للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
"آمل أن تكون مذكراتي الفردية، ذاكرة جماعية لهم (لشعبه وللأجيال الشابة)، لمواصلة طريق الكفاح لتحقيق السلام العادل والمساواة القومية والمدنية والديموقراطية" بهذا الإهداء الانساني الوطني يفتتح أبو سلام ، عادل ابو الهيجا كتابه ، سيرة حياته، مسيرة شعبه.
ذاكرة طافحة، اختلطت تفاصيلها وارتوت بما شهده طفلا من "روايات والدي واخوتي الكبار حين كبرت"، ذاكرة تتمشى بها المأساة الفلسطينية بطيئة مثقلة بأنينها، آهاتها، بدقائق لَوْعتها الحارقة، تتلوى المأساة ألمًا على شريط الذاكرة، تلتفت الأبصار دامعة الى أمسها العامر، كعيون الأُم التي "تمسح دموعها بطرف ردائها"، وترى الأهل "صامتون، واجمون، حزانى"... تعود الأجسام المتهالكة وتتحسس طريق آلامها، وجعها، هواجسها المبعثرة، تقف مرتبكة تتزاحم مخيلتها الأفكار الهائجة، وتزحف مُجهدة نحو المجهول، تبتعد قسرا عن جذورها، تهيم ظُلما في فضاء مبهم يلامس بدايات رحيلها المؤقت !! ترحيلها الممتد، آملة بعودة سريعة للدار.
طفل لم يتجاوز عمره التاسعة، يرى ويشاهد رحيلا لم يستوعبه، ظنَّه رحلة جميلة قصيرة، يتجلى بها فرحا لاعتلائه السيارة لاول مرة، ولسفره خارج قريته الحدثة "الأرض لم تسعني فرحًا حين شاهدت سيارة الشحن تقف بالقرب من بيتنا في الحدثة.. غمرتني الفرحة يومها، لأنه كانت تلك هي المرة الأولى التي اشاهد فيها السيارة والمرة الأولى التي ساسافر فيها..."، صورة مأساوية لمشهد يتداخل به الفرح الطفولي بحزن الكبار، ويتكامل المشهد الصارخ عندما يُحَمَّل كل ما يحتويه بيت الفلاح الفلسطيني الى السيارة، "فرشات وحرامات وطحين ولبنة وزيت وزيتون وجبنة وعدس وبرغل وزعتر" .. ذاكرة تهجيرية يحملها عادل ابو الهيجا منذ طفولته المبتورة الى كهولته الصامدة، ذاكرة رافقها نداء والده محمود الى والدته خديجة " بأن لا تنسى أخذ القهوة وأباريقها وغلاياتها وفناجينها .."، ليعود الوالد ويردد طلبه هذا من الوالدة في الهجرة الثانية من قرية كوكب ابو الهيجا كلازمة متكررة لمسار درب آلام اللجوء، يفترش افراد عائلة عادل وعائلة عمه أحمد عربة الرحيل الثانية، ويحشرون انفسهم بها كبارا وصغارا، نساء ورجالا "افترشنا عربة الشحن متلاصقين بالأثاث وأكياس المأكولات وأواني الطبخ"، ذاكرة خصبة لعملية تقليع الناس من ارضها، وطنها، أصولها.. ذاكرة ترتسم في ثناياها المجروحة صورة داكنة لمشاهد الهجيج التي بقيت وستبقى راسخة في اذهان الصغار عصيِّة النسيان والغفران.
جال ابو سلام ألمًا بين مفردات المرحلة، هجرة،هجيج، هغناة، لجوء، حرب، يهود، عرب، انجليز، جيش انقاذ، دول عربية، ماكو اوامر، وغيرها..
يشهد الطقل عادل ويلمس حرقة المأساة حين يرى ولأول مرة والده دامعا ينظر الى قبر والده، جد عادل، وينادي بصوت مخنوق " ما تقلقش يابا، احنا راجعينلك"، وبهذا النداء الأبوي الدامع "يابا احنا راجعين" ينطلق عادل حاملًا حِسَّه الطفولي بفقدان المكان، الى أعماق وجدانه ووعيه ليشق دربه حاملًا الرسالة، الأمل، الوعد .. الوعد بالعودة.
سيرة عادل ابو الهيجا هي حكاية شعب، الشعب العربي الفلسطيني، سيرة اللجوء والتهجير، سيرة الصمود والبقاء.. سيرة مرسومة باسلوب سردي شفاف شيِّق، يحمل في جوهره الصدق والمصداقية، صدق القول والفعل، صدق العطاء والمشاعر، نيِّر الرؤية، مرهف الحس الانساني، مُحب للناس، كل الناس، سامي التسامح، نابذ للتعصُّب بكل اشكاله، حادّ بمقاومة الظلم والقهر، مخلص في خدمة الناس، دائم العطاء، سيرته، سيرة مثقِّفة، حكاية عميقة الألم والأمل، سيرة مهجَّر فقد مهده الحدثة العريقة، "اسمها مشتق من عين حدة الكنعانية"، فقد عادل البيت الكريم الدافيء، فقد ثراء العزَّة، فقد الأرض الواسعة، سُلِبَ الطفولة والعاب الصبا، ولم يُسلَب عنفوانه، ولم يفقد ارادته الجبارة، وبعصاميته الرائدة شقَّ من العدم طريقه، طوَّع الصعاب، وداس الفقر، وتحدَّى القهر، وحقَّق ذاته.
سيرة ثرية واسعة، حافلة بالأحداث، المشاهد والروايات الشاقة والمشوِّقة، تبرز بها المواقف الشجاعة .. ،سيرة، توثيقية هادفة، أجاد الكاتب سميح غنادري كتابة نص وتحرير هذا الكتاب القيِّم، وأبدع في نقل مشاهد السيرة الذاتية، الجماعية الحيَّة وصورها الطبيعية، وتدوين أحداثها وأحوالها بحب ورغبة ذاتية بارزة، وذلك باسلوب مَرِن، جذاب، انتهج به الصدق والأمانة اللافتة، نجح بمهارة، وليونة واصرار تذليل عقبات هذا النوع من الكتابة، وخاض تجربة ادبية رائدة، رصد بها، سَجَّل ووثَّق بجدية، ودقَّة متناهية مضامين رحبة، ومشاهد متنوعة، متشعبة الأمكنة والأزمنة، وبمرافقة ومتابعة وديَّة، مسؤولة وملتزمة.
لرفيقنا أبي سلام الرحمة وطيب الذكرى ولأحبائه حفظ الوعد ومواصلة الدرب.. نحو العودة والسلام .. وداعا.
بقلم: فيصل طه
صفورية- الناصرة