للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E
تلجرام t.me/alarabemergency
أصبحت القضية المِثلية أوّل امتحان يضعه الغرب أمام المجتمعات غير الغربية؛
فحين يتحدّثون عن إيران وروسيا أوّل ادّعاء غربيّ يتبادر ضدّهما هو أنّهما تضطهدان المِثليّين. ويتساءل المرء هنا: هل حقًّا طغت أهمّية هذه المسألة على أمور مبدئية، هي أكثر أهمّية ومحورية؟
هناك قضايا واسعة فشلت فيهما هاتان الدولتان؛ فيما يخصّ حقوق الإنسان والحرّية الفردية؛ فلمَ يسرق موضوع مجتمع الميم (الأقلّيّات الجنسية والجندرية)، والذي هو موضوع محدّد وضيّق، الأضواء بهذا البروز؟
تاريخيًّا، بدأ الانقلاب في موقف الحضارات تجاه المِثلية الجنسية إبّان انتشار المسيحية في أوروبا، حيث تسهل ملاحظة الثورة بوضوح في روما؛ ففي المكان نفسه الّذي تمّ فيه تمجيد العلاقات الجنسية بين الرجال سُنّت قوانين عقوبة الإعدام وعقوبات قاسية ضدّ الرجال الّذين تربطهم علاقات مِثلية برجال آخرين. طَوال القرون الأولى للمسيحية، وحتّى منتصف القرن العشرين، كان للغرب دورٌ في تفاقم معاملة المجتمع للمِثليّين جنسيًّا. وفي العصر الحديث، قامت بريطانيا ذاتها باضطهاد وحظر العلاقات الجنسية المِثلية في البلدان الّتي مارست فيها حكمها الاستعماريّ، مثل الهند. كما تسلّلت القوانين البريطانية إلى العديد من البلدان التي فرض البريطانيّون عليها الانتداب.
نعلم أنّ الإسلام تبع خُطى المسيحية في هذه القضية. ورغم إخفاء معظم الأدلة الأدبية والنصّية التي تصف نمط الحياة الاجتماعية في ظلّ الدولة الإسلامية، ما زالت هناك نصوص بإمكانها نسج صورة واضحة عن التراث الجنسيّ للعرب.
فإذا نظرنا إلى فنّ الشعر الّذي كان هو الفنّ المتداول بين القبائل العربية في الفترتيْن الجاهلية والإسلامية؛ ومن خلال التنقيب في قصائد شعراء الحِقبة العبّاسية مثلًا، يمكن العثور على أدلّة لقصص تعكس سلوكيّات مِثلية وغِلمانية لدى الأدباء والخلفاء وطبقة النبلاء، وإحداها قصّة الشاعر أبي نُوَاس، حيث إنّه يومَ أجبروه على الزواج بامرأة، طلّقها قبل الدخول عليها، وقد وصف ذلك في إحدى قصائده إذ قال:
"صاحبةَ القَرقرِ لا تشغَبي تحمّلي طالقةً واذهبي
مرّي فكَم مثلكِ من حرّةٍ رائعةٍ لم تكُ من مَطلبي
لا أبتغي بالطمثِ مطمومةً ولا أبيعُ الظبيَ بالأرنبِ
لا أشتهي الحيضَ ولا أهلَهُ غيركِ أشهى منكِ بالأرنبِ
بَلى فإنْ كنتِ غُلاميّةً من شرط مثلي فردّي مشربي
لا أُدخلُ الجحرَ يدي طائعًا أخشى من الحيّةِ والعقربِ"
كما توجد تطرّقات مباشرة وصريحة تصف جمال الغِلمان والرجال والممارسات المِثلية في قصائد شعراء مشهورين آخرين، مثل صفيّ الدين الحِلِّيّ وأبان اللّاحقيّ وأبي تمّام.
ومن بين الأدلّة على ممارسة القادة والحكّام "المسلمين" أنشطةً مماثلة وفرةٌ من النصوص الّتي تمدح العلاقات مع الجواري والغِلمان والرجال. ومثل هذه السلوكيّات الّتي تُنسب، عادة، إلى الطبقة "الأرستقراطية" من المجتمع العربيّ، كان يُعتبر – في ذلك الوقت – صورة من صور الانغماس في متع الدُّنيا وملذّات الحياة، والّتي هي تتناقض مع صورة الزعيم الزاهد الورع الّتي توقّع المجتمع الإسلاميّ من قادته تبنّيها. ومع ذلك، تعكس النصوص الأدبية العربية تعاملًا مرنًا ومتحرّرًا مع الجنس، بما فيه الجنس المِثليّ.
هذا، وفي مكان ما، أرى إلى صعود الغرب كقوّة عظمى المسؤول المباشر والأساس عن مناهضة المِثليّين. فرغم أنّ الغرب هو من أتى، لاحقًا، بفكرة الحرّية الفردية وحقوق الإنسان، ورغم أنّ الرأسمالية الأمريكية هي الّتي ارتقت بالإنسانية إلى مستويات عالية من الرفاهية والوفرة والأمن، لم تشهدها البشرية في عشرات ألوف سنوات وجودها، ففي العصور الوسطى، وحتّى عهدنا القصير هذا، كان للغرب تأثيرٌ سلبيٌّ على مسألة الحرّية الجنسية، بما فيها في المجتمعات العربية الّتي وصل إليها.
في نصف القرن الأخير تمكّن الغرب من التقدّم نحو مجتمع أكثر فَردانية، ما جرّ إلى الانفتاح الجنسيّ، الّذي أدّى، بدوره، أيضًا، إلى قَبول أشكال مختلفة من العلاقات. لكنّ الطريقة الّتي أدخل بها الغرب هذا التعديل الاجتماعيّ مشوّهة، أيضًا؛ فقد وضع قضية الميول الجنسيّ في نمط هُويّة، تصحبها مطالب قانونية وتغيّرات في بُنية المجتمع والأُسرة.
إنّ خوف المجتمعات العربية من إدخال إيديولوجيا مجتمع الميم إليها، والّذي يتطلّب تغييرات بعيدة المدى، له أساس في المنطق، فهو استجابة مبرّرة – إلى حدّ ما – للطريقة التي يعرض بها الغرب الفكرة بتداعياتها المحتملة.
يحتاج المجتمع العربيّ إلى وقت لتحرير نفسه من التأثيرات الغربية التي تسرّبت إليه مع تفكّك الدولة الإسلامية. وللمضيّ قُدُمًا على المجتمع العربيّ، أوّلًا، تغيير موقفه من الفرد وحرّيته، ثمّ – وبشكل طبيعيّ، أيضًا – من النشاط الجنسيّ للفرد؛ وذلك بصورة مغايرة للتوجّه الغربيّ الّذي جعل منه نقاشًا حول هُويّة، ولم يتعامل معه كنشاط فحسْب. هذه الرحلة في اتّجاه التحضّر والتحرّر واجبة علينا، على كلّ عربيّ يحبّ نفسه وعروبته. لكنّها رحلة بطيئة وسيأتي التغيير فيها خُطوة تلو خُطوة، من القاعدة المبدئية العريضة الّتي ترسم معالم المجتمع، إلى قضايا أكثر تحديدًا في النهاية.
ما زال المجتمع العربيّ يخوض صراعًا حول الحدّ الفاصل بين النشاط الجنسيّ للفرد، كحقّ محفوظ له في الغرفة وراء أبواب مغلقة، وبين تحوّل هذا النشاط الجنسيّ إلى تعريفات جنسانية ونمط حياة. فهذا الحدّ الدقيق بوسعه تغيير بُنية المجتمع؛ وهو أمر يستحقّ، دائمًا، فحصه ومناقشته.
هذا، وما زالت الإنسانية تتساءل كيف سيبدو هيكل المجتمع بعد إزالة العقوبات الاجتماعية على الممارسات الخارجة عن الإطار الأحاديّ (رجل وامرأة في إطار عائليّ). ما زلنا ننتظر نتائج التجربة الاجتماعية الّتي بدأها الغرب. وفي أوج هذا الصراع العالميّ بين الليبرالية الاجتماعية والتيّارات المحافظة لم نرَ استنتاجات مُرضية بعد.
أنا، شخصيًّا، تعبت من التمايل على أنغام المزمار الغربيّ في هذه المسألة، الّذي قرّر، الآن، أنّ قضية مجتمع الميم هي القضية الأكثر إلحاحًا والأكثر أهمّية في المجتمعات العربية المحافظة! فليكن ذلك كذلك؛ لكنّنا لن نخوض في هذه المسائل وسط جوّ من العجلة والهلع، بل سنتّخذ القرارات الّتي تخصّ قيمنا وأنفسنا بأنفسنا، وذلك بعد حوار اجتماعيّ بناء وبقناعة تامّة؛ فلربّما سنتوصّل – في نهاية المطاف – إلى استنتاجات ومفاهيم جديدة لم تتمّ تسويتها بعد، حتّى بين الفصائل المحافظة والليبرالية في المجتمعات الغربية.
لربّما ما يشغلني أكثر من أيّ شيء آخر هو التشديد الغربيّ على أمور فكرية، لا تحتلّ – برأيي – رأس قائمة الأهمّيّات في وضعنا الحاليّ؛ فعندما نتحدّث عن أفراد مِثليّين في المجتمع العربيّ أوّل ما علينا فعله هو دَرْء الأذى والعنف بأشكاله عنهم. ففي مجتمع غائص في التعصّب والعنف والثأر، سلامة أجساد أولادنا من الميولات الجنسية المختلفة هي أهمّ من أيّ نقاش فلسفيّ. فإذا كان الله هو الرحمن الرحيم، وقد منحنا أولادًا هدية ونعمة لنا، بما يشمله ذلك من تحدّيات، فبإمكاننا، أوّلًا وقبل أيّ شيء، حمايتهم واحتضانهم.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com