عندما كنت طفلاً. رأيت هذا الهيكل على الرف بين كتب القانون فغزت أنفي رائحة البارود ذاتها التي شممتها قبل عشرات السنين. ذهبت إليه عندما ضاقت علي السبل وفشل كل المحامين العرب الذين توجهت إليهم في منع هدم بيت ابنتي. تذكرته بعد كل هذه السنين وتذكرت علاقته بوالدي. سألته عن هيكل القذيفة فقال لي أن بدوياُ اشتكى ذات يوم على جيش الدفاع وأحضره كشاهد في المحكمة. سألته إن كان يتذكر اسم ذلك البدوي فأجاب: "طبعاً اسمه علي ولا يمكن أن أنساه". فقلت له: "أتعرف أنه والدي؟" هز رأسه وقال: "لن يتركوكم وشأنكم ... أنذال". أخبرته أنني لا زلت أذكر اسمه لكثرة ما ردده والدي أمامنا. وقد جئت لأوكله بالدفاع عن بيت ابنتي. سمعني بتأني ثم كتب رسالة من صفحتين ووضعها في مغلف موشوماً باسمه وبشعار مكتبه وقال لي: اطلب من محاميك أن يسلمها للقاضي الذي سيبت في أمر الهدم فانا في هذا الجيل لا أذهب إلى المحاكم. رفض تلقي الأجر عن الرسالة وقال لي: سلم على والدك. طبعاً قلت له أن والدي قد توفي منذ سنوات.
والدي ظل يتألم لما ألم بأشجاره، فبعضها توقف عن النمو بسبب الشظايا التي أصابته، وبعضها يبس فاضطر لقلعه . ضمّد بعضها بما تيسر له من ضمادات عملها من ملابسنا البالية. الشجرة عندما يضمدونها تبدو صفراء شاحبة وكأنها تتأرجح بين الموت والحياة. لذلك ظل والدي يجلس بين أشجاره المهشمة وكأنه يشجعها على التشبث بالحياة. جلس بهذه الطريقة وهو يراقب عنزة أو بقرة كانت توشك على الإنجاب. انتظرها ليساعدها في حال تعسرت الولادة. انتظر لينصر الحياة على الموت.
ضباط الجيش يعرفون والدي فقبل كل مناورة كانوا يأتون إليه ويطلبون منه إخلاء المكان وخصوصا عندما تكون المناورة بمشاركة الدبابات والطائرات. في بعض الأحيان كانوا يزورونه مع الجنود خلال عمليات التدريب ليشربوا القهوة وليستريحوا قليلاً. اليوم جاءوا إليه كالعادة. لكنهم هذه المرة كانوا متجهمي الوجوه ويبدو عليهم الغضب الشديد بشكل واضح. وقفوا أمام البيت وناداه أحدهم:
- أنت ادولف ايخمان وقد حكمنا عليك بالإعدام !!!
وقف والدي حائراُ وغير مصدق ما يسمع. فهو يعرف من الراديو من هو أيخمان وكيف اختطفه اليهود قبل فترة وجيزة وأحضروه إلى هنا ليعدموه. أيخمان يقولون انه أباد اليهود، فماذا فعل هو؟ لم يصدق ما سمعه، لكن الجندي أشهر سلاحه وصوبه إلى صدر والدي مطلقا النار بكثافة، فسقط والدي على الأرض متيقنا أن الرصاص قد اخترق كل جسمه. لم يكن يعرف أنها طلقات خشبية يستعملها الجيش في التدريبات ويطلقها الجنود فيما بينهم وعن مسافات قريبة. ضحك الجنود وواصلوا الضحك بعد أن نهض مرتعداً ومتفقدا جسده. مات ولم يمت بل واصل الحياة لكن هذه الحادثة تركت أثرها الصحي عليه. صار يصاب بما يشبه النوبة القلبية بين الفينة والأخرى. قال لنا أنه شعر أن الطلقات اخترقت جسده وتساءل: كيف لم أمت؟
بعد ذلك الحادث تغيرت حياة والدي. قال لنا أن الموت هين وليس صعباً كما يصفونه. قال أن الموت قضية إرادة فالإنسان يمكنه ألا يموت إذا قرر مواجهة الموت والتصدي له. توقف عن النزوح مع المواشي ورفض أوامر الإخلاء. لست متأكداً إن كانت حادثة إطلاق النار هي السبب كما لمح لنا، أم ولادة مدينة كرميئيل وبدء اجتياحها للمراعي في منطقة الشاغور التي كان ينزح إليها. ما أنا متأكد منه أن والدي تغير كثيراً. صار يلوذ إلى الصمت فترات طويلة وهو المتكلم البارع والمتحدث اللبق بمناسبة وبغير مناسبة. تجهم وجهه وهدأت حركاته وكأنه شاخ فجأة.
هل كان غاضباً على أخيه الذي ترك قطيعه وذهب للعمل في كرميئيل؟ بالأمس حاول إقناعه ألا يترك قطيعه وينجر وراء من ضعفوا وتخلوا عن عاداتهم وتقاليدهم. قال لأخيه: أتعمل أجيراً عند اليهود وتبني لهم البيوت على أرضنا التي صادروها؟ فأجابه عمي: اليهود أحسن من العرب! فالعرب هم من تركوا أرضهم أو باعوها!.
غضب والدي غضباً شديداً فهو يعرف عناد أخيه وتسرعه في الحكم على الأشياء. كثيراً ما يصدر الأحكام المتسرعة والجائرة ليغيظ سامعيه وأحيانا يفعل ذلك عن قناعة تامة. لعمي سبع بنات وخمسة بنين لذلك كان وضعه الاقتصادي أسوأ بكثير من وضع والدي. كان يتهجم على والدي وكأنه هو سبب فقره وكان والدي يحول ذلك إلى نوع من المزاح لأنه يحبه فهو أخوه الوحيد من أمه وأبيه. أحيانا يكون على قناعة تامة أن وضعه الاقتصادي الصعب هو نتيجة مباشرة لكثرة الأولاد وأحياناً يعزوا ذلك لحظه العاثر فيغضب ويعربد. دائماً قراراته متسرعة وعشوائية. حتى عندما اشتكت زوجته لوالدي أن الأولاد جياع وليس لديها في البيت ما تطعمهم غضب وباع الجحش الصغير ابن أتانهم الوحيدة وبكل ثمنه اشترى نوعا واحدا من الخضراوات وادعى أنه لم يجد في الدكان إلا هذا النوع. أراد أن يعاقب زوجته على إفشائها لأسرار البيت. بكت زوجته بكاءً مراً على الجحش الذي باعه لأنها كانت تنتظره ليكبر ويأخذ مكانها إلى جانب أمه في جلب المياه للعائلة. وبكت على ما فعله بثمنه. جَلْب مياه الشرب من الينابيع القريبة كانت تقوم به النساء بقرب مصنوعة من جلود الحيوانات. يحملنها على رؤوسهن أو على ظهورهن وينطلقن بمجموعات في الصباح الباكر. فيما بعد حلت الحمير محل النساء في عملية نقل المياه وستحل الجرّارات محل الحمير كما سنرى لاحقاً.
تحطمت أحلام زوجة عمي في التحرر من نقل الماء على رأسها وعاشت لفترة طويلة في حالة من اليأس والإحباط إلى أن شفق عليها والدي وأعطاها واحدة من أتنه لتكون عوناً في نقل الماء لأتانهم الوحيدة، فكانت زوجة عمي آخر امرأة في القرية تتحرر من نقل المياه على رأسها.

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com 


مقالات متعلقة